مجلة الرسالة/العدد 552/مرسلات مع الريح

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 552/مرسلات مع الريح

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 01 - 1944



أُسامة

للأستاذ إسماعيل مظهر

وأقبل الشيخ عُمران ذات صباح يجرْ رجليه جرَّا فيثير عجاجةَ من تراب الثرى، فبادرني بالتحية، ثم ارتمى على المصطبة كأنما ينفض عن كاهله حملاً ثقيلاً ينوء به. وكان في عينيه حزن عميق، رغم ابتسامة افترَّ عنها ثغره، ولكنها كانت تعبر عن حزن أعمق من ذلك الذي لاح في نظراته وشاع في تقاسيم وجهه. وكثيراً ما يكون الابتسام عن حزن دفين، تجمد معه العين ولكن القلب في بكاء. ثم أطرق ومضى يحرك أصابعه الهزيلة فوق حبات مسبحته الكبيرة، ويتمتم بكلمات غير بيِّنة كأنه يناجي نفسه بالمعاني التي كانت تجيش في صدره

- كيف بي لا أرى الدنيا كما كنت أراها منذ أيام؟ لقد تَغَّيرت فيها كل شئ وانقلب فيها كل مَعَنى! فالوجوه التي أراها ليست هي الوجوه التي كنت أعرفها؛ والكلمات التي تطرق سمعي لا تؤدي في نفسي ذات المعاني التي كانت تؤديها من قبل؛ والزمان والعمر والحياة! تلك التي مضت تغمرني بالأمل وتشيع في نفسي معاني الحسن وأفانين الجمال، كيف حالت تلك الألوان الزاهية الغَضَّة؟ وكيف انتهى الأمل ومات الحُسن وذهب الجمال؟ في لحظة واحدة ماتت الدنيا في نفسي بكل ما غرست فيَّ من المعاني الأولى! والناس والمجتمع ونظام العيش! كيف أصبح الناس في عيني كأنهم القُرود الزُّعر يهيمون في أودية الأحلام! وكيف بالمجتمع وقد انقلبت نظرتي فيه، فإذا به موكب من الناس ليس فيه إلا التزوير على الطبيعة، والتدليس على الفضائلَ. وكيف بنظام المعايشة وقد بانت لي في لحظة واحدة خفاياه، فإذا به الكفران بكل ما كنت أتخيل من المعاني التي لا تزدهر الحياة إلا بها

وكان يتكلم وناظراه إلى السماء، كأنه يأنف أن يخاطب أهل الأرض. كنت تظن أنه يناجي أشباحاً وخيالات تراءت له في الأفق البعيد، أو أنه يقرأ هذه المعاني من كتاب صفحاته السماء

كان قد مضى بضعة أسابيع والشيخ عمران بعيد عن ندوتنا الريفية، فلم نسأل عنه ولم نبحث وراءه. لأن هذا الشيخ المحنك له وقفات عن الاتصال بالناس، وغيبات قد تطو وقد تقصر، يخلو فيها بنفسه، بعيداً عن جلبة القرية، فيظل أياماً أو أسابيع يخرج من بيته مع الغراب، ويأوي إليه بعد أن يموت أهل القرية تلك الميتة الصغرى. وكنا نحترم في هذا الشيخ الوقور نزعته تلك، فلا نحاول أن نقطع عليه خيط أحلامه. رأيته مقبلاً، فتوقَّعْت أن أرى تلك الابتسامة الفلسفية التي عوِّدت أن أراها مرتسمة على شفتيه، وذلك البريق الواضح الذي ينبعث من عينيه. ولكن الابتسامة كانت عن حزن، وذلك البريق عن ريبة من أمر الدنيا. ولكن ما وراء ذلك؟

هذا شيخ قد رمته الدنيا بأرزائها، فسلبت منه الثراء وسلبت مع الثراء هدوء النفس، فثار على الدنيا وعلى أهل الدنيا، وعلى أهل اليسار منهم خاصة. فإذا كلمك فيهم، فإنما أنت تسمع لزعيم من زعماء الاشتراكية، أو لصعلوك متطرف من صعاليك الدولية الثالثة

ورابني منه أن يبادرنا بتلك الكلمات بعد تحية قصيرة من يديه المُرْعَشتين، فتوقعت أن داهية أُخرى حلت بذلك الشيخ لعله فقد البقية من ماله، أو اعتدى عليه أحد المفاليك، أو أغتصبه سرى من السّراة شيئاً من طينه القليل. غير أن ذلك كله لم يكن شيئاً جديداً عليه، وتعابير الحزن الشائعة في ملامحه كانت ولا شك تنم عن سبب أعمق من جميع هذه الأسباب، وأمعن في الإيلام، وأعمل في تحريك هواجس النفس

- ما وراءك يا شيخ؟ لقد طالت غيبتك، ولم نشأ أن نعكر عليك صفو تأملاتك التي تسعد بها في حقلك إلى جانب ساقيتك وأشجارك؛ فكيف أنت وكيف أولادك؟

وكأن السؤال عن أولاده قد حرك جميع أوتار نفسه، فتطلع نحو السماء وقال: (حمداً لك يا رب!)، ولكن دمعتان أطلنا من حدقتيه، فدل بريقهما على كارثة لم يألفها عمران وقد حطمته السنون

- أولادي كما تعهدهم، لم يحدث بهم حدث غير مألوف في هذا الحياة. شاءت الطبيعة أن تستأثر بواحد منهم، فانتزعت من قلبي في يوم وليلة أسامة الصغير، فقمت نحوه بالواجب الذي يقوم به الأحياء للموتى في العادة، وأسلمته للتراب، إلى سفر اللانهاية، إلى القرون ثم القرون تتوالى عليه في حفرته تلك، في ظلام الأرض، وراء تلك الحجارة الباردة المرطوبة؛ بل وراء الأبد والأزل، وراء السعادات والشقاوات، وراء الأحقاد والضغائن، وراء الآلام والأحزان، وراء الجهالات والحفائظ، بل وراء كل شئ، حتى وراء الأقدار. ثم ودعته بقلبي لا بشفتيَّ، وعدت أدراجي مشتت النفس خائر القوى مضطرب الوجدان، أضرب في فلوات الوهم: أسائل نفسي ما الموت وما الحياة؟ ولكن. نعم ولكن. . .

ثم أمسك عن الكلام، ودموعه تنهمر قطرات من الحزن والأسى البالغ العنيف

- ولكن ماذا؟ لقد أثرت شجوني أيها الشيخ، وحركت كوامن نفسي، وأثَرْتَ في صدري ذكريات كانت نائمة

- ولكن. نعم، ولكن ليست البلوى في الموت، ولا المصيبة في ترك الدنيا. الداهية كل الداهية في الحياة

ومضى ينكث في الأرض بمخصرة كانت في يده، ويرسم فوق الثرى رسوماً، أشبه بتلك التي يرسمها الأطفال على رمال الشاطئ، لا تلبث أن تمحوها الأمواج. ثم قال:

- ولأي شئ تثور شجونك وتتحرك لواعج نفسك؟ إنما الشجن شجني، والحزن حزني، والبلوى بلواي؛ والعزاء بالزمن، والسلوى بالاستسلام للقضاء. فلست في حاجة لأن أسمع تلك الكلمات الجوف التي اعتاد الناس أن يُعَزُّوا بها عن المصيبة، فإن إثمها أكبر من نفعها، فتزويرها واضح لا يحتاج إلى دليل، والتدليس فيها بيِّن لا يعوزه البرهان. والناس هم الناس، والدنيا هي الدنيا، والأقدار تسِّيرنا في ليل معتم من الحوادث، لا نستطيع أن نرجع إلى ما فات منه، ولا أن نَرسو فيه بأرض. لجٌ مائج، والسفينة تحملنا كرهاً، فتسير رخاء حيناً، وحيناً تلاطمها الأمواج

- إن هذه لفلسفة جديدة، بعث الحزن معانيها في نفسك، وأثار الشجن تفاصيلها في وعيك. فإني عهدتك على غير ما أنت، صباراً غير بئوس، جلداً غير متخاذل، مرحاً عند الخطب قلَّ أو جلَّ

وكانت مخصرته ما تزال في حركتها ترسم في الثرى دوائر ومربعاتَ، وزوايا ومنحنيات، ولوالب وإهلجات، فكانت تلك الرقعة المتخاذلة المعاني، المتداخلة الصور، صفحة كاملة تقرأ فيها دخيلة نفسه، وحركات وجدانه، ولواعج قلبه. ومضت المخصرة ترسم ثم ترسم، ومن ورائها لسانه يتحرك:

- كلا يا بني هذه الفلسفة قديمة، ولكن معرفتنا بها جديدة. تعلمنا إياها المصيبة إذا جلت، والقارعة إذا نزلت. فمن فطن لها فطن للحياة، ومن ضل عنها عاش العمر معتم البصيرة أعمى القلب. هذه الفلسفة يا بني قطعة من الحياة ذاتها، فكيف تكون جديدة علينا؟ وإنما تكون معرفتنا بها أدق، ووقوفنا عليها أتم، كلما كانت فوادحنا أعظم، وكوارثنا ألأم وأشأم. إن كل مرائي الحياة ومجاليها ومناظرها، أشياء إذا مضى عليها قليل من الزمن مرت على خواطرنا كالأحلام، لا يبقى منها إلا الحقائق المريرة؛ وكل الحقائق مرة أليمة، والآلام أشد حقائق الحياة مراراة؛ تبقى في النفس آثارها، فإذا غيَّب الزمن بعضها وعملت فيها دورة الليل والنهار حتى كادت تنضاف إلى وادي الأحلام، فإنها بطبعها تكون أوضح أحلام الحياة، وأشدَّها بياناً وأعمقها أثراً، وأبقاها مع التذكر أطول الزمن. والحقيقة كالجبل السامق تتسلقه على درج من الألم والحزن والنصب، وكلما صعَّدت فيه زادت آلامك، وتضاعفت أحزانك، حتى إذا بلغت القمة أشرفت منها على محيط الدنيا، فالسماء من فوقك تجوبها ذكاء بكل عظمتها، والأرض بوديانها وشعابها وغاباتها منبسطة تحت قدميك، ولكن الأسف كل الأسف أن الحقيقة طريقها الألم، طريقها الحرمان، طريقها الأحزان تمزق نياط القلب، وتبدد قوى النفس وتهد من بناء العمر. . . ما أجلها وما أقساها

- أما الزمان، فذلك المجهول الذي نعامله، كما يقول فيلسوفنا المعاصر. هو ذلك التيار الهادئ المنحدر إلى لا نهاية. هو ذلك العقد النظيم من الحركة الدائمة. هو ذلك الكائن الموهوم الذي لا يشعر بوجودنا ولا يأبه بآلامنا. ونحن لجهلنا نعامل هذا الزمان، نعتب على الزمان، ونغضب من الزمان، ونتبرم بالزمان. وما الزمان في مفهومنا العادي سوى الظرف الذي نعيش فيه. وما الظرف الذي نعيش فيه إلا تصرف القدر وتصرف ذلك الناس الذين نعايشهم. أما القدر فذلك الذي لا نعرف، هو ذلك العالم المغيب. أما الناس فهم الناس، أولئك الذين يعيش سوادهم دسيسة عليك في الحياة، والدسيسة كما يقول شكسبير تجد حماها ومستقرها في شيئين: بشاشة الوجه، ومعسول اللفظ فقال:

فأمَّا إن أردت حًمِى أميناً ... فخلف بشاشة المُتَبَسِّمينا

وتحت اللفْظ يقطر منك وُداً ... هنالك تكمنين فتختفينا

- تنزل بك الكارثة، وتحل بك القارعة، فيواجهك الناس وعلى ألسنتهم تلك الألفاظ المحفوظة عن ظهر قلب، تتحرك بها شفاههم، ولا تعيها قلوبهم وقد تفجع في مالك أو عرضك، فتسمع منهم جملاً وقفت على ذلك الظرف. وقد يموت لك ولد كما مات ولدي، فيعزونك بجمل أخرى نقشت على قلوب من حجارة وهي جميعاً صلوات ودعوات بالرحمة وطلب الصبر. وإنما هي من الألسنة لا من القلوب والصلاة التي لا تصدر من القلب لن تجد إلى الله طريقاً. وإذا ضلت الصلاة طريقها إلى الله فما جدواها؟

- لقد مات ذلك الصغير، ففي ذمة الأزل، وفي ذمة اللانهاية، وفي الزمان ينساب عليه انسياب الماء اللين الهادئ إلى لا غاية. وما موته إلا ظروف الزمان. وما أظلمنا إذ نعتب على الزمان وعلى ظروف الزمان. وإنما أعبر بالزمان عن أولئك الذين كنت أتوقع أن أرى في أعينهم دمعة واحدة تترقرق على فراقه؛ فإذا بهم ينظرون في وجهي بعيون جامدة النظرات، وقد عقدت ألسنتهم حتى عن لوك تلك الجمل المحفوظة. وما آسف على شئ، إلا أن ذلك الظرف قد حرك في في نفسي تلك الأفعى الجبارة، وكانت ما تزال لحسن حظي وسنانه نائمة: حرك الحقد والضغينة والقطيعة. كانت نفسي كالبركة الهادئة النائمة في أحضان طبيعة وادعة، إذا مسها النسيم تحركت أمواجها حركة لطيفة تمر بخاطري كحلم لذيذ؛ فلما هبت عليها هذه العاصفة تعالت أمواجها وتلاطمت حتى كدر ماؤها، واحتمل زبداً رابياً تهدر من تحته براكين الألم فتزيد ثورتها عنفاً وشدة، وذلك هو الأجر الذي ربحت بموت قطعة من نفسي: ألم القلب، وقطيعة الناس، وفراق الأبد!

أمنتك يا فراق وربَّ يوم ... حذرت لو أنه نفع الحذار

أخذت فلم تدع شيئاً عليه ... يخاف أسى ولا يرجى اصطبار

حبيب خنتني فيه ودار ... وللناس الأحبة والدِّيار

- والعمر ما هو؟ هو على التحقيق مقياس الزمن بين ساعة مولدك وساعة مصرعك، ولكن الواقع الصحيح أن عمرك قد يطول وإن قصر مقياسه الزماني، وقد يقصر وإن طال مقياسه ذاك. فليس العمر هو الأيام والسنون، بل هو اللحظات والساعات، تقيس عليها آلامك ومسراتك.

فإن طال ألمك فأنت قصير العمر وإن امتد زمنك، وإن اتصلت مسراتك فأنت طويل العمر وإن قصرت أيامك. ولكن ماذا جنبنا من اللحظات والساعات

وكم ساعة آلمني مسها ... وأزعجتني يدها القاسيه

فتشت فيها جاهداً لم أجد ... هنيهة واحدة صافيه وكم سقتني المر أخت لها ... فرحت أشكوها إلى التاليه

فأسلمتني هذه عنوة ... لساعة أخرى وبي ما بيه

ويحك يا مسكين هل تشتكي ... جارحة الظفر إلى ضاريه

- والحياة ما هي؟ لجهلنا في الظاهر، ولغرورنا في الحقيقة، نزعم أنها ذلك القبس الذي هبط من نور السموات إلى سواد هذه الأرض. ولو أنها كانت من السماء لما دنست ذلك الدنس، ولا كدرت تلك الكدوة. بل لكانت نوراً صرفاً وحباً محضاً، ولرجعت دوماً إلى أصولها السماوية، فكانت صفواً زلالاً، وسحراً حلالاً

- الحياة. هي تلك المأساة العظمى التي يمثلها القدر على مسرح سعته الأرض. نأتيها كرهاً، ونزاولها كرهاً. نشعر بأن لنا اختياراً هو إلى الجبر. ونعلم بأن فينا جبراً هو إلى الاختيار. ونأبى إلا أن تكون مختارين إذا لذ لنا أن نختار، ونأبى إلا أن نكون مجبرين إذا طاب لنا الجبر. وهذه الفلاة، فلاة الجبر والاختيار، هي إحدى مصائب الحياة العظمى، فإذا أضفتها إلى كارثة الوجود ذاته، رأيت طرفاً من نقائض هذه الحياة التي تدعى أنها من أقباس السماء وما أبعدنا عن السماء أصولاً

- نولد رغم أنوفنا ونموت رغم أنوفنا. وبين المولد والممات. تتوالى الصور وتتالى الأحداث؛ فنمضي ناظرين إلى المسرح، وأفواهنا مفغورة مشدوهين عجباً. وكأننا نسأل لم المولد ولم الممات ولم ما بينهما؟ ونشعر بالعجز عن الجواب فنمضي مع الماضين نغذ السير ساعة وندلف أخرى. ولكن إلى الهاوية. . . إلى اللانهاية. . . إلى سفر الأبد الطويل. . . إلى الفوهة التي تبتلع ثم تبتلع، نهمة غرثانة جائعة

ولمَّ الشيخ عمران فضل ردائه والتف بعباءته وحيانا بيده. ثم شرع يمشي بقامته المديدة وخطواته الوئيدة المتزنة، ووجهه في هذه المرة نحو الأرض، كأنما مل مخاطبة السماء. فخيل إلى أنه يبحث في منكب من مناكبها عن تلك الفوهة الغرثانة الجائعة، يمضي نحوها ثابت القدم. . . مطمئن القلب. . . راضي النفس. . . فيلقي بها عبء شجونه، ويودعها قلبه بأسراره وآلامه وأحزانه، ولسان حاله يقول: يا ابن الأرض: إنما إلى الأرض تعود. هذا أول السفر وآخر المعاد.

إسماعيل مظهر