مجلة الرسالة/العدد 550/الطريقة المثلى
مجلة الرسالة/العدد 550/الطريقة المثلى
في دراسة الفقه الإسلامي
للأستاذ محمد محمد المدني
كلما أقبل عيد من أعياد الإسلام أو أظل الناس موسم من مواسمه، ذكرت الفقه الإسلامي فجعلت الحديث عنه هديتي إلى العيد، واحتفالي بالموسم، ذلك بأني رأيت الكفاح في هذا العالم مهما تنوعت أشكاله، وتعددت صوره إنما يبدأ من الفكرة: لكل أمة في الحياة شرعة ومنهاج، وكل أمة تكافح لتسمو فكرتها، ويسود منهاجها، وهذا الفقه هو برنامج الإسلام العملي لهذه الحياة، فهو فكرتنا ومنهاجنا، ويجب أن يبتدئ منه كفاحنا، وأن يعتمد عليه جهادنا، وأن تصدر عنه جميع دعوات الإصلاح والتقدم فينا
يجب أن نستقبل هذا الفقه بعناية، وأن نديم النظر فيه، والتأمل في أصوله ومصادره، وأن نخلصه من الشوائب، ونلائم بينه وبين العصر الذي نعيش فيه
يجب أن ندرسه دراسة جيدة تكون الغاية منها تخريج أعلام أئمة ذوي بصر وإدراك وملكات فقهية يرجع إليها في المشكلات، وينتفع بها في المعضلات
الفقه نوعان: فقه الفروع، وفقه الأصول، ولكل منهما كتب تهتم به، وتبحث فيه، ولكن النوع الأول قد فاز بالحظ الأوفر فعكف عليه الناس، وأمعنوا فيه بحثاً ودرساً، واختصاراً وشرحاً، بينما ظل النوع الثاني مهملاً، وظلت كتبه في زوايا المكتبة الإسلامية لا يكاد يشعر بها أحد
والسر في هذا الاهتمام بالنوع الأول، وفي هذا الإهمال للنوع الثاني، يرجع إلى الفكرة القائلة: بأن باب الاجتهاد قد أغلق، وأن عهد المجتهدين قد انقضى فلن يعود. هذه الفكرة هي أصل الداء في كل ما أصاب الفقه الإسلامي، مما أوقف نموه، وأظهره بمظهر الجمود والتخلف ظلماً وزوراً. راجت هذه الفكرة بين أهل العلم فصرفتهم عن فقه الأصول إلى فقه الفروع، فقصروا هممهم على نوع معين من الكتب، ولم يكتفوا بأن يمنحوا هذه الكتب تقديرهم واعترافهم، وأحياناً تقديسهم حتى ساروا في دراسة الفقه على طريقتها شبراً بشبر وذراعاً بذراع: فالفقه في هذه الكتب أبواب بعضها في المعاملات وبعضها في العبادات، وكل باب من هذه الأبواب هو في جملته وتفصيله مجموعة من الأحكام الفرعية تجمعه رابطة واحدة هي أنها أحكام الصلاة أو أحكام الزكاة أو البيع أو نحو ذلك، ولهذا تعد هذه الكتب سجلاً واعياً لكثير من الفروع الفقهية التي تكونت بمرور الزمن من فتأوي المفتين واجتهاد المجتهدين وأحكام القضاة ونحو ذلك، وكثيراً ما تجد فيها أحكاماً هي وليدة الفرض والتقدير لا وليدة الحس والوقوع والمولعون بهذه الكتب يسيرون على نمطها لا يعدونه، ولا يسمحون لأنفسهم بالانحراف عنه، بل إنهم ليضعون مناهجهم الدراسية على أساس فهارس الكتب، وربما نقلوها نقلاً حرفياً إلى هذه المناهج!
وليتهم يتمون قراءة هذه الكتب، أو يقطعون في دراستها شوطاً بعيداً، ولكنهم يكتفون منها بالقليل الذي لا يعد تحصيلاً وجمعاً ولا يحسب درساً وفحصاً
ليست هذه الطريقة في نظر المصفين دراسة للفقه، ولو عكف عليها إنسان مدى عمره لما كان - إن نجح فيها - إلا محصلاً للفروع، جامعاً لكثير من صور المسائل الجزئية وليس هذا هو الفقيه الذي نبتغيه!
إن هذه الطريقة تقضي على الفقه بالركود والجمود، وتقضي على روح التفكير والإنتاج العلمي، ولا تثير في نفس الباحث شعوراً باللذة الفكرية، ولا تغريه بالاسترسال مع البحث وتذليل صعابه، وهي تعتبر السبيل على الذين يريدون مجاراة التقدم العلمي والعملي في هذا العصر، ويدعون إلى تيسير وسائل الانتفاع بالفقه الإسلامي
نحن ندعو إلى العمل بالشريعة الإسلامية وجعلها أساساً للقانون والتشريع، فكيف نقدم هذا الفقه لرجال القانون الذين ألفوا النظام والترتيب والمبادئ الواضحة؟ كيف نقدمه لهم في هذا الثوب المهلهل، في هذه الكتب المضطربة، في هذه المسائل المبعثرة؟ بل كيف نقدم للمحاكم قاضياً ليس عنده روح الفقيه المتصرف المرن البصير بمبادئ التشريع وأصول الأحكام؟
إن هذه الطريقة تفرض علينا عناية بعرف المتقدمين، وعادات السابقين لا تحظى بمثلها عاداتنا وأحوالنا وما جد من نظمنا ووسائل حياتنا: نحن نعرف جيداً من هذه الكتب أحكام النقد الإسلامي فيما يتصل بشركات العنان وشركات الوجود وشركات المضاربة، ولا نعرف شركات التضامن، ولا شركات التوصية ولا الشركات المساهمة! إننا نعرف أحكام الفقهاء على المزابنة والمراطلة، وبيع الفضة بالفضة والذهب بالذهب والدراهم الناقصة بالدراهم الكاملة والمغشوشة بالصحيحة ولا نعرف معرفة شافية حكم أوراق (البنكنوت)، ولا نظام القرض المضمون، ولا كيف تغطى أوراق النقد، ولا كيف يتم البيع والشراء في أسواق الأوراق، ولا ما هو نظام القطع ونحو ذلك!
ونحن نقول أن شركات التأمين على الحياة أو على المصانع والمتاجر تتعامل مع الناس تعاملاً محرماً مع أننا لا نعرف التفاصيل الكافية لتكون الحكم الصحيح على هذا النوع من التعامل بالحل أو الحرمة!
ونحن نقول: إن قضاة المحاكم الأهلية لا يحكمون بما أنزل الله حين يقضون على هذا بالسجن ويقضون على هذا بالغرامة، ويحكمون على بعض الأموال بالمصادرة. . . الخ ولعلنا لو تأملنا أحكامهم لوجدناها غير متعارضة مع الشريعة، ولا مختلفة مع المبادئ الفقهية السليمة! ونحن نشغل أنفسنا ونضيع أوقاتنا في الفروض الفقهية التي لم تقع، فنبحث عن الحكم (فيما لو غربت الشمس، ثم عادت هل يعود الوقت أولا يعود) وفيما (لو أحيا الله ميتاً بعد موته وتقسيم تركته، فهل له أن يأخذ ما بقى من ماله في أيدي ورثته) وفيما (لو تزوج شرقي بمغربية ولم يدخل بها وبينهما مسيرة عام وجاءت بولد لستة أشهر من وقت العقد، فإنه يكون من الزوج لولاية أو استخدام)
نحن نشغل أنفسنا بمثل ذلك، بينما رجال القانون والتشريع في البلاد وعلى رأسهم معالي وزير العدل يطلبون إلى كل مشتغل بالفقه والتشريع في حفل عام أن يدلي برأيه في مشروع تنقيح القانون المدني، ويتحدى خطيبهم من يدله على حكم فيه أو مادة تتعارض مع الشريعة الإسلامية، فلا يغرينا ذلك ببحثه ولا النظر فيه مع أننا رجال البحث والنظر والنقاش والجدال
إن الفقه الذي ينبغي أن يعكف عليه أهل العلم ويشتغلوا بخدمته ودراسته، ولا سيما في أقسام الدراسات العليا هو فقه الأصول لا فقه الفروع، ولست أقصد بالأصول هذا النوع من البحوث التي ترجع إلى معرفة الأدلة وكيفية الاستفادة منها وأحول الألفاظ من حيث ما يعرض لها من النسخ والتعارض والترجيح. . . الخ ولكني أريد معرفة القواعد الكلية المشتملة على أسرار الشريعة وحكمها، أريد النظر في المبادئ العامة، ودراسة النظريات الفقهية الجامعة التي تتفرع عنها أحكام الجزئيات في شتى نواحي الحياة، كأن ينظر الباحث في (قاعدة الملكية) مثلاُ فيدرسها درساً وافياً، ويعرف ما يتصل بها من التصرفات، وما هو اتجاه الشريعة في شأنها، ومن الذي يثبت له هذا الحق، وما مدى حرية المالك في تصرفه، وهكذا يتتبع آثارها، ويسجل فروقها، ويعرف آراء العلماء وأصحاب المذاهب فيها معرفة البصير الناقد المتخير الذي يعرف ما يعرف وينكر ما ينكر عن بينة وفحص وروية وإعمال فكر وإدمان نظر، ثم ينظر في قاعدة أخرى على هذا النحو، وقد ذكر العلماء كثيراً من هذه القواعد كقولهم: (المشقة توجب التيسير)، (الضرر يزال)، (العادة محكمة)، (تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة)، (الخراج بالضمان)، (الوسيلة والمقصد)، ما يؤثر فيه الغرر وما لا يؤثر)، (اليقين لا يزول بالشك). الخ
وقد دعا إلى هذه الطريقة الفقيه المصري (شهاب الدين احمد بن إدريس القرافي المتوفى سنة 684) فبث كثيراً من القواعد الفقهية في كتابه (الذخيرة) ثم ألف كتابه الجامع المعروف (بالفروق) وفي مقدمته يقول:
(وهذه القواعد مهمة في الفقه، عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه ويشرف، ويظهر رونق الفقه ويعرف. ومن جعل يخرج الفروع بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية تناقضت عليه الفروع واختلفت، وتزلرلت خواطره فيها واضطربت، وضاقت نفسه لذلك وقنطت، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى، وانتهى العمر ولم تقض نفسه من طلب مناها، ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات، واتحد عنده ما تناقض عند غيره)
والأستاذ الأكبر المراغي يرى هذه الطريقة واجبة فيقول في مذكرته التي جعلها برنامجه لإصلاح الأزهر منذ 1928 لم ينفذها:
(يجب أن يدرس الفقه الإسلامي دراسة حرة خالية من التعصب لمذهب، وأن تدرس قواعده مرتبطة بأصولها من الأدلة وأن تكون الغاية من هذه الدراسة عدم المساس بالأحكام المنصوص عليها في الكتاب والسنة، والأحكام المجمع عليها، والنظر في الأحكام الاجتهادية لجعلها ملائمة للعصور والأمكنة والعرف وأمزجة الأمم كما كان يفعل السلف من الفقهاء)
وإني في مطلع هذا العام المبارك أسأل الله أن يهيئ لنا من أمرنا رشدا، وأن يوفق الأزهر الذي هو حصن الدين والعلم والفقه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين
محمد محمد المدني