مجلة الرسالة/العدد 553/منصب الوزير في مصر الفرعونية
مجلة الرسالة/العدد 553/منصب الوزير في مصر الفرعونية
للدكتور باهور لبيب
المدرس بجامعة فؤاد الأول سابقا
جرت عادة ملوك مصر الأقدمين أن يلقوا عبء الإجراءات الحكومية من إدارية وقضائية ومالية وحربية على عاتق أكبر موظف في الدولة وهو الوزير، وكان يسمى باللغة المصرية القديمة (ثات)
وكان من يشغل منصب الوزير له من الأهمية والسلطان قدر كبير، وذلك لأن الوزير كان هو رجل الدولة الأول الذي يلي الملك مباشرة في الأهمية والنفوذ والسلطان. ولأن الوزير كان بمثابة حلقة الاتصال بين الملك وبين الإدارات المختلفة، سواء في العاصمة أو في الأقاليم
وبسب هذه الأهمية التي كانت للوزير كان ينتخب من أعرق العائلات المخلصة للعرش المتفانية في ولائها وخدمتها له، بل كان يعين أحياناً من أولياء العهد أو أبناء الملك أو أقارب الملك في بعض العصور، وفي عصور أخرى كانت وظيفة الوزير وراثية. وفي ظروف خاصة جمع بعض الوزراء بين منصب الوزير ومنصب رئاسة كهنة إله الدولة الرسمي
وأقدم من ذكر من الوزراء وزير الملك مينا (تعومر): الموحد الأول لمصر القديمة ومؤسس الدولة القديمة (عصر التوحيد الأول)، وقد جرت العادة في العصور الأولى من تاريخ الحضارة المصرية القديمة أن يكون وزير واحد للملك والدولة
وبابتداء عصر التوحيد الثاني (الدولة الوسطى) نجد على الأرجح ظاهرة جديدة في تاريخ ملوك مصر الأقدمين، وهو أن اثنين من الوزراء يعاونان الملك في وقت واحد. ولكن نصوص هذا العصر لا ترينا تحديداً للاختصاص، ولكن من الثابت أن الشئون المصرية القديمة للمملكة الفرعونية قد زادت في هذا العصر نتيجة لازدياد الفتوح الأجنبية، مما يدل على أن الحاجة كانت ماسة لأكثر من وزير
أما في عصر التوحيد الثالث (الدولة الحديثة)، فقد وصلتنا نقوش ونصوص كثيرة تعطينا فكرة عن مهام الوزير، فقد كان لمصر وزيران أحدهما للشمال، واختصاصه المنطقة الت تمتد من شمال أسيوط حتى البحر المتوسط؛ والآخر للجنوب، ومنطقته تمتد من جنوب أسيوط حتى حدود مصر الجنوبية. وكان مركز الأول عين شمس أو منف أو تانس (بر رمسيس)، والثاني كان مركزه طيبة
وأهم المعلومات عن منصب الوزير يمكن استقاؤها من النقوش والنصوص المدونة على جدران مقبرة رحمي رع الذي كان وزيراً للملك تحتمس الثالث، وأوائل عصر الملك امنحتب الثاني، فتستنتج منها أن الملك هو الذي له حق تعيين الوزير. وكما أن الملك له حق تعيين الوزير فله الحق أيضاً في عزله كما دلت نصوص أخرى على ذلك
ومن الطريف أن الملك تحتمس الثالث عند تعيينه رحمي رع في منصب الوزارة للجنوب أسدى إليه الإرشاد ونصحه نصائح جليلة. وقد دلتنا النصوص على أن هذه التعليمات التي كان يقولها الملك لوزرائه كانت تقليدية، إذ وجدناها تقال عند تعيين كل وزير. فقد عثرنا في مقبرة الوزير أوسر، خال، الوزير رخمي رع، على نصوص تؤيد ذلك، كما وجدناها قد وجهت إلى الوزير حابو وزير الملك تحتمس الرابع. من ذلك على سبيل المثال قولهم: (كن يقظاً لكل ما يجري في الوزارة. وإذا أتاك مشتك فيجب عليك أن تبحث بنفسك في شكايته، عاملاً حسب القانون ولتتبع الحق ولتعلم أن غضب الإله يحل على من يؤثر المحاباة. . . لتكن معاملتك لمن لا تعرفه مثل معاملتك من تعرفه، ولمن هو قريب منك مثل من هو بعيد عنك). وزيادة على تعليمات الملك لوزيره بأن يحكم بالعدل، وبالا يحابي أحداً كان يرشده إلى ما يجب اتخاذه يومياً. فيبدأ الوزير عمله في كل صباح بأن يقابل الملك ويعرض عليه المسائل الحكومية لكي يبدي فيها رأيه. ومن هذا نرى أن الملك كان هو الرأس المفكرة العليا التي تدير سياسة البلاد
وفي أثناء مقابلة الوزير للملك يكون رئيس المالية منتظراً عند إحدى ساريات القصر. فإذا خرج الوزير تداول معه في أمور الدولة. ثم بعد ذلك يدخل رئيس المالية على الملك ويعرض عليه الشئون المالية وما اعترى خزينة الدولة من نقص أو زيادة (وطبيعي كانت في شكل مواد أولية كالأخشاب والخضر والجلود والأقمشة وما أشبه). وبعد ذلك يأمر الملك بفتح دواوين المصالح الحكومية. مما يدل على أن الملك كان يرشد كل وزير على ما يجب أن يبت فيه من أمور تهمه وتهم الدولة المصرية القديمة وفضلاً عن إشراف الملك علي وزير المالية، كان أيضاً تحت رقابة ورئاسة الوزير الأول للدولة الذي كان يعتبر عندئذ كرئيس الوزراء الآن. إذ دلتنا النصوص على أنه كان يكتب التقارير للوزير الأول باستمرار ليطلعه على الحالة المالية العامة للدولة
وقد كان منصب للوزير الأول للدولة في هذه العصور القديمة من الأهمية الكبرى والمكانة العظمى ما لمنصب رئيس الوزارة في العصور الحالية. فقد كان الرئيس الأعلى للقضاء. ففي مقبرة رحمي رع تجد رسماً لمجموعة قوانين مطوية في أربعين ملفاً بردياً محفوظة داخل أغلفة من الجلد وموضوعة أمام الوزير بصفته القاضي الأعظم (ساب سبختي) وهو جالس في دار المحكمة في إحدى الجلسات العلنية. (مع ملاحظة أن المرجع الأخير للمسائل الجنائية كان الملك، والمرجع الأخير في المسائل المدنية كان الوزير)
كما كان وزير الحربية؛ وبصفته هذه كان يشرف على الجيش والأسطول، وبمعنى آخر كان الرئيس الأعلى للجيوش البرية والبحرية. وكان لمصر أسطول عظيم سطر في سجل التاريخ انتصارات كبيرة. وكان الوزير أيضاً المشرف على الشئون الداخلية، وبصفته هذه كان رئيساً للبوليس في منطقة اختصاصه ومحافظاً للعاصمة
ثم كان أخيراً المشرف على الشئون الزراعية.
نرى من كل ما سبق مبلغ ما كانت عليه مصر القديمة من رقي ومدنية في الحضارة، وترتيب وتنظيم في الشئون الإدارية، ودقة ومهارة في تكييف الأمور والتصرف فيها
(عين شمس)
دكتور
باهور لبيب