مجلة الرسالة/العدد 55/تحليل نفسي
مجلة الرسالة/العدد 55/تحليل نفسي
الأفعال المفقودة أو الفلتات
للدكتور عبد الفتاح سلامة
إذا كانت الأمثلة السائرة والقصص المتداولة بين الجمهور تدل على شيء، فإنما يكون ذلك لأنها نتيجة لتجارب كثيرة، لمس كل فرد حقيقتها، وعرف مقدار الحكمة فيها ويمكن له الاستفادة منها بتطبيقها على ما قد يصادفه من حوادث. وقد تكون القصة الآتية واحدة من هذه القصص، وإنا لنذكرها هنا لأنها تحتوي على فعل مفقود أو فلتة. وإذا عرفنا أن راوي هذه القصة هو أحد رجال البوليس فان من السهل معرفة إلى أي حد يمكن للبوليس والقضاء الاستفادة من هذه الفلتات.
قال صديقنا - والعهدة على الراوي - إن اثنين كانا يسيران في جهة بعيدة عن العمران فأراد أحدهما اغتيال الآخر، وبعد أن استعطفه دون جدوى قال له: وهل تظن أنك ناج من القصاص؟ فأجابه: ولمَ لا؟ فقال المسكين: (الهوا يخبر). ولكنه قتله ووارى جثته التراب ورجع وحده إلى بلدته؛ ولم يهتد أحد إلى مقر القتيل المسكين. مضى على ذلك وقت غير قصير، واطمأن القاتل إلى النجاة. وفي ذات ليلة قمرية جميلة جلس القاتل وزوجه يتبادلان الحديث - والحديث ذو شجون - وتوالت الأفكار على رأسه، وإذا به يبتسم في غير موضع للابتسام، وإذا بزوجه تصر على معرفة سبب الابتسام، فيقول لها إنه تذكر كلمة قالها رجل معتوه أثناء قتله، وهذه الكلمة هي (الهوا يخَبّرْ). فلا تزال هي به حتى يعترف لها بكل شيء يتعلق بالجريمة وبمكان الجثة. فالابتسام إذن هو الفلتة التي كشفت سراً كان يحرص على كتمانه؛ وهي التي حققت المثل القائل: (مهما تبطن، تظهره الأيام). ولا حاجة بنا إلى القول بأن فلتات مشابهة لهذه قد اضطرت الزوجة إلى الاعتراف إلى صديقة لها، وهكذا شاع الأمر وأمكن إدانة القاتل. ولعلنا نكون قد توصلنا بإيراد هذه القصة إلى إيضاح ما نقصد من كلمة (فلتات، أو أفعال مفقودة)، إذ أننا بعد أن تكلمنا عن تأثير الإيحاء في بعض الأمراض العصبية وكذلك في بعض الأمراض الأخرى، نود أن نتكلم عن التحليل النفسي، لأنه هو الوسيلة الوحيدة للكشف عن المشادة اللاشعورية، وهي التي تحدث بين ذلك الشيطان - اللاشعور - والنفس.
ويكون التحليل النفسي ممكناً بالمناقشة والاستفادة من الفلتات ومن الأحلام ومن الأعراض عند المرضى. وقد سبق أن تكلمنا عن تفسير الأحلام التحليلي.
أما الفلتات أو الأفعال فإنها أفعال تصدر في الغالب عن غير إرادة الإنسان، كأن ينطق في سياق حديثه بكلمة لا يريدها، وقد ينتبه أو لا ينتبه إلى ما صدر منه، (فلتة لفظية). أو قد يكتب كلمة غير التي يريد كتابتها، أو قد ينسى كلمة كان يود أن يكتبها، (فلتة كتابية). وقد ينسى الإنسان شيئاً كان يذكره منذ لحظة قصيرة، فيبحث عن قلم وهو في يده، أو يريد أن يتذكر اسم شخص أو بلد كان يعرفهما تماماً، ولكنه لا يمكن له ذلك، (فلتة من فلتات الذاكرة، وهو ما نسميه بالنسيان).
وكذلك قد تتحدث إلى شخص وهو منتبه اليك، ولكنه لا يلبث أن يسرح ببصره في الفضاء، أو أن يتغير لونه، أو أن يلعب بأصابعه في أي شيء، ثم يسألك أو لا يسألك بعد ذلك عما كنت تتحدث به إليه لأنه (لم يأخذ باله). وهذا بالطبع معناه أنه حدث له ما صرف انتباهه إلى ناحية أخرى.
فلماذا لفظ الإنسان أو كتب ما لا يريد؟ ولماذا نسى ما كان يعرفه تماماً منذ لحظة قصيرة؟ السبب في ذلك هو في وجود رغبتين عند الإنسان، وفي أن إحداهما مكبوتة والرغبة المكبوتة قد تكون لا شعورية أو شعورية أو تمييزية كذلك، حيث لا يعرف عنها صاحبها شيئاً إلا بعد التحليل. أما إذا كانت شعورية أو تمييزية فان صاحبها ليس في احتياج إلى تحليل لمعرفتها. هذا فيما يتعلق بالرغبة المكبوتة. أما الرغبة الأخرى فإنها في الغالب رغبة تمييزية، ولكنها قد تكون شعورية أو لا شعورية كذلك؛ فصاحب الفعل المفقود إذن يجد نفسه أمام رغبتين، وهو في أثناء تعبيره عن الرغبة غير المكبوتة عنده تتحين الرغبة المكبوتة أي فرصة للظهور، وهي عند ما تسنح لها هذه الفرصة تجد سبيلها إلى الظهور بواسطة أي لفظ أو حركة تنم عليها. وهذا اللفظ أو الحركة هو ما تسميه الفلتة أو الفعل المفقود أو الفعل غير الإرادي أو
ومع أن الفعل المفقود قد أظهر الرغبة المكبوتة فانه لم يتمكن من تنفيذ هذه الرغبة. لأن الإنسان سرعان ما يستنكر صدور هذه الفلتة منه، ويتساءل كيف أخطأ في تعبيره. والواقع أن الرغبة المكبوتة وهي التي سببت هذه الفلتة قد اكتفت بهذا التحقق الرمزي أو التلميحي بواسطة الفعل المفقود، لأن التحقق الفعلي تأباه عليها ظروف الحياة، فهو إذن غير ممكن لها. وهكذا تكتفي الرغبة المكبوتة بالأوهام بدلاً من الحقيقة الواقعة، ومثلها في ذلك مثل الأفكار الذاتية التي سبق أن تكلمنا عنها سواء بسواء. لأن الرغبة المكبوتة مهما كانت شعورية أو تمييزية فإنها في الأصل من اللاشعور، وهو الذي يكتفي في تنفيذ رغباته بالأوهام.
وأما الفرص التي تنتهزها الرغبة المكبوتة فهي كثيرة: فالتعب واهتياج الشعور والاجتهاد الفكري وكل ما من شأنه أن يقلل من انتباه الإنسان يساعد على إيجاد هذه الأفعال المفقودة.
والرغبتان اللتان نشأ عنهما الفعل المفقود قد تكونان متعارضتين، فيكون اللفظ إذن عكس ما كان يراد تماماً، وقد تكون إحدى الرغبتين معدلة للأخرى أو مكملة أو مؤكدة لها؛ وسنذكر فيما بعد بعض الأمثلة على كل نوع منها. ولنرجع الآن إلى ابتسامة القاتل التي سببت اكتشاف سره، ونرى هل هي الأخرى وليدة رغبتين عنده؟ وهل في هاتين الرغبتين ما يدل على التعارض؟ والى أي حد يمكن استخدام الفلتات في الكشف عن خفايا نفسية المجرم؟ فلقد جلس هذا إلى زوجه وعنده رغبتان: الأولى حب الظهور بالبطولة، وإظهار بأسه وقوته. والثانية حب كتمانه لما فعل خوفاً من تسرب الأخبار والوقوع تحت طائلة العقاب، فهو إذن بين رغبتين تتنازعانه، وبينما تشتد رغبة النجاة في كبت رغبة الزهو والاعتداد بالنفس إذا بهذه الرغبة الأخيرة تنتهز الفرصة للظهور في وقت ضعف الرغبة الأولى تحت تأثير الهوى. وهكذا يتحقق الزهو والفخر، ولكن هذا التحقق إن هو إلا تحقق رمزي وذلك بالابتسام، وما الابتسام إلا رمز الانتصار، لأن رغبة النجاة مهما ضعفت فإنها لا تسمح بالاعتراف والفخر الصريح. وهكذا كان، فقد ابتسم الرجل في غير موضع الابتسام، ولكنه مع ذلك يأبى الاعتراف الصريح أولاً. وهنا نرى الزوجة تقوم بدور المحلل النفسي فتستخلص منه ما كان يأبى الاعتراف به.
وإذا كنا فيما سبق قد قلنا إن الشعراء والأدباء والفنانين يستخدمون الخيال، فان ذلك من دواعي الفخر لهم، لأن التخيل ممكن وموجود عند كل إنسان، وإنما امتاز هؤلاء بإمكان استخدام خيالهم وتحقيق أحلامهم على صورة رمزية جملية تأخذ بالألباب. وفوق ذلك فان لهم من حسن الذوق ودقة الحس ما يسمح لهم بملاحظة كل ما يمر أمامهم من دقائق الحياة، وهكذا فان الأفعال المفقودة أو الفلتات لم تفت عليهم، بل انهم استخدموا هذه الأفعال لتجميل الأسلوب وتوضيح المقصود، وقد أظهر لنا فرويد مثلين من ذلك. ففي رواية تاجر البندقية لشكسبير تقول بورشيا لبسانيو الذي يتقدم إلى الصناديق الثلاثة ليجرب حظه في نيل يدها (إن عينيك هذه تقسمني إلى نصفين. فالنصف الأول لك وأما النصف الثاني فهو لك. . . . أريد فهو لي). والسبب في هذه الفلتة الكلامية هو أن بورشيا تريد أن تقول إنها كلها له. وفي رواية أخرى. يقول كاستنبرج لاوكتافيو. (إلى أين أنت ذاهب). فيجيب اوكتافيو (إليها. . . إلى الدوق هيا بنا) والسبب في هذه الفلتة أيضاً هو رغبة اوكتافيو في اللحاق بالفتاة التي يحبها
وأما النكت والفكاهات التي تقال على البديهة فإنها نوع آخر من الأفعال المفقودة، إلا أن قائلها يتذرع بالضحك لستر رغباته الكامنة، ومع ذلك فان هذه الرغبات كثيراً ما تكتفي حقيقة بالأوهام، فلا تصر على التنفيذ الحقيقي لها، وإنما تكتفي بالرموز والتلميح كما تقدم.
ويمكن استخدام هذه الأفعال في انتخاب الأسئلة المحرجة وفي توجيه الاتهامات والمناقشة إلى الهدف الذي يرمي إليه المحقق، أما فيما يتعلق بالمرض فان التحليل النفسي لا يطمع من المريض أن يعترف برغباته اللاشعورية، ولكنه يطمع فقط في أن يعرف المريض رغباته في أثناء المناقشة معه، ولو أنه قد ينكرها بتاتاً، وقد يكون ذلك الإنكار خجلاً أو لأي سبب آخر، ولكن إنكاره هذا لا يمنع من وصول رغبته إلى الشعور، ومن ثم إلى التمييز لمناقشتها. فليس الاعتراف إذن ضرورياً للشفاء ما دامت الرغبة قد وصلت إلى التمييز، والإنكار نفسه قد يكون طريقة من طرق السمو بالرغبة، وهذا السمو هو في الواقع ميزة من ميزات التحليل النفسي ومن أجلها يفضل على الإيحاء. والرغبة المحرمة يسمو بها الإنسان إذا صورها وعدلها فأصبحت غير مخالفة لنظام المجتمع وتقاليده. فقد يفكر الإنسان في الأضرار بأي شخص كان لكراهيته له، وذلك إظهاراً لمقدرته على البطش والأذى، ولكنه قد يسمو فيكتفي فقط بإظهار قدرته على الأذى ثم يعفو ويتسامح بعد ذلك. وهذا هو ما يحدث تماماً عند ما يسمو المريض العصبي رغبته. ولكن رغبة هذا المريض العصبي ليست من هذا النوع البسيط من الرغبات فإنها هي والرغبات التي تتجلى في الأحلام والتي تملي على الفنان فنه ليست إلاّ رغبات جنسية تتعلق بأشخاص من ذوي القربى، وقد عرف كل من المريض العصبي، وصاحب الرؤيا، ورجل الفن طريقه إلى تحقيق رغبته. وإن كان هذا التحقيق رمزياً مشوهاً لا يدل في الظاهر على أي رغبة محرمة، ولكن التحليل في كل الحالات قد أثبت أن أعراض المريض والرؤيا ومنتجات الفن ليست إلاّ هذا التحقيق الرمزي المشوه لهذه الرغبات. فالرغبة المحرمة المجهولة لصاحبها لأنها مكبوتة بفعل الضمير هي أصل كل أعراض المرض، وهي أصل الرؤيا، وهي التي توحي الفن إلى الفنان، بل هي سبب التخيل وكل ما يبينه الخيال من تصورات وأمان، وإذا كنا قد ذكرنا الفنان هنا فان من الإنصاف أن نقول إنه عرف كيف يسمو برغبته ذلك السمو البارع الجميل.
ولا يمكن أن يكون هذا الموضوع تاماً إلا إذا تلكمنا عن المسألة الجنسية، وعن قصة أوديب الملك كما ينظر إليها فرويد، وهذا ما نرجو أن نتمكن من إيضاحه فيما بعد، إلاّ أن ما سبق أن أوردناه يسمح لنا أن نقول إن الإيحاء وحده لا يمكن أن يثمر الشفاء التام الدائم إلا إذا سبقه التحليل والكشف عن الرغبات الكامنة السالفة الذكر. ولنرجع الآن إلى الموضوع الذي يشغلنا وهو الفلتات أو الأفعال المفقودة. فقد بينا أن هذه الفلتات قد تكون كلامية. كأن يذكر كلمة غير التي كان يود أن يقولها أو يقرأها إذا كان يتكلم أو يقرأ من أي ورقة أو كتاب. أو فلتة سماعية، كأن يسمع كلمة غير التي قيلت له أو بمعنى آخر يتخيل سماع الكلمة المعينة، أو فلتة كتابية كأن يكتب غير الكلمة التي كان يريد كتابتها أو يمحو كلمة غير التي كان يريد محوها. أو فلتة من فلتات الذاكرة وهو ما نسميه بالنسيان - وقلنا إننا سنذكر بعض الأمثلة على كل هذا، وأن الكلمة الخطأ قد تكون عكس الكلمة المطلوبة - المخالفة قد تكون في ترتيب الحروف وفي معنى الكلمة - أو معدلة لها أو كلمة مدغومة في غيرها. الخ والواقع أن الأمثلة على كل نوع منها كثيرة ولا تدخل تحت حصر، ومن منا لم يسمع أو يلاحظ الكثير منها في كل يوم وفي كل مكان؟. ولهذا فإنني أترك الأمثلة لمن يود أن يلاحظ بنفسه هذه الفلتات وأن يتعرف إلى الغرض الذي حدثت من أجله. وأتكلم الآن عن فلتات الذاكرة أو النسيان، فقد أخبرني صديق لي أنه أراد مرة أن يتحدث عن شخص عرفه من مدة قريبة وعرف اسمه وسمع ذلك الاسم مراراً، ولكنه مع ذلك كان ينسى اسمه كلما أراد أن يتحدث عنه. وبعد جهد في محاولة استذكار الاسم فانه يذكر اسما آخر على أنه الاسم مطلوب - وهكذا يسمى صديقي ذلك الشخص (شافعي) دائما بدل اسمه الحقيقي، وذلك بعد جهد في التذكر بدون جدوى، وهو إذ يقول إن اسمه شافعي لا يقولها بصفة التأكيد أيضاً في كثير من الأحيان: وفي ذات مرة بعد لحظة قصيرة من التأملات أخذت الأفكار تتوالى على عقله ولم يكن يقصد أن يتذكر الاسم الذي ينساه دائماً وإذا به يصيح فجأة إن اسمه (شبلي)
نعم. هذا هو ما حدث لصديقي، وأراد أن يعرف لماذا نسى ذلك الاسم، ثم لماذا ذكر شافعي بدل شلبي مع شكه أيضاً في أن ذلك هو اسمه الحقيقي. ولما سألته أن يذكر لي كل ما يعرفه عن أي شخص آخر يسمى بنفس هذا الاسم (شلبي) أخبرني أنه كان يعرف شخصاً بهذا الاسم ولكن لم تكن بينهما صادقة ما. بل بالعكس فانهما كانا متنافرين - هذا يفسر لنا نسيان الاسم (شلبي) ولكنه لا يفسر لماذا يسميه شافعي في كثير من الأحيان فسألته ان يذكر لي شيئا عمن يعرفهم باسم شافعي هذا. وهنا صاح متعجبا انه يعرف شخصاً محترماً بهذا الاسم وأن هذا الشخص المحترم (شافعي) من حيث الخلقة والشكل العمومي يشبه (شلبي) ذلك الشخص المكروه الذي مضى على معرفته إياه وقطعه كل علاقة به زمن طويل - هذا هو إذن سر إبدال الاسم، وهو جواب ما كان يسأل عنه.
وقد ذكر فرويد أن رجلاً كان بينه وبين زوجته نفور، ولكنه لم يكن قد صارحها بأي شيء، وهي مع ذلك تحبه وتخلص له. وقد أهدته كتاباً شيقاً في نظرها ليقرأه. ولكنه وضعه في جهة معينة ولما أراد البحث عنه لقراءته لم يتمكن من تذكر المكان الذي وضعه فيه برغم كل الجهود التي بذلها في هذا السبيل. ثم حدث أن والدته مرضت مرضاً شديداً حمل زوجته على أن تعتني بها وتمرضها، وكان من نتيجة ذلك أن شعر الزوج بشكره لزوجته لعنايتها بوالدته، وتحول هذا الشكر إلى تقدير، ثم رجع الحب إلى سابق عهده. ثم لما رجع إلى بيته ذات يوم فتح درجاً من أدراج المكتب بدون أي فكرة عن إمكان العثور على الكتاب ولكنه لدهشته وجده فيه، برغم مضى أكثر من ستة أشهر على وجوده فيه، وبحثه عنه على جملة مرات في هذه المدة.
أليست عوامل المودة والنفور هي التي تؤثر في النسيان والتذكر وحدها؟ فإننا سبق أن تكلمنا عن فعل الضمير في هذا الشأن، وكيف أنه يكبت الرغبة فيردها إلى اللاشعور، ولست في حاجة إلى القول بأن الإنسان لا يذكر أو بمعنى آخر لا يشعر إلا بما يعرفه الجزء الشعوري من عقله. فكل فكرة تتمكن من الوصول إلى الشعور فهي شعورية، أي أن الإنسان يعرفها ويذكرها، وكل فكرة ترتد إلى اللاشعور أو تحفظ فيه فهي فكرة لاشعورية لا يعرفها الإنسان ولا يذكر الحوادث المتعلقة بها. على أنه من السهل التنقيب عما يوجد في ذلك المخزن - اللاشعور - إذا ترك الإنسان لحرية تفكيره العنان، فلا يعترض حرية التفكير هذه بنقد أو تجريح ولا يرمي أي فكرة تأتي إليه بأنها غير معقولة أو غير جائزة أو الخ. . . بل يترك نفسه للتفكير فلا تلبث الأفكار إذن أن تتوالى كما يقول المثل - الشيء بالشيء يذكر - لأننا سبق أن بينا أن الأفكار والرغبات مسجلة على قواعد الاصطحاب والقرينة، أي أن الأشياء المتشابهة أو المتضادة - والمتقاربة والمتباعدة مسجلة بالقرب من بعضها، وإذا ذكر أحدهما فلابد من تذكر الآخر. وإذا ذكر الإنسان صديقه فلا يلبث أن يذكر أشياء كثيرة معه كبيته أو المقهى الذي يجلسان به أو الكلام الذي حدث بينهما، وإذا تذكر هذا المقهى فقد يذكر مقهى آخر في أوربا أو أي بلد آخر، ويذكر معه الحوادث التي مرت به في هذا المقهى الآخر وهلم جراً.
فاذا كانت الفلتات تخدم التحليل النفسي لأنها توجه نظر المحلل إلى وجهات مهمة فتوحي إليه بالأسئلة الواجب إلقاؤها على المريض، وهذا يتطلب من المحلل ذهناً صافياً وفكراً سليماً، فان على المريض واجباً آخر يجب عليه أن يرعاه، وهو أن يلتزم الإخلاص في كل إجاباته على الأسئلة التي توجه اليه، ويجب أن يعلم أن مقدار إخلاصه هذا يعرفه الطبيب المحلل نفسه. وفوق ذلك فانه يجب أن يترك أفكاره حرة من كل قيد فيجيب بكل ما يخطر على باله بصرف النظر عن موافقة ذلك للمعقول والجائز أو مخالفته لهما.
ولا يفوتني أن أذكر هنا أن شاعرنا شوقي بك في روايته الخالدة (مجنون ليلى) قد ذكر فلتة على لسان ليلى العامرية، فقد ذكرت المسكينة اسم قيس مرتين دون أن تشعر، ولما نبهتها زميلة لها إلى ذلك قالت: وأي شيء في ذلك لو ذكرت قيساً ثلاثا. ثم قالت (يا قيس ناجي باسمكالقلب اللسان فعثر)
دكتور عبد الفتاح سلامة طبيب مستشفى برقاش