انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 548/أغنية الرياح الأربع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 548/أغنية الرياح الأربع

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 01 - 1944


1 - أغنية الرياح الأربع

لشاعر اللذة والجمال علي محمود طه

للأستاذ دريني خشبة

هكذا أصبح الشاعر المبدع (علي محمود طه) أغنية في فم الجيل الجديد. وهكذا أصبح شعره إحدى أناشيد مصر الحديثة التي تهتف بها في جنات الجمال، وتتغناها في بساتين الحب، وتغازل بها روح الفن، وتحفز بموسيقاها همم الشباب، وتعطر بأريجها أجواء المجتمع، وتثبت بها شخصيتها في دنيا الشعر العالمي

انتظروا يا أصدقائي الشعراء!

انتظروا. فو الله إني لأعرف لكل منكم فضله، ومسجل، إن عشت لكل من بلابلكم يده، وما بدأت إلا بواحد منكم كنت أنتظر أن يفي بوعده الذي وعد منذ سنوات عشر حتى أنجزه، وأرجو أن يأخذ قي إنجازه إلى ما يشاء الله

أما كيف أنه وعد وعداً ولم ينجزه إلا بعد سنوات عشر، فمرجعه إلى وفاة شوقي أمير الشعراء رحمه الله وغفر له، وذلك أنه كان قد ألقى قصيدة من نظمه في رثاء الشاعر الخالد، في حفلة أقامتها ممثلة الشوقيات الأولى (السيدة فاطمة رشدي) في يناير سنة 1933، يقول فيها الأبيات التالية التي علقت بذاكرتي طول هذه السنوات العشر:

أيها المسرح الحزين عزاَء ... قد فقدت الغداة أقوى دعامهْ

ذهب الشاعر الذي كنت تستو ... حي وتستلهم الخلود كلامهْ

واهب الفن قلبه وقواه ... ومصافيه ودَّه وهيامهْ

رب ليل بجانبيك شهدنا ... قصة الدهر روعة وفخامهْ

أسفر الشعر عن روائعه في ... ها وألقى عن الخفاء لثامهْ

فأعد عهده، وأحي ليا ... ليه، وجدد على المدى أيامهْ

(ولك اليوم همة في شباب ... ملئوا العصر قوة وهَمامهْ)

نزلوا ساحه يشيدون للمج ... د وشقوا إلى الحياة زحامه

فاذكروا نهضة البيان بأرض ... أطلعت في سمائها أعلامه

إنها أمة تغار على الف ... ن وترعى عهوده وذمامه (لم تزل مصر كعبة الشعر في ال ... شرق، وفي كفها لواء الزعامه)

إن يوماً يفوتها السبق فيه=لهو يوم المعاد، يوم القيامه!

كنت أردد هذه الأبيات ثم أبحث عن علي محمود طه فلا أجده إلا في قصيدة أو مقطوعة تسفر بها إلينا جريدة أو مجلة، حتى لقيته في المقتطف ذلك اللقاء الكريم المفاجئ، في منظومته الطويلة (الله والشاعر). . . فقلت: نفحة أرجو أن تتلوها نفحات. . . وكان علي محمود طه في هذه المنظومة الرائعة عاصفة مكبوتة تريد أن تنطلق. . . أو تريد أن تحاج الأرض والسموات

ما أثمت روحي ولا أجرمت ... ولا طغى جسمي ولا استهترا

عناصر الروح بما ألهمت ... أوحت إلى الجسم فما قصرا؟

فلما أتيت على آخر المنظومة

فابتهلي لله، واستغفري ... وكفري عنك بنار الألم

وقدمي التوبة، واستمطري ... بين يديه عبرات الندم

رثيت له وأعذرته

ثم ملأ أيدينا الممدودة (بالملاح التائه) فبادرت إلى (الله والشاعر) أستعيدها، وأستغفر الله لهذا البلبل الشادي. ثم ذكرت رثاءه لشوقي فطويت الصفحات إليه، ووقفت عند هذا البيت:

أيها المسرح الحزين عزاء ... قد فقدت الغداة أقوى دعامه

فطويت الملاح التائه، وجلست مسترخي الأعصاب شارد اللب، لا أفكر لا في مسرحنا هذا الحزين، وأدبنا ذاك الشاحب؛ فلما عدت إلى نفسي، أو عادت إلي نفسي، أخذت أقرأ حتى استوقفني هذا البيت:

ولك اليوم همة في شباب ... ملئوا العصر قوة وهمامهْ

فوجدتني أردد بيت شوقي.

شباب قنع. . . . . .

رددته مرتين ثم أمسكت، فلما قرأت هذا البيت:

لم تزل مصر كعبة الشعر في ال ... شرق، وفي كفها لواء الزعامه

ذكرت وفود الشرق التي بايعت شوقي في بيت حافظ، فطويت الملاح التائه وانصرفت عنه زمناً طويلاً. . . ووالله ما انصرفت عنه قالياً أو سالياً، لكنني ذكرت ما وعدنا به علي محمود طه ولما ينجزه. . . فتجدد حزني على شوقي. . .

ومضت سنون سبع، وطلع علينا شاعر اللذة والجمال بليالي ملاحه التائه، وبه تلك المجموعة الشائقة من روائعه التي قرأناها كلها في الصحف، ثم ذكرت وعده الذي وعد، وأنه لم يف لكعبة الشعر في الشرق بشيء من هذا الوعد، فرحت أردد الذي رددته من قبل من شعر علي محمود طه:

أيها المسرح الحزين عزاء ... قد فقدت الغداة أقوى دعامه!

ثم طلع علينا الملاح التائه (بأرواحه الشاردة)، فقلت: لا بأس. . . روح الشاعر تعانق أشباح أشباهه! ومن يدري؟ لعله لا يزال يستعد. . .

ثم فاجأنا (بأرواح وأشباح) فلما قرأتها فغمني فيها أريج من دانتي. . . إنها رحلة الشاعر إلى السماء، حملته إليها ربة الشعر:

إلى قمة الزمن الغابر ... سمت ربة الشعر بالشاعر

يشق الأثير صدى عابرا ... وروحاً مجنحة الخاطر

مضت حرة من وثاق الزمان ... ومن قبضة الجسد الآسر

وأوفت على عالم لم يكن ... غريباً على أمسها الدابر

فلما فرغت منها، وأفقت من حلمها اللذيذ، سمعت رجع أصدائها تملأ أذني من منظومته القديمة (الله والشاعر)، فعدت أستغفر له الله. . . وأشبهه بالدهر الذي يقول فيه أبو العلاء:

يا دهر يا منجز إيعاده ... ومخلف المأمول من وعده!

لولا هذا الجمال الذي عوضنا به مؤقتاً، والذي أودعه أشباحه وأرواحه

ثم حيانا علي محمود طه بزهر وخمر، وكنا ننتظر البشرى الثمينة التي كان قد زفها إلينا صديق عزيز، ثم ملأ أيدينا بالبشرى نفسها. . . لقد أنجز علي محمود طه ما وعد. . . لقد أصدر أغنية الرياح الأربع! ولقد أصدرها باقة يانعة من السحر والشعر والجمال والخيال

حانة جميلة على شاطئ فينيقية الساحر في ثغر ببلوس حيث وجدت إيزيس جثمان أخيها وزوجها أوزيريس، في ميثولوجيا المصريين القدماء، يملكها ويديرها خمار يوناني يدعى أرسطفان، لا يهمه من الحياة إلا حطامها الفاني. . . وله زوجة رائعة الجمال لا يهمها من الدنيا إلا أن تملك منها جلباباً أو تزهي فيها بحلية. وقفت تساعد زوجها في تنظيف الحانة وتنظيمها، ووقف زوجها يداعبها ويلاعبها. وراحت هي تدل عليه وتتيه، وتستنجزه ما وعدها من جميل النعم، فإذا مد يده يداعب خدها الناضج أو فمها المفتر، اقتحم الحانة شاعر مصري جواب آفاق يدعى باتوزيس، يحمل على كتفه كل ما يملك من عرض دنياه. . . قيثاره و. . . قلبه و. . . أمانيه. . . تلك الأماني التي لا تزيد على كأس يشعشع بها أحلامه، أو أغنية يسكن بترديدها آلامه، أو قينة يريق تحت قدميها أنغامه؛ وما أرخص هذه الأماني في حانة أرسطفان هذا الببلوسي!

ويرى باتوزيس زوجة الخمار، فيعتمد القيثار ويتغنى أعذب الأشعار؛ إلا أن أرسطفان يضيق به وبأشعاره، حتى إذا قال باتوزيس

لو كنت في طيبة يوماً معي ... رأيت باتوزيس في المجلس

يسقيك من خمرة كهَّانها ... مصرية عذراء لم تُمسس

انتفضت زوجة الخمارة الحسناء لذكر طيبة، ولذكر مصر، وتسائل الشاعر عن ملاعب صباها في وادي النيل، فيجيبها ودموعه تترقرق قي عينيه شوقاً إلى مراتع حبه وجنة قلبه

أي صدى هزَّني ... وأي حلم عجاب

هل لي إلى موطني ... يا ربّتي من إياب؟

يا ربتي رددي ... هذا النداء الجميل

اليوم أم في غدٍ ... أرى ضفاف النيل؟

وتقدم الزوجة الحسناء بيدها البضة وأناملها الغضة كأساً من الخمر إلى باتوزيس، ويأخذ الخمار وزجه والشاعر المصري في حديث طلي طويل عن مصر، تقطعه ضجة يسمعونها من بعد، وهي تقترب، فيخبرهم باتوزيس أن اليوم عيد البحار، وأن البحارة المقبلين نشاوى قدموا ليحتفلوا بعيدهم

ربابنة السفن المواخر أقبلوا ... يحيّون عيد الماء عيد السفائن

يلوحون من أقصى الطريق بموكب ... تصايح فيه كل نشوان ماجن

ألا حبذا عيد البحار وحبذا ... شرابيَ فيه أو شجيُّ ملاحني!

ويخشى أرسطفان على زوجته من هؤلاء السكارى العزابيد: حبيبي أخشى عليك سكرهم في حانتي فاجتنبيهم واذهبي

فتسأل زوجها:

مم تخاف؟ فتنة؟ أم غَيْرةً؟ ... تظن بي سوءاً؟ أما وثقت بي!

فيضحك أرسطفان، ويخبرها أن هؤلاء البحارة إنما يغشون الشواطئ لخطف الحسان

إني أخاف عليك وسوسة الطلي ... في كأس عربيد الصبا نشوان

أرسى سفينته هناك كأنها ... مقصورة العشاق في بستان

إن يَدْع زائرة له فسبيلها ... سوق الرقيق وعالم النسيان

(للكلام بقية)

دريني خشبة