مجلة الرسالة/العدد 550/الإسلام بين العقل والروح
مجلة الرسالة/العدد 550/الإسلام بين العقل والروح
للدكتور زكي مبارك
قلت مرة: إن النضال بين الإسلام والنصرانية أتاح فرصاً كثيرة لمباحث نفيسة تغذي القلوب والعقول، وتكشف عن آفاق ما كان ينتظر أن تكشف لو أراد الله أن لا يقع ذلك النضال والمجادلة لا تذم إلا إن صدرت عن سوء نية، لأنها عندئذ تكون عملاً من أسوأ الأعمال، أما إن صدرت عن رغبة في الفهم والتحقيق، فهي عمل مقبول دعا إليه جميع الحكماء في جميع البلاد
وأنا ماضٍ في تبديد شبهة وجهت إلى الإسلام ألوف المرات، وسأقضي على تلك الشبهة قضاء مبرماً. سأقتلع جذورها فلا تنبت بعد اليوم، وسأقوض جدرانها فلا يقوم لها بناء إلى آخر الزمان
فما هي تلك الشبهة، ولا أقول التهمة، ترفعاً بالمجادلين؟
هي قولهم إن الإسلام شريعة مدنية، وليس عقيدة دينية، فهو في نظرهم مجموعة قوانين، وليس ديناً يهتم بتأصيل المعاني الروحية في صدور المؤمنين
وزادوا فقالوا: إن الإسلام لم تشع فيه الروح إلا حين عرف التصوف، والتصوف في رأيهم نزعة مسيحية العرق، وليس لها في الإسلام أصول
وأسارع فأقرر أنه لا يضير الإسلام أن يكون مجموعة قوانين، فسترى بعد لحظات معنى هذا من الوجهة الروحية، وهي مثار الاعتراض
وأقرر أيضاً أن المعاني الإسلامية المقبوسة من المسيحية ليست سرقات، حتى يعيرنا بها فريق من الناس، وإنما هي ميراث أخذناه باستحقاق، لأن الإسلام بنص القرآن هو الوارث لجميع الشرائع السماوية، والمؤلفون المسلمون ينقلون أقوال سيدنا موسى وسيدنا عيسى باحترام، تقرباً إلى الله، لأن الله أوصى سيدنا محمداً بإعزاز جميع الأنبياء والمرسلين
وإذا كان التصوف الإسلامي منقولاً عن أصول مسيحية - ولنسلم جدلاً بهذا - فما كان التصوف مما اتفق عليه جميع أئمة المسلمين، فقد ثار عليه رجال من أقطاب الباحثين، وعدوه خروجاً بالإسلام عن صبغته الأساسية، وهي الصبغة التشريعية
ومعنى هذا أن الهدية مردودة إلى مهديها الأول، على فرض أن التصوف هدية، وعلى فرض أنه بعيد من الروح الإسلامي
أسمعوا يا أيها المجادلون بلا بصيرة وبلا يقين
أنتم اعترفتم بأن الإسلام يعرف العقل ولا يعرف الروح، بدليل أنه في نظركم ليس إلا مجموعة قوانين
وهنا الخطر كل الخطر، الخطر عليكم لا عليه، فالخطأ في الحكم المدني أو الجنائي لا يحتمل الجدال، لأن نقضه أسهل من السهل، بسبب ارتكازه على العقل، فلو كانت القوانين التي أذاعها الإسلام واهية الأساس، لثار عليه المشرعون في جميع بقاع الأرض، وعدوه أسطورة بدوية منقولة عن سراب الصحراء
ولا كذلك الخطأ في الحكم الروحي لأن الحكم الروحي غير محدود بحدود، فمن حق كل روحاني أن يسفه من يخرجون عليه، بحجة أنهم محجوبون عن الروح، وذلك باب يدخل منه الدخلاء والأصلاء على السواء
وإذن يكون الإسلام تحدي جميع الديانات، تحداها بالعقل قبل الروح، تحداها بما لا يجوز فيه الخطأ، وهو التشريع، تحداها بالنبي الأمي، ليعرف من لا يعرف أن وحي السماء فوق إيحاء الكتاب
ماذا أقول؟ هل بددت الشبهة؟ وكيف والكلام إلى هنا يؤيد القول بأن الإسلام دين العقل، وليس دين الوجدان؟ أقترع الحديث فأقول:
إن التهمة صحيحة، تهمة الإسلام بأنه لا يقصر اهتمامه على الشؤون الروحية، وإنما يوزع اهتمامه على كثير من الشؤون العلمية والاجتماعية والمعاشية، وهنا المطعن الذي لا ينفع فيه علاج (؟!)
إسمعوا، ثم اسمعوا، يا أيها المجادلون
كل ما يعرف المسلمون من العلوم والفنون والآداب والقوانين ليس إلا وسائل لغاية صريحة هي خدمة القرآن، والقرآن وحي من الله، وبخدمة القرآن نتقرب إلى الله
علوم النحو والصرف والمعاني والبيان والبديع علوم تساعد على فهم القرآن، فهي وسائل أدبية لغاية دينية، فنحن نتقرب بها إلى الله
وعلم الفقه ينظم المعاملات بين الناس، ليعرفوا سبيل النجاة من غضب الله، فنحن بعلم الفقه نتقرب إلى الله
وعلم الحساب يساعد على تحديد الأغراض الاقتصادية بين الناس، فنحن بعلم الحساب نتقرب إلى الله
وعلم الفلك يساعد على تحديد المواقيت، فنحن بإدراك دقائقه نتقرب إلى الله
وعلم التاريخ يخلق العظة بالحوادث، وقد رآه القرآن من وسائل الترغيب والترهيب، فنحن بعلم التاريخ نتقرب إلى الله
لا موجب للإطناب، ففي أول كل كتاب نجد الراجز يقول:
إن مبادئ كل فن عَشرَهْ ... الحد والموضوع ثم الثمرهْ
إلى آخر ما قال، ولا موجب للنص على أن علماء المسلمين لم يدركوا للعلم غاية غير خدمة الشريعة الإسلامية، فذلك واضح في جميع مؤلفاتهم، حتى علم الحساب. وقد راعى هذا المعنى أستاذنا محمد بك إدريس فنص عليه في مقدمة كتاب الحساب لطلبة الأزهر الشريف
جميع العلوم والفنون وسائل لخدمة الدين الإسلامي، والتكسب أو التسبب له في الإسلام آداب، مع أن الظاهر يوهم أنه بعيد من الروح
كل خطوة تخطوها في صباحك أو مسائك، لها في حياتك المعاشية صلات بحياتك الدينية. . . بهذا يوصيك الإسلام، لأنه دين العقل والروح
إن الحج وهو فريضة دينية، أبيحت فيه المنافع المعاشية، لأن الله يرى أن جميع الفضائل وسائل إلى رفاهية المعاش
وهل ننسى أننا نطيع الله لننعم بالفردوس؟
المزية الصحيحة للإسلام هي دعوته إلى أن نسيطر على جميع بقاع الأرض، لنحقق الصلة بيننا وبين الله بإقامة دعائم العدل فوق جميع البقاع، ولنحقق إرادته السامية في أن تكون الكلمة العليا لله وللمؤمنين
مزية المسلمين أنهم لا يقابلون الله وجهاً لوجه، كما يتوهم المسيحيون، وإنما يقابلونه في مخلوقاته من الأنهار والبحار، والجنة والناس، والحقائق والأباطيل
وأين الله؟ هل رآه من يدعون أنهم أبناؤه، صادقين أو كاذبين؟ المسلم هو الصورة الحقيقة للمؤمن
المسلم هو خليفة آدم، وقد جعل الله آدم خليفة على الأرض، وللأرض آداب لا تعرفها السماء، لأن فيها تكاليف لم يسمع بها سكان السماء
المسيحي يخاطب الله في ذاته فيستريح، والمسلم يخاطب الله في مخلوقاته فيتعب، والتعب شارة الرجال
وأنا مسلم، لأن الإسلام يوجب على أبنائه أن يذكروا الله في جميع الشؤون
أنا مسلم بالرغم مني، لأني لا أرى ديناً يفوق ما في الإسلام من تكاليف، والتكاليف هي الأساس لتجربة أخلاق الرجال
أنا مسلم بالعقل وبالروح، والدين عند الله هو الإسلام، لأنه الصورة النهائية للحسن والصدق في التشريع
حاولت أن أرتاب في الإسلام فلم أستطع، حاولت بالعقل وبالروح في حدود ما أطيق، وأين أنا مما أطيق؟ الآن آمنت بأن الإسلام دين العقل والوجدان.
زكي مبارك