انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 550/في الرفيق الأعلى

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 550/في الرفيق الأعلى

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 01 - 1944



للأستاذ دريني خشبه

لن أعفيك يا قلمي الحبيب من أن تذرف دموعك صلاة خالصة على فخر الكائنات، بعد هذه القرون الطوال التي غبرت منذ أذرفت عيون المؤمنين حينما لحق الروح الكريم بالرفيق الأعلى

ما كان أجلها لحظات تتصل فيها الأرض بالسموات!

إن لم يكن بد من رفيق في هذا السفر الطويل فما أختار لك! إلا قلبي ودموعي!

لا عليك يا قلمي الحبيب، فقد تستطيع أن تصم أذنيك عما يجلجل في تيه الزمن، من هتاف المجد، أو أنين الهزيمة. . . في الشرق والغرب، والشمال والجنوب، فما أريد لك إلا أن تصل سالماً إلى ما وراء هذه السنين الألف والثلاثمائة والخمسين والإثنتين، لتشهد فخر الكائنات محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فوق ناقته بأرض عرنة يخطب المسلمين، بل يخطب البشرية كلها، قائلاً فيما يقول:

(أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحثكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير. أما بعد أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا!)

لشد ما وجفت قلوب المؤمنين لدى هذه الكلمة التي أرسلها فخر الكائنات بأرض عرنة في حجة الوداع التي كره بعضهم أن يطلق عليها هذا الاسم فدعاها حجة الإسلام وحجة البلاغ!

لقد نظر المسلمون بعضهم إلى بعض وقد غشيهم من تلك المبادأة بالوداع غاشية. . . ألا ترى إلى الرسول الكريم يتلو عليهم بعد صلاة العصر في اليوم نفسه ما أوحي إليه ثمة من قول الله تعالى:

(اليوم أكملت لكم دينكم وأتمت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) فيسمعها أبو بكر فيبكي، لأنه يضيفها إلى الكلمة التي قالها الرسول حينما زالت الشمس وهو قائم مقام إبراهيم يخطب، فيعلم أنهما أمارتان من أمائر الفراق!

ثم ما هذه النوق الثلاث والستون ينحرها فخر الكائنات بمنى يا رفاق؟! أتكون عدد الدرج إلى الرفيق الأعلى؟ أليس قد بلغ الرسول الكريم عامه الثالث والستين من التقويم الهلالي؟ أليست هذه هي الأمارة الثالثة؟ ليبك أبو بكر إذن، ولتبك الأجيال كلها معه. . . فوالله لقد ظهرت الإشراط قبل هذا كله. . . لم يكن النبي قد حج قط، فأمر هذه السنة أن يحج ليبين للناس مناسكهم؛ وكان يعرض القرآن على صاحبه جبريل مرة واحدة كل سنة في رمضان، لكنه عرضه عليه مرتين في هذه السنة؛ وكان يعتكف العشرة الأواخر من رمضان لا يكلم الناس إلا رمزاً، فلأمر ما اعتكف عشرين هذا العام؟ أليس لأنه العام الأخير؟

ويحك أيها الرجل محمد بن سيرين فيم رجوت أن تكون قراءتك هي العرضة الأخيرة؟ أكان قلبك يحدثك كما حدث ابن عباس قلبه حينما نزلت: إذا جاء نصر الله والفتح، فقال: داع من الله ووداع من الدنيا!. . . أجل. . . فهي العلامة التي حدث الرسول عنها عائشة، قال: إن ربي كان اخبرني بعلامة في أمتي فقال إذا رأيتها فسبح بحمد ربك واستغفره، فقد رأيتها. . . وقرأ إذا جاء نصر الله. . .

لله هذا المدلج إلى البقيع متكئا على ذراع مولاه أبي مويهبة حتى إذا بلغ مراقد السابقين إلى الجنة، الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه، توقف قليلاً ثم قال يكلمهم: السلام عليكم أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى. . . ثم أقبل على مولاه يقول له: يا أبا مويهبة إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، خيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة فاخترت لقاء ربي والجنة؛ فيقول أبو مويهية: بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فيقول له فخر الكائنات: لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي والجنة!

ثم يأخذ في الاستغفار للنائمين في التراب، أستغفر الله، بل للنائمين في روضات الجنة، أولئك الذين استجابوا لنداء السماء الذي يسره الله بلسان محمد! فيا للوداع ويا للوفاء يا رسول الله!

أهذا فقط؟ كلا يا رفاق، القلم والقلب والدموع! فقد حدث عقبة بن عامر الجهني قال: إن رسول الله صلى على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات ثم اطلع المنبر فقال: إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض وإني لأنظر إليه وأنا في مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها ففي هذا الكلام معنى مما خاطب به رسول الله شهداء البقيع فقد هنأهم بما أصبحوا فيه مما أصبح الناس فيه. . . وذكر إقبال الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها. . . وهو بعد صلاته على شهداء أحد يخطب الناس فلا يخشى عليهم أن يشركوا، بل يخشى عليهم الدنيا أن ينافسوا فيها!

كان الرسول عند زوجة ميمونة عندما بدأ بالرسول شكوه الذي توفى فيه، فذهب إلى زوجه عائشة، وكأنها رأت أثر ما به من وعكة، فقالت مداعبة: وا رأساه! فتبسم الرسول وقال مداعباً: وددت أن ذلك يكون وأنا حي فأصلي عليك وأدفنك. فقالت عائشة غيري: أو كأنك تحب ذلك؟ لكأني أراك في ذلك اليوم معرساً ببعض نسائك في بيتي. فتبسم النبي أيضاً، وتتام به وجعه وهو يدور على نسائه حتى استعز به وهو في بيت ميمونة، فدعا نساءه فأستأذنهن أن يمرض في بيتي فأذن له فخرج بين رجلين من أهله أحدهما الفضل بن العباس ورجل آخر تخط قدماء الأرض عاصباً رأسه حتى دخل بيتي.

وقد سئل ابن عباس عن هذا الرجل الآخر من هو فقال: إنه علي بن أبي طالب ولكنها كانت لا تقدر على أن تذكره بخير وهي تستطيع!

وذهب الرسول إلى الفضل بن عباس فأخذ بيده حتى جلس على المنبر وهو معصوب الرأس ثم قال: نادٍ في الناس، فاجتمعوا إليه ثم قال: أما بعد أيها الناس فإني احمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وإنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم، فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه، ألا وإن الشحناء ليست من طبعي ولا من شأني، ألا وإن أحبكم إلي من اخذ مني حقاً إن كان له، أو حللني، فلقيت الله وأنا أطيب النفس، وقد أرى أن هذا غير مغنٍ عني حتى أقوم فيكم مرارا

أي والله يا رفاق، القلم والقلب والدموع، إن رسول الله وفخر الكائنات يخشى أن يلقى الله ولأحد عنده حق لم يأخذه منه، فهو يعطي ظهره لمن يرى أن يستقيد منه، وهو يريد أن يحلله من لا يريد أن يأخذ حقه حتى يلقى الله وهو أطيب النفس. ثم هو يرى أن ذلك كله غير مغن من الله شيئاً. . . فوا رحمتاه لنا نحن يا رفاق!

ثم صلى النبي الظهر وعاد على المنبر ليحاسبه الناس، فقال له واحد منهم: يا رسول الله إن لي عندك ثلاثة دراهم، فأمر النبي الفضل أن يعطيه إياها؛ ثم قال النبي: يا أيها الناس من كان عنده شيء فليؤده ولا يقل فضوح الدنيا، ألا وإن فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة. فقام رجل فقال يا رسول الله عندي - أي في ذمتي - ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله، قال ولم قال ولم غللتها، قال كنت إليها محتاجا، قال خذها منه يا فضل. . . ثم قال الرسول يا أيها الناس من خشي من نفسه شيئاً فليقم أدع له، فجعل الناس يقومون يعترفون بذنوبهم بين يدي رسول الله يدعو الله لهم، حتى قام أحدهم فقال: يا رسول الله إني لكذاب وإني لمنافق، وما من شيء إلا قد جنيته. فقام عمر بن الخطاب فقال: فضحت نفسك أيها الرجل! فقال رسول الله يا ابن الخطاب فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، اللهم ارزقه صدقا وإيماناً وصير أمره إلى خير، فقال عمر كلمة، فضحك رسول الله ثم قال: عمر معي وأنا مع عمر، والحق بعدي مع عمر حيث كان!!

فهل عرفتم هذا يا رفاق؟ رسول الله يجلس ليحاسب نفسه وليحاسبه الناس وليحاسب الناس على ثلاثة دراهم، لأن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة! ورسول الله لا يدع لليأس من رحمة الله سبيلاً إلى نفوس الؤمنين؛ فهو يعرض على من يخشى من نفسه شيئاً أن يقوم فيدعوا له! وهذا عمر بن الخطاب يتميز على الرجل من الغيظ فيضحك رسول الله ويداعبه، كما داعب عائشة من قبل. فمن منا حاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله؟ ومن منا عمل حساباً لفضوح الآخرة الذي ينكشف بين يدي الله لا فضوح الدنيا الذي ينكشف بين أيدي الناس؟!

رب أين نحن اليوم؟!

أسمعوا إلى الرسول الكريم وهو يناجي ربه ويسأله الشفاء يا رفاق!

واسمعوا إلى أزواجه يداعبنه لما يرين من شكواء فنقول إحداهن: لقد اشتكيت في شكوك شكوى لو أن إحدانا اشتكته لخافت أن تجد عليها، فيتبسم ويقول: أو لم تعلمي أن المؤمن يشدد عليه في مرضه ليحط به خطاياه؟

واسمعوا إليه وهو يطلب ماء يصب عليه من سبع آبار عسى أن تخف عنه برحاء الحمى كي يدخل فيخطب الناس موصياً بأسامة وبعث أسامة لما سمعه من لغط الناس عن تأمير أسامة!

واسمعوا إليه وهو في المسجد يوصي المهاجرين بالأنصار ويأمر (بسد هذه الأبواب الشوارع في المسجد إلا باب أبي بكر؛ فإني لا أعلم امرأ أفضل في الصحابة من بكر)

واسمعوا إليه يأمر أن يصلي بالناس أبو بكر، فتراجعه عائشة في ذلك، متذرعة بشتى الحجج، مشيرة أن يصلي بالناس عمر، فيغضب رسول الله ويذكر صواحب يوسف! ويصلي بالناس أبو بكر. فإذا سئلت عائشة بعد عن سبب مراجعتها رسول الله قالت: (وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلاً قام مقامه أبداً. ولا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به، فأردت أن يعدل ذلك رسول الله عن أبي بكر!)

وهذا هو أبو بكر يصلي بالمؤمنين الصبح في هدأة الفجر. . . وهذا هو رسول الله قد خرج عاصباً رأسه لينظر إلى أمته وليفرح بها واقفة بين يدي الله فيتفرج المصلون ليمر رسول الله وقد أوشكوا أن يفتتنوا من الفرح بفخر الكائنات، فيعرف أبو بكر أن الناس لم يفعلوا ذلك ولا يصح أن يفعلوه إلا لرسول الله فينكص عن مصلاه، فيدفع رسول الله في ظهره ويقول: صلَ بالناس، ويجلس إلى جنبه فيصلي عن يمين أبي بكر، فإذا قضيت الصلاة أقبل رسول الله على الناس رافعاً صوته وهو يقول: أيها الناس سعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وإني والله ما تمسكون علىّ بشيء، إني لم أحل إلا ما أحل القرآن ولم أحرم إلا ما حرم القرآن)، ويفرح المسلمون بصحة وهموها في رسول الله، ويفرح معهم أبو بكر، ويستأذن أن يلحق أهله بالسنح. فاليوم يوم بنت خارجة!)

إلا أن واحداً من المؤمنين فحسب لا تخدعه صحوة الموت في أمر رسول الله! ذلك هو ابن عباس الذي يقول لعلي وقد فرح بشفاء محمد: (والله لأرى رسول الله (ص) سوف يتوفى من وجعه هذا. إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت)

وعاد رسول الله إلى بيت عائشة فاضطجع بين سحرها ونحرها. . . (ودخل عبد الرحمن بن أم رومان، أخي، وفي يده سواك رطب، وكان رسول الله (ص) مولعا بالسواك، فرأيته يشخص بصره إليه، فقلت يا عبد الرحمن اقضم السواك فناولنيه فمضغته ثم أدخلته في فم رسول الله فجمع بين ريقي وريقه)

وأخذت عائشة تعوذه بعد ذلك بدعاء كان من عادتها أن تعوذه بها إذا مرض. لكن رسول الله رفع رأسه إلى السماء وقال: (في الرفيق الأعلى. . . في الرفيق الأعلى. . .)

يا رفاقي الأحباء الأعزاء الأوداء، القلم والقلب والدموع! أين نحن الآن من هذا الرفيق؟ أين نحن الآن من رسول الله ومما ترك لنا رسول الله!

دريني خشبة