مجلة الرسالة/العدد 554/مسابقة الأدب العربي
مجلة الرسالة/العدد 554/مسابقة الأدب العربي
2 - أخبار أبي تمام
للدكتور زكي مبارك
أقول مرة ثانية، وسأقول ألف مرة، إن هذا الكتاب شغلني وألهاني عن المهم من شؤوني، ولو كان الورق موجوداً على نحو ما كان قبل الحرب لرجوت وزير المعارف أن يشير بتوزيعه على جميع التلاميذ، ليخلق فيهم الإيمان بالأدب، وليشعرهم بقوة الروح عند أسلافنا الأمجاد
وقد كتب الأستاذ الجليل إسعاف النشاشيبي مقالا عن هذا الكتاب في مجلة الرسالة في أعقاب ظهوره، فليراجع الطلبة مجموعات الرسالة بمكتبات المدارس الأميرية لينتفعوا بمحصول ذلك المقال
مدرسة أبي تمام
نواجه الموضوع بعد تردد وتهيب، لأنه أخطر من أن يدرس بمثل هذه السرعة في الدرس، ولأن أبا تمام أعز من أن نطوف بأشعاره متعجلين
كانت النية أن أؤلف كتابا عن عبقرية أبي تمام بعد كتاب عبقرية الشريف الرضي، ولهذا حججت إلى مقبرة بالموصل لأسلم عليه، فعليه وعلى روحه الفنان ألف تحية وألف سلام!
وهل أنسى ما صنعت مع هذا الشاعر قبل سنين تزيد على العشرين؟
أنا أذكر أن في كتاب البدائع حديثاً هو عتاب على الحكومة العراقية في اهتمامها بقبر أبي تمام، وإغفالها نشر ديوان أبي تمام بصورة تليق بمكانته في التاريخ الأدبي
ويظهر أني أقول أكثر مما أفعل، فقد مضت أعوام ولم أؤد الواجب نحو هذا الشاعر العظيم، فلم يبق إلا أن أوجو مدير جامعة فاروق الأول أن يعفي الأستاذ محمد عبده عزام من التدريس سنة أو سنتين ليصحح ديوان أبي تمام تصحيحاً يرفع عنه آصار اللبس والتحريف
ولأبي تمام علينا حقوق، فقد نشأ بمصر بجامع عمرو ما سمع، فنبغ روحه نبوغا سيبقى على الزمان إلى أبعد الآ وأين الموضوع الأصيل؟
أراني أهرب من مواجهته، كأنه فوق ما أطيق!
أنا أريد أن أقول إن لأبي تمام مدرسة شعرية، وهي المدرسة الثانية في الأدب العربي، وهي أوضح من المدرسة الأولي، والكلام هنا مقصور على العهد الإسلامي، أما العهد الجاهلي فله مدرسة يختصم في رياستها شاعران عظيمان، هما زهير ولبيد، ومع احترامي لزهير صاحب الحوليات فأنا أعتقد أن معلقة لبيد هي أعظم قصيدة جاد بها الروح العربي، وأنا أتعجب من أن يتناسى مؤرخو الأدب منزلة لبيد مع أنه أهظم من امرئ القيس بمراحل طوال
أترك هذا الاستطراد وأذكر أن المدرسة الأولى في العصر الإسلامي كان فيها فصلان أساسيان: أحدهما خاص بالثورة على الأخيلة البدوية بإشراف أبي نواس، وثانيهما خاص بالفن الشعري بإشراف بشار، وهو أعظم الفنانين بين القدماء
ولا موجب للنص على منزلة مسلم بن الوليد، فهي أوضح من أن تحتاج إلى إيضاح، فقصيدته الدالية هي أشرف ما جاد به عصر بشار وأبي نواس
ومسلم بن الوليد هو الصورة التي تأثر بها أبو تمام؛ فقد حدثنا الأستاذ محمد المهدي في محاضراته بالجامعة المصرية أن أبا تمام وضع المصحف بين يديه وأقسم أن لا ينال طعاماً ولا شراباً إلا بعد أن يحفظ ديوان مسلم بن الوليد
ومن مجد مصر أن ديوان هذا الشاعر نشر أول مرة في مدينة دمياط
أبو تمام العربي
أراد ناس أن يشككوا في عروبة أبي تمام، ومنهم الدكتور طه حسين، والدكتور طه رجل منصف، ولهذا أرجوه أن يسمع حديثي
التشكيك في نسب أبي تمام بدعة قال بها المتأخرون من المستشرقين، وهي بدعة لا تستند إلى أي برهان، فقد أجمع القدماء على أن أبا تمام هو الطائي الأول وأن البحتري هو الطائي الثاني
أبو تمام العربي هو رئيس تلك المدرسة الشعرية، وهو الرئيس الذي عجز عن مجاراته ابن الرومي شعر العرب للعرب، فما ابن الرومي وما شعره وقد عجز عن الظفر بالموسيقا الشعرية؟
أبو تمام العربي هو رئيس المدرسة الثانية في العصر الإسلامي، وقد جلجل شعره وصلصل، وامتد صوته إلى آفاق يعجز عن اجتيازها الخيال
وأبو تمام مظلوم أقبح الظلم في هذا الزمن الظلوم، فقد قال أحد الناس إن شعره من رأسه لا من قلبه، وقال آخرون إن شعره خال من تعدد الألوان
والحق كل الحق أن فن أبي تمام جني عليه، فقد تصوره بعض بني آدم رجلاً لا يحسن غير التنميق، مع أن صياغته الروحية تفوق صياغته الفنية، ومع أن معانيه فوق ألفاظه بمراحل بعيدة، وإن اشتهر بزخرفة الألفاظ
هذا الرجل زلزل معاصريه وأوقعهم في فتن دامية، ولم يمت إلا بعد أن صرع خصومه وأرداهم أعنف إرداء
حدثنا الأستاذ محمد المهدي في محاضراته بالجامعة المصرية أن أبا تمام أخمل ثلثمائة شاعر في زمانه بلا قصد وبلا نية، لأنه كان نصيراً لجميع الشعراء، فما قال قائل إن هذا الشاعر العظيم وجه إلى أحد معاصريه أي إيذاء، لأنه كان غنياً بفضله كما قال أستاذنا محمد المهدي
وروح أبي تمام خلق جولة من الأدب، ولعله السبب في قتل الشريف الرضي وأبي الطيب المتنبي، فقد أراد هذان الشاعران أن يخملا اسمه بجهود عنيفة لا يستطيعها إلا من يكون في مثل قوة الرضي والمتنبي
وأنا متردد في الفصل بين هؤلاء الشعراء، فالشريف الرضي كانت له غاية واضحة هي السيطرة على الخلفاء في بغداد، والمتنبي كان يريد أن يظفر بمكانة في الديار المصرية، كأن يكون خليفة دعبل في مدينة أسوان
لم يلتفت أبو تمام إلى شيء من أعراض الدنيا الفانية أو الباقية، وإنما التفت إلى الفن الشعري ليرقم اسمه فوق جبين الخلود
أبو تمام مظلوم، فما التفت أحد إلى شعوره بالحياة، ولا عرف أجد أن اهتمامه بالألفاظ لا يقاس إلى اهتمامه بالمعاني
والجاهلون من مؤرخي الأدب العربي لا يعرفون إلا سمة واحدة من سمات أبي تمام، وهي غرامه بالزخرف اللفظي، مع أنهم سمعوا أنه كان من رجال المعاني، بدليل أنه صنف (ديوان الحماسة) تصنيفاً يشهد بأنه من أصحاب الأذواق.
إلى طلبة السنة التوجيهية
أنا تعبت في توجيهكم يا أبنائي، ولا يعزيني إلا الشعور بأنكم ستنهبون جوائز وزارة المعارف
هذه المقالات هي المفتاح للخزانة التي يحرسها جنود صناديد، وقد كسرت تلك الخزانة بيدي لأقدم إليكم أسئلة الامتحان، ولوزير المعارف أن يعاتبني على إذاعة أسئلة الامتحان
تذكروا ثم تذكروا أنكم ستسألون عن مدرسة أبي تمام الشعرية، وأنكم ستسألون عن العصر الذي عاش فيه أبو تمام، وأنكم ستسألون عن شعور أبي تمام بروح الوجود
لا تخافوا من الأسئلة ولا من الأجوبة، فالمصححون آباؤكم الروحيون، وهم سيفرحون بالقليل من الصواب، ولو جاء في سطرين اثنين
وزارة المعارف تنتظر من ينهب جوائزها الغالية، فانهبوها، لتفرح بكم، كما فرح الطائر الذي تحدث عنه ميسيه في إحدى قصائده الخوالد. انهبوا وزارة المعارف، انهبوها، فهي تشتهي أن تنهبوها. وما تحب وزارة المعارف إلا أن يكثر الطامعون في جوائزها الغالية.
زكي مبارك