مجلة الرسالة/العدد 548/حرية أحرار. . . وحرية عبيد
مجلة الرسالة/العدد 548/حرية أحرار. . . وحرية عبيد
(إلى الإنسان الحر عباس محمود العقاد)
للأستاذ نظمي لوقا جرجس
هل رأيت حماراً سعى يوماً إلى غير طعام أو شراب أو ضراب؟ لا أظن!
فما لغير هذا (تسوقه) طبيعته وضرورات حياته! وهو لا حياة له وراء هذه الضرورات، ولا مذهب له غير أن تقضي من أقرب سبيل وعلى أيسر وجه
هكذا جميع الحمير من جميع الأجناس. . . ذوات الأربع منها وغير الأربع على السواء!. . .
يعضه الجوع، أو ينخسه في الحين بعد الحين. . . ولكنه مركوب للجوع في جميع الأحيان؛ فهو حين ينقصه الطعام مشغول بالبحث عنه، وهو مشغول وقت حضوره بالإقبال عليه بالقلب والسمع والبصر. ولا شغل بعد هذا ولا انشغال، إلا أن يكون انتظار فراغ جديد يملؤه في غير فتور ولا ملال. فهو جائع حين تخلو معدته من الطعام فتطالبه به، وهو جائع كذلك والطعام ملء معدته وبين يديه. إنه جائع على الدوام، ولا ذنب له في قلة الخلاء أو ضيق الأمعاء! هذا مخلوق، الجوع محور حياته وفلكها الذي فيه تدور!
وغير جائع - وإن جاع حياته كلها! - من تتلوى أحشاؤه، لأنها لم تحظ منذ أيام بما يقيم الأود، لأنه إذا حضر الطعام وسكتت المعدة كانت له في الحياة أشواط ليست كلها قضاء ضرورات ولبانات، وإن كانت كلها إرضاء نفس تطلب الكمال في تحقيق ذاتها، باعتبارها معنى قائماً بذاته في الحياة، ونغمة مستقلة في الوجود
فالنفس الحية بمعنى الكلمة هي التي لها معنى خاص لوجودها. وهي التي تحس في أعماقها دوافع ذاتية مستقلة عن دوافع الحياة الخارجية وموانعها
الحجر بغير (حركة) ذاتية. . . لأنه لا يتحرك بذاته وإنما بحركة غيره
والحيوان (حركة) ذاتية. . . لأنه يتحرك بذاته وليس بحاجة إلى غيره كي يتحرك
والحمار بغير (دوافع) ذاتية. . . لأنه لا يريد وإنما تريد له خلقته الشائعة بينه وبين أفراد نوعه
والشخص ذو دوافع ذاتية، لأنه يريد بوجه خاص بخلاف الطبيعة الشائعة بين جميع الأف ودوافع الحياة الشائعة أن تطلب منك القوت واللذة وما في حكمها مما يطلب من جميع النظراء في النوع. وهذه هي كل الدوافع التي تحرك الحمار، فإذا فرغت أو كفيت لم يخرج مع هذا عن تكرارها والانحصار فيها، لأنها هي وحدها الموجودة بالنسبة إليه
فالحمار ليس بذي وجود شخصي أو (عالم نفسي) مستقل بدوافعه الذاتية بعيد عن ضرورات الحياة الشائعة في النوع
ولكنه - وككل حيوان بغير تخصيص - مجرد مدفوع بدفعات الحياة ودوافعها. وليس بذي دفعة في الحياة إلى جانب ذلك الاندفاع. فهو نسخة شائعة أو رقم في نوع. . .
أما النفس التي لها وجودها الخاص، فهي النفس التي لها مطالبها وغاياتها التي تتميز بها عن بقية أفراد جنسها الذين يطابقونها في تلقي دفعات الحياة الشائعة، ولكنهم لا يطابقونها في دفعات حياتها الخاصة. . . التي هي عالمها النفسي الخالص لها بغير شريك. . .
تلك النفس ليست نفس جائع أو معدة مبطان، لأن الجوع ليس كل ما لديها من علامات الحياة. . . ويستوي بعد هذا أن يجهل الجوع صاحب تلك النفس، وإن يعوزه الطعام طيلة أيامه. والحمار بعد جائع أو صاحب جوع، ولو لم يغب عن فمه المذود طرفة عين!
ولكن هذا وذاك قد يتشابهان في السمت أو في الاسم، وقد تضمهما - بغير تفريق - رتبة واحدة في مملكة الحيوان!
افترى حياة المعدة وحياة النفس بعد هذا سواء؟
افترى الاسم الواحد يحمل معنى واحداً عند هذه وتلك؟
افترى الحرية واحدة بعد هذا، لا في معسكرين متقابلين، بل عند أصحاب الفريق الواحد، لأن الفارق فارق الطبائع لا فارق الأوضاع؟
إن اللقمة الواحدة يأكلها اثنان على مائدة واحدة، ولكنها عند هذا غيرها عند صاحبه. . .
فهي في هذا الجانب من المائدة أصل المسعى وغاية الطلاب. وهي في الجانب الآخر منها عارض يجب رفعه من الطريق التي ليس هو من غايتها في كثير ولا قليل. . .
وحساب اللقمة بعد كحساب كل شيء يشترك في مظاهره اثنان في هذه الحياة. لأن الحياة نفسها بمعناها الأصيل مختلفة كل الاختلاف خلف تشابه المظاهر والسمات
فهل الحرية بعد هذا يمكن أن تكون واحدة خلف وحدة اللفظ على لسان هذا وذاك؟ كلا!
فكما أن هناك جوعة عارض وجوعة مبطان، فكذلك هناك حرية أحرار وحرية عبيد!
أما الأحرار، فالحرية لديهم هي عين حياتهم النفسية: تفيض نفسهم بالدوافع الذاتية، فإذا بالحياة من خارج تنازعها الميدان، ولا تتركها طليقة تأخذ مداها كما تريد. فتحس النفس - لأنها حرة أصلاً وبطبعها وحكم وجودها الشخصي - أنه محال بينها وبين الاستمتاع بحريتها. فتطلب لذلك الحرية كمال موجود طبيعي، لا قضاء مطلب مطلوب من الخارج طلب فرض واضطرار!
أما العبيد فالحرية عندهم أن يطلبوا الطعام - حاشا! بل أن تطلبهم معداتهم بالطعام - فلا يحال بينهم وبين الطعام. وهم - إلى هذا - تطالبهم غريزة (هي معدة من نوع آخر لا أكثر ولا أقل) أن ينفلتوا من القيد انقلات البهيم يأنف العقال إذا نسى الشبع وأحس البطر. أو حين يعضه الجوع فيدفعه إلى السعي وراء القوت
آية الحرية عند الحر ألا يرغم على ما لا يريد، وأن تترك إرادة حياته الفردية أو النفسية بغير حد يقيد مداها. ويحول دون كمال وجودها، سواء أكان ذلك من صنع المخلوقات أو كان من طبيعة الخلقة الشائعة.
فهو يرفض كل إرادة على الإطلاق، لأن له إرادته الخاصة التي يسعى لتحقيقها بغير قيد
وآية الحرية عند العبد ألا يرغم على مالا تريده له طبيعة خلقته الشائعة بين أفراد نوعه. .
إنه بغير إرادة خاصة - إذ هو بغير عالم نفسي - فهو لهذا لا يفهم أن تكون لأحد إرادة، وبالتالي أن تسيطر عليه إرادة أحد. . .
ولكنه يحس إرادة الحياة الشائعه وهو كله لها. . . فيكره لهذا أن يشارك تلك الإرادة مريد
الحر صاحب نفسه، والعبد ملك خلقته
وكل يذود بعد هذا عن ملكه: فالنفس تأبى الشريك في إرادتها وعالمها. . . والخلقة الشائعة تأبى الشريك في مملوكها المسخر. . . وهو يكره أن يتقاسمه سيدان، فيكافح الدخيل ليخلص للأصيل. . .
والكفاح هنا وهناك يقال إنه في سبيل الحرية!
فمن ينكر كل إرادة، لأن عالمه لا يتسع لغير حياته الخاصة وإرادتها، فهو طالب حرية ومن ينكر كل إرادة - لا لأنه صاحب إرادة خاصة تريد أن تأخذ مداها من السلطان، بل لأنه بغير إرادة على الإطلاق غفل في الحياة مسخر لها، لأن إرادتها وحدها كافية لديه ومعقولة - فهو كذلك طالب حرية. . .
أهذا كلام أيها الناس؟ بلى محض كلام! فما كل حرية بحرية أحرار
وليس المعول على طلب الحرية، ولكن المعول على الحرية نفسها وكيف تكون. . .
ولنا إلى مقوماتها رجعة بعد هذا أو رجعات
(أسوان)
نظمي لوقا جرجس