مجلة الرسالة/العدد 548/الرسالة
مجلة الرسالة/العدد 548/الرسالة
في عامها الثاني عشر
في بصيص من الأمل يلمع في دياجي الآفاق استهل عامنا الوليد!! وهذا البصيص قد لاح من الشرق أيضاً من صحراء لوبيا! ولصحاري الشرق أسرار يبوح بها القدر كلما قضى الله أن يخرج العالم من ظلمة إلى نور! ولرب السموات والأرض نظام يدبره على مقتضى أمره. فلا الزلزال ولا الإعصار، ولا الحديد ولا النار، ولا الدمار والموَتان، ولا الجبروت والطغيان، ولا النارَّية النازَية، ولا الفاشيَّة الفاشِيَة، تستطيع وإن تظاهرت أن تعقب على حكمه، ولا أن تبدل ما سبق في علمه.
كان العالم كله في النصف الأول من العام الذاهب يتيه في يِدٍ قواتم الأعماق من مجاهل الأرض، نجومها رجوم، وآفاقها غيوم، ورياحها سموم، ومسالكها لغوم، وهواتفهاِ جنة. وكانت الوحوش النازية تزأر في جنباتها السود فتردد زئيرها الرعود، وتنزل بوعيدها الصواعق. ثم أراد مالك الملك ألا يشركه في ملكه أحد، فبدا في غياهب (العلمين) ودياجي (ستالنجراد) شعاع من نوره، فإذا الظلام يشف والطريق يستبين وإذا اليأس يتحول رجاء، والزئير ينقلب عواء، والمارد الجبار يعود إلى القمقم، والتنين الخرافي يرتد مثخناً بالجراح إلى قفصه الهائل، وقد شرع مخالبه الكثيرة بين قضبانه الطوال الغلاظ ليعوق القدر الهاجم ويؤخر الأجل المحتوم!
في هذا الشعاع الإلهي الذي هدى المجوس ليلة ميلاد المسيح، وضلل المشركين يوم هجرة محمد، ثم عاد فبين للإنسانية نسم الطريق في معامي هذه الحرب، تستقبل (الرسالة) عامها الثاني عشر، وهي باعتبارها لساناً من ألسن الإصلاح الإنساني تجد بهذا التحول الحربي والسياسي روحاً وغبطة: ترتاح لأن تباشير النصر تكاد تنبئ عن سلام رخي يرد الوئام على الناس ويعيد النظام إلى الدنيا؛ وتغتبط بعقبى هذه الحرب التي لا نعت لها في لغات الناس إذا استطاعت نارها التي لم تخب ساعة في أربع سنين أن تنفي خبث الغرائز عن العصر السماوي في ابن آدم المسكين. وما أسعد الإنسانية جمعاء إذا عوضها الله من ملايين الأنفس التي أزهقت، ومن قناطير الذهب التي أنفقت، ومن آلاف المدن التي أحرقت، تلك الأماني العذاب التي اشتمل عليها ميثاق الأطلسي، وعبرت عنها حريات رزفلت! لقد ظلت هذه المنى دعوة الدين ورسالة الحكمة منذ هبط هذه الأرض آدم؛ فكانت تقص كالأحلام، وتسمع كالأنغام، فتهدهد الغرائز العارمة ساعة الشبع والغفوة، فإذا انتبه الإنسان على وخز الحاجة كثر عن الناب وشمر عن المخلب، ثم يفعل ما يفعل كل حيوان من كل جنس. فلما جاءت المدنية لم تزد على أن جعلت للناب غطاء من الذهب الوهاج، وللظفر غشاء من الصبغ القاني! فهل آن لعقول الناس أن تفهم عن وحي الله؛ وللخلائق المكسوبة بالتهذيب أن تتغلب على الغرائز الموروثة بالفطرة؟ لا نظن ذلك. إنما هي القوة التي تحولت بتأثير الكثرة والثروة إلى تهديد مستمر: وهي الحرب التي تطورت بتسخير العلم والفن إلى فناء عام! فإذا فكر قادة الإنسانية اليوم أن يحسموا أسباب الحرب فيما بقى من عمر الدنيا، فذلك لأن الحرب المقبلة معناها انفطار السماء وانفجار الأرض وقيام الساعة. والنزاع الدولي مهما اختلفت دواعيه نزاع على مادة الحياة. فإذا كان يؤدي إلى الفناء المطلق، وجد في أصل الفطرة الإنسانية ما يمنعه. والأصل في طبيعة الحرب أن تنتج النصر من قوة وضعف. فإذا تكافأت القوى بطل عملها أو تفانت. وكل دولة من الدول التي تمتاز اليوم بكثرة الأرقام في عدد الأنفس والأموال ومعاهد العلم ودور الصناعة، تستطيع أن تعبئ الجيوش وتهيئ الأسلحة، ولكنها لا تستطيع أن تضمن الغلب؛ فلا مناص إذن من تحالف دولتين أو ثلاث منها لتبطل التكافؤ وتثقل الكفة. ولا يدوم هذا التحالف الحتمي بين الدول المختارة لحفظ السلم إلا إذا انقدعت نفوسها عن الطمع والأثرة. لذلك كنا متفائلين بنتائج هذه الحرب إذا دارت دوائرها على المحور؛ فإن جنوح الأحلاف إلى تحكيم العقل المسلح في النزاع، وتوخي العدل الممكن في القسمة، وإيثار التبادل الحر في المعاملة، هو حلم الأمم الضعيفة بطبعها في العدد والعدة.
على إن سلطان العقل والعدل وإن قوى أثره في نظام العالم المرجو لا يضمن وحده سلامة شعب اجتمعت على أهله القلة والذلة والفرقة والجهالة؛ فإن لهذه الصفات الخسيسة أثرها قي تخفيف الموازين وتخفيض القيم. ولن تستطيع ولو حرصت أن تعدل بين متفاوتين في العقلية والحرية المدنية والقوة. ولا يستوي في طلب الحق أو الدفاع عنه واحد وجماعة. والدول الصغيرة كالآحاد قوتها في أن تجمع. ودول البلطيق والبلقان والشرق الأدنى قوى متفرقة؛ فلو تجمعت المتجاورات منها لكان لها في الحرب والسلم شأن غير هذا الشأن. وإن العروبة التي فرقتها المطامع ومزقتها الأحداث قد أدركت فضل تعاونها في حادث لبنان القريب فأخذت تعمل على أن تكون يوم يجتمع الناس للصلح وحدة سياسية قي أي صورة من الصور نرجو أن تنتظم دولها جمعاء من المحيط إلى المحيط
اللهم رحماك ورضاك! هذا خامس شتاء يقضيه عبادك في زمهرير جهنم! ونار الطاغين يا أعدل الحاكمين غير نارك، يصلاها البر والفاجر! لم يبق في العالم المحروب صدر من غير بلبلة، ولا بلد من غير زلزلة، ولا أمة من غير أزمة! فاجعل اللهم هذا العام حداً لهذا البلاء الشامل!
ربنا اصرف عنا العقاب إنا براء، وخفف عنا المصاب إنا ضعفاء، واكشف عنا العذاب إنا مؤمنون
احمد حسن الزيات