مجلة الرسالة/العدد 550/القضايا الكبرى في الإسلام

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 550/القضايا الكبرى في الإسلام

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 01 - 1944



قتل الهرمزان

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

روع المسلمون بقتل عمر رضي الله عنه بيد فارسي أثيم يسمى فيروز، ويكنى أبا لؤلؤة، ووقف العالم ينتظر أثر هذا الحادث في نفوس المسلمين من جهة الفرس الداخلين في حكمهم. أيجعلونها قضية شخصية كسائر القضايا، أم يتناولون بها غير القاتل من قومه، فيقضون فيها بحكم القوة الذي كان يقضي به في الجاهلية، وتقوم به الحروب بين القبائل والشعوب، ويخرجهم السلطان عن حكم القرآن في قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) فلا فرق بين أمير وحقير، ولا بين عربي وغيره من سائر الشعوب

وقد تفرعت عن هذه القضية قضية أشد منها امتحاناً للمسلمين في الحكم الذي يأخذون به فيها، فوقف العالم مرة ثانية ينتظر فيها حكمهم، فهل يقضون بالعصبية التي كانوا يقضون بها في الجاهلية، أو يقضون بالعدل الذي لا يفرق بين القبائل والشعوب، وتلك قضية قتل الهزمزان الذي روع المسلمين كما روعهم قتل عمر، وأظلمت به المدينة على أهلها ثلاثا

خرج عمر بن الخطاب يوماً يطوف في السوق، فلقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة - وكان نصرانياً - فقال: يا أمير المؤمنين، أعدني على المغيرة بن شعبة، فإن علي خراجاً كثيرا. فقال له عمر: وكم خراجك؟ قال: درهمان في كل يوم. فقال عمر: وإيش صناعتك؟ قال: نجار، نقاش، حداد. فقال عمر: فما أرى خراجك بكثير على ما تصنع من الأعمال. قد بلغني أنك تقول لو أردت أن أعمل رحاً تطحن بالريح فعلت. فقال: نعم. فقال عمر: فاعمل لي رحاً. فقال: لئن سلمت لأعملن لك رحاً يتحدث بها من بالمشرق والمغرب. ثم انصرف عنه. فقال عمر: لقد توعدني العبد آنفاً. فلما كان بعد ثلاثة أيام خرج إلى صلاة الصبح، وكان يوكل بالصفوف رجالاً، فإذا استوت جاء هو فكبر، ودخل أبو لؤلؤة في الناس وفي يده خنجر له رأسان نصابه في وسطه، فضرب عمر ست ضربات إحداهن تحت سرته، وهي التي قتلته، ثم خرج يريد الفرار فتبعه رجل من تيم فقتله وأخذ منه الخنجر، ومضى ذلك المجرم الأثيم بسر فعلته، ولو أنه بقى لأمكن أن يؤخذ منه اعتراف عن السبب الذ دفعه إليها، وأن يسأل هل الذي حمله عليها أن عمر لم يعده على المغيرة بن شعبة، أو أنه أراد الانتقام لدولة الفرس التي أسقطها عمر؟ وهل كان له في ذلك شركاء، أو لم يكن له شركاء فيه؟

وقد شاع عقب ضرب عمر أن قتله لم يكن عمل أبي لؤلؤة وحده، وأنه كان هناك أشخاص شركوا في دم عمر، ففتح باب التحقيق في هذه القضية الغامضة، وجاء عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق غداة طعن عمر: فقال: مررت على أبي لؤلؤة أمس ومعه جفينة والهرمزان وهم نجى؛ فلما رهقتهم ثاروا وسقط منهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه، فانظروا بأي شيء قتل؟ فجاءوا وبالخنجر الذي ضرب به أبو لؤلؤة فإذا هو على الصفة التي وصفها عبد الرحمن بن أبي بكر

ولم يتقدم أحد بعد عبد الرحمن بشهادة تلقى ضوءاً على هذه القضية الغامضة. ولا شك أن شهادة عبد الرحمن إنما تثير شبها فقط في جفينة والهرمزان، والشبهة لا تكفي في إثبات جناية من الجنايات، لأن أمور الدماء أجل من أن تهدر بشبهة من الشبه، بل إن الشبهة لا تكفي في إثبات حق في الدماء وغيرها، ولابد من دليل واضح تثبت به الحقوق، وتبنى عليه الأحكام.

وقد سئل القماذبان بن الهرمزان عن أمر ذلك الخنجر فقال: كانت العجم بالمدينة يستروح بعضها إلى بعض، فمر فيروز (أبو لؤلؤة) بأبي ومعه خنجر له رأسان، فتناوله منه وقال: ما تصنع بهذا في هذه البلاد؟ فقال: أبس به فرآه عبد الرحمن بن أبي بكر، فلما أصيب عمر قال: رأيت هذا مع الهرمزان دفعه إلى فيروز

فلما لم يجدوا في هذه القضية الغامضة غير تلك الشهادة طووا التحقيق فيها، ولم يروا في هذه الشهادة ما يدين جفينة والهرمزان، وكان في طي التحقيق بهذا الشكل أكبر دلالة على سمو الإسلام، لأنه أبى مع تلك الشهادة التي تثير شبهة قوية في أن قتل عمر كان بمؤامرة فارسية أن يجعل لشهوة الانتقام أثراً في حكمه، وأن تأخذه عزة السلطان فيستهين بدم شعب خضع له، ويجعلها مذبحة تشقي النفوس الثائرة لمقتل ذلك الخليفة الذي نشر لواءه في الخافقين

ولكن طي التحقيق بهذا الشكل لم يرض بعض آل عمر، وكان ابنه عبيد الله لا يزال فتى يجري فيه دم الشباب، ويعد من شجعان قريش وفرسانهم، فخرج مشتملاً على السيف حتى أتى الهرمزان فقال: اصحبني ننظر إلى فرس لي. وكان الهرمزان بصيراً بالخيل، فخرج بين يديه فعلاه عبيد الله بالسيف، فلما وجد حر السيف قال: لا إله إلا الله، ثم فقتله. ثم أتى جفينة وكان نصرانياً من أهل الحيرة، أقدمه سعد بن أبي وقاص إلى المدينة ليعلم بها الكتابة، فلما أشرف له علاه بالسيف فضربه فصلب ما بين عينيه، ثم أتى ابنه أبي لؤلؤة جارية صغيرة تدعى الإسلام فقتلها، ثم أقبل بالسيف صلتاً في يده وهو يقول: والله لا أترك في المدينة سبباً إلا قتلته وغيرهم، وكأنه يعرض بناس من المهاجرين، فجعلوا يقولون: ألق السيف، فيأبى ويهابونه إلى أن أتى عمرو بن العاص فقال له: يا ابن أخي أعطني السيف. فأعطاه إياه، ثم ثأر إليه عثمان بن عفان فأخذ بناصيته حتى حجز الناس بينهما، وأرسل صهيب الرومي القائم مقام الخليفة من أتى به إليه، فسجنه حتى يتم الاستخلاف وينظر في أمره

فلما تولى عثمان الخلافة جلس في المسجد لينظر في هذه القضية التي وقف العالم ينظر ما يفعله الإسلام فيها، فدعا بعبيد الله من سجنه، ثم قال لجماعة المهاجرين والأنصار: أشيروا علي في هذا الذي فتق في الإسلام ما فتق، فنصب علي ابن أبي طالب نفسه محامياً عن الهرمزان ومن قتل معه، وقال لعثمان: أرى أن تقتل عبيد الله. وهو في هذا يرى أن النص صريح في القصاص من القاتل، ومتى كان هذا أمر النص وجب الحكم به، ولا يصح أن يراعي معه شيء آخر، ولا أن يغلب على حكمه ما يقترن بحادث القتل من مثل ما أقترن به في هذا الحادث، لأن أمر النص فوق كل شخص، وحكمه يعلو على كل اعتبار، وهو في هذا يتمسك في عصرنا بألفاظ القوانين، ولا يبيح العدول عنها في حال من الأحوال. وقد وضع علي بهذا أول حجر في أساس تشيع الفرس له

ونصب جماعة من المهاجرين أنفسهم للدفاع عن عبيد الله، فقالوا في الدفاع عنه: قتل عمر بالأمس وتريدون أن تتبعوه ابنه اليوم! أبعد الله الهرمزان وجفينة! وكأني بهم يخالفون علياً في ذلك النظر إلى النص، ويرون أنه قد يطرأ من الأحوال ما يجب معه التساهل في أمر النصوص، وتغليب الاعتبارات التي تمنع من الأخذ بها، فلا يجب أن يتقيد القاضي بها دائماً، بل يجب أن يترك الأخذ بها وعدمه لتقديره واجتهاده، ولحكم الأحوال التي تقترن بالحادث الذي يريد الحكم فيه

وكان عمر بن العاص ممن نصب نفسه للدفاع عن عبيد الله، وقد ذهب فيه مذهباً غريباً يخلصه من القصاص، ولا يكون فيه عنده خروج على نص الشرع في قتل العمد، فقال لعثمان: يا أمير المؤمنين، إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الأمر ولك على الناس من سلطان، وإنما كان هذا الأمر ولا سلطان لك، فاصفح عنه يا أمير المؤمنين. وعمرو يذهب في هذا كما ذكر ابن حزم إلى إهدار القود عمن قتل في الجماعة بين موت إمام وولاية آخر، وهو مذهب غريب لا يصح الأخذ به، وإلا انتظر الناس ذلك الظرف فاستباحوا فيه الدماء، لأنهم يرون أنه لا ينالهم فيه قصاص. وانتهت بدفاع عمرو مرحلة الدفاع في القضية، وهو دفاع يدل على أن الصحابة كانوا يتمتعون بقسط وافر من حرية الاجتهاد، وأنهم كانوا لا يقفون جامدين أمام دلالة النص إذا حزب الأمر، اقتضى مرونة تحل ما يوقعهم فيه من إشكال. وقد تشعب الخلاف بينهم في دفاعهم حتى بلغ أقصى ما يبلغه خلاف، فلم يحمل أحداً منهم على الطعن في دين الآخر، ولم يرمه بالإلحاد الذي نترامى به في عصرنا في كل خلاف يحصل بيننا

ثم جاءت مرحلة الحكم فقال عثمان: أنا ولي الهرمزان وجفينة والجارية، وقد جعلتها دية. وفي رواية إنه قال لعلي حينما قال له اقتل عبيد الله: كيف أقتل رجلاً قتل أبوه أمس، لا افعل. ولكن هذا رجل من أهل الأرض، وأنا وليه أعفو عنه وأؤدي ديته. وقد اختلف العلماء في توجيه هذا الحكم الذي جاء مخالفاً لنص القصاص، فقال صاحب البدائع: أراد بقوله: أعفو عنه وأؤدي ديته، الصلح على الدية. وللحاكم أن يصالح على الدية إلا أنه لا يملك العفو، لأن القصاص حق المسلمين بدليل أن ميراثه لهم وأن الحاكم نائب عنهم في الإقامة. وفي العفو إسقاط حقهم أصلاً، وهذا لا يجوز. وله أن يصالح على الدية كما فعل عثمان رضي الله عنه. وذكر ابن حزم أن عثمان أخذ في ذلك بما ذهب إليه عمرو في دفاعه من إهدار القوَد عمن قتل في الجماعة بين موت إمام وولاية آخر. وقيل إن عثمان لم يحكم بذلك إلا بعد أن دعي القماذبان بن الهرمزان فأمكنه من عبيد الله ثم قال له: يا بني! هذا قاتل أبيك، وأنت أولى به منا، فاذهب فاقتله. فخرج به وما في الأرض أحد إلا معه؛ إلا أنهم يطلبون إليه فيه، فقال لهم: إلى قتله؟ قالوا نعم، وسبوا عبيد الله. فقال: أفلكم أن تمنعوه؟ قالوا: لا؛ وسبوه. فتركه لله ولهم؛ فاحتملوه حتى بلغوا به المنزل على رؤوسهم وأكفهم. وقد حكم ابن حجر بضعف هذا الخبر، لأن علياً استمر حريصاً على أن يقتله بالهرمزان. وقد قالوا إنه هرب لما ولي الخلافة إلى الشام فكان مع معاوية إلى أن قتل معه بصفين. وإني أرى أن هذا لا يقطع بضعف هذا الخبر، لأنه يجوز أن علياً رأى أن القماذبان قد حمل من الناس على هذا العفو، على أني أستبعد أن يستمر علي حريصاً على قتل عبيد الله بعد حكم عثمان بذلك؛ فلكل حكم قداسته، وعلى أكبر من أن يستهين بالأحكام إلى هذا الحد. ولا أنكر مع هذا أنه لم يكن راضياً عنه، وأنه كان هناك فريق من الصحابة يشاركه في عدم الرضا به، ومن ذلك الفريق زياد ابن لبيد البياضي، وكان إذا رأى عبيد الله ينشده:

إلا يا عبيد الله مالك مهربٌ ... ولا ملجأ من ابن أرْوى ولا خَفَرْ

أصبت دماً والله في غير حِلَّه ... حراماً وقتل الهرمزانِ له خطر

على غير شيء غير أن قال قائل ... أتتهمون الهرمزان على عُمر

فقال سفيهُ والحوادث جمةٌ ... نعم أَتهمْهُ قد أشار وقد أمَر

وكان سلاح العبد في جوف بيته ... يقلَّبها والأمر بالأمر يعتبرْ

فشكاه عبيد الله إلى عثمان فدعا به فنهاه، فقال في عثمان:

أبا عمرِو عبيد الله رهنٌ ... فلا تشكك بقتل الهرمزان

فإنك إن غفرْت الجُرْم عنه ... وأسباب الخطأ فرسار هان

أتعفو إذ عفوت بغير حقٍ ... فما لك بالذي تحكي يَدان

فدعا به عثمان ثانياً فنهاه وشذبه، وكان حقيقاً بما فعل عثمان به لأن الطعن في الأحكام بهذا الشكل يدعو إلى الفوضى، والقاضي إذا حكم باجتهاده كان لحكمه قداسته كائناً ما كان حكمه

عبد المتعال الصعيدي