مجلة الرسالة/العدد 547/مسابقة الأدب العربي
مجلة الرسالة/العدد 547/مسابقة الأدب العربي
2 - ديوان أيدمر المحيوي
للدكتور زكي مبارك
حياة الشاعر
في الأخبار التي جمعها الأستاذ أحمد نسيم - وهي على قلتها كل ما يمكن الوصول إليه في هذا الوقت - سكوت عن العمل الذي كان يتعيش منه هذا الشاعر المجيد، فلم يكن كاتب إنشاء كما كان البهاء، ولا كان يتولى إدارة أحد الدواوين، كما كان يتفق لبعض الشعراء
والظاهر أنه كان يتكسب بشعره، كما تدل الأبيات الآتية، وهي من قصيدة يمدح بها الملك الكامل، ويذكر ظفره بالفرنج يوم قصدوا دمياط:
أشكو الخمول إلى علاك فإنني ... فيما أقول لمحسنٌ ومجوِّدُ
أُبدي البديع ولا يزال ظلهُ ... ظلي ومنه ما يسوء ويكمد
إن القريض وإن تكاثر ساكنوِ ... أفيائه للعبدُ فيه الأوحد
لكنه أدناهمُ قدراً إذا ... وردوا وأغلاهم إذا ما أوردوا
ومعنى هذا أن الشعر نفع من ليسوا في مثل منزلته من الفصاحة والبلاغة، وأنه برغم براعته ظل من الخاملين
وهنالك أبيات حزينة نص فيها على رضاه بالمقسوم له من دنياه، مع أنها في قصيدة مديح، وهي قوله بعد التشبيب:
لم تعطني الأيام مطلب همتي ... من رفدها فأخذت ما تعطيني
ورأيتُني سخطي يدوم إذا أنا ... لم أرض إلا بالذي ترضيني
حالٌ لعمرُك دون قدري إنما ... أرضى بها نظراً إلى من دوني
وهي أبيات في غاية من النفاسة، ومنها نعرف أنه كان مقلقل الحياة بين العطاء والحرمان
الغزل والتشبيب
المختارات التي بقيت من ديوان أيدمر تدل على أمرين: الأول أنه لم يكن يبدأ جميع قصائده بالنسيب، كما كان يصنع اكثر الشعراء، وهو مذهب حاربه المتنبي حين قال: إذا كان مدحٌ فالنسيب المقدَّمُ ... أكلُّ فتىً قد قال شعراً متيّم
والأمر الثاني أن النسيب عنده كان في الأغلب من فواتح المدائح، كالذي رأينا في قصيدته القافية، وهو يذكر يوم التخليق بالمقياس
ولو ظفرنا بديوان أيدمر كاملاً لعرفنا مذهبه في التشبيب، فمن المحتمل أن يكون خصه بقصائد طوال أو قصار، كما فعل البهاء
أقول هذا لأني أستبعد أن يكون الغزل نافلة عند من يقول:
ومُضْنَي الخصر لا يدري يقيناً ... أوردٌ وجنتاه أم حُمَيّا
أتاني زائراً من غْير وعدٍ ... وقد مالت لمغربها الثريا
فوفَّى دَين شوقي حين وافى ... وأحيا مَيْتَ أنسى حين حيّا
وبتُّ أرى يقين الوصل شكا ... وقد ملأ الهوى منه يديّا
أفكّر في الجفا أنّى تقضَّى ... وأعجب للرضا أنَّى تهيّا
والمعاني هنا مألوفة أو مطروقة، كما قلت في مثلها من قبل، ولكنها في حيوية قوية تشهد لصاحبها بالابتكار والابتداع
وأين من يلاحظ كلمة (يقيناً) في البيت الأول، وهي من القوة بمكان، مع أنها لو وقعت في غير هذا الموقع لكانت من المبتذلات، وسر قوتها يرجع إلى حيرة المحبوب في إدراك سحر وجنتيه الورديتين أو الخمريتين، وهل يعرف الورد أنه ورد؟ وهل تعرف الخمر أنها خمر؟
والبيت الثالث أعجب وأغرب؛ فالعاشق يرتاب في اليقين، لأنه فوق ما تسمح به الأوهام والظنون، وقد أوضح ارتيابه بهذا البيت:
أفكر في الجفا أنّى تقضّى ... وأعجب للرضا أنَّى تهيّا
ولهذا الشاعر لوعة أفصح عنها حين قال:
ذُكِر الحِمَى فأطال رجع أنين ... وغدا يواصل زفرةً بحنين
واعتاده وَلَهٌ يقَسِّم لبَّهُ ... ما بين حالة حيرةٍ وجنون
وجَرَتْ محاجرُهُ دماً فكأنما ... شرقت بذوب فؤاده المحزون
وَلها يكفكف دمعه بشماله ... أسفاً ويمسك قلبه بيمين يا منزلاً قضت الصبابة لي به ... ذمم الصبا ومآرب العشرين
أيام البس للغواية ثوبها ... وأجر ذيل خلاعة ومجون
وأجيب داعية التصابي ملقياً ... رَسَني إليه يضل أو يهديني
ليت الذين ولعت من كلَفٍ بهم ... حفَلوا بحرّ تلهفي وحنيني
قد كان يضحكني الزمان بقربهم ... فاليوم عاد ببعدهم يبكيني
وأقول من جديد إن المعاني ليست جديدة، فقد طاف بها كثير من الشعراء، ولكنها في نظري جديدة ومبتكرة، لأن الشاعر يحسها بأقوى ما يكون الإحساس، أليس هو الذي يقول في مطلع إحدى المدائح:
طاف بنا والليلُ في ثوب خَلَق ... يلمع من خلاله نور الفَلَق
والنجم يخبو تارة ويتألق ... مثل عيونٍ كابدت طول الأرق
خيالُ من أسكنَ جنبيَّ القلق ... جبينهُ الشمس وخدُّه العَبَق
يبدو فما أرمقه فيمن رمق ... يأمرني الوجد وينهاني الفَرَق
وهنا أقول إن هذا خيال لم أجده عند غيره من الشعراء، وهو بهذا الخيال وثب وثبة تطرب الإنس والجان
وعلى المتسابقين أن يتأملوا في معاني هذه الأبيات، فقد يكون فيهم من يعرف من أسرارها مالا أعرف، والشعر كالحسن تتفاوت في فهمه الأذواق
شاعر مبدع
هو أيدمر الذي أراد أن يأتي في المديح بالطرب والرقص، فهو الذي يقول في ممدوحه بعد ذلك النسيب:
ألذَ من وصف الغزال المنتطقْ ... ومن مناجاة الخيال إن طرَقْ
مدحُ فَتًى ذكراه مِسكٌ ينتَشَقْ ... لكنها في حلق شانيه شَرَق
صدرٌ بهىُّ الخَلق مرضىَّ الخُلُق ... خوَّله الله تعالى ورَزَقْ
من المعالي كل ما جلّ ودقّ ... سابقَ أرباب المساعي وسبقْ
مشياً وهم بين ذميلٍ وعَنَقْ ... لو قذف النجم بعزم لاغترق
أو ضرب البحر بكفّ الفَرَق ... أو رجم الطود بحلم لصعق وهذا شعر، بل سحر، وهو في ديباجة أيدمريه، لا بحترية، لأن الشاعر هنا مفترع لأبكار المعاني وهي مدثرة بأفواف الخيال
الموشحات
نترك للمتسابقين مراجعة ما ألمعنا إليه بإيجاز، لأن الغرض هو التوجيه إلى ما سيرد في أسئلة الامتحان، وهي لم تخرج عن العناصر الأساسية، العناصر التي نشير إليها في هذه الأحاديث
ونواجه مسألة جديدة هي اهتمامه بالموشحات، كالذي صنع في معارضة الموشح الذي مطلعه:
أيها الساقي إليك المشتكى ... قد دعوناك وإن لم تسمع
ولم يذكر جامع المختارات صاحب هذا الموشح، ولكن الأستاذ أحمد نسيم نص في الهامش على أنه من نظم أمير المؤمنين ابن المعتز العباسي
وما قاله الأستاذ أحمد نسيم هو ما كان يقوله جميع مؤرخي الأدب في العصر الحديث، وهو أيضاً ما قلته في الطبعة الأولى من كتاب مدامع العشاق، ولكني بعد ذلك ارتبت في نسبته إلى ابن المعتز فقلت في الطبعة الثانية إنه لأحد الشعراء
ثم اهتديت إلى صاحبه فيما بعد فكتبت عنه كلمة في جريدة البلاغ سنة 1934، وهو محمد بن زهر الأندلسي، ومثله موشح ابن بقي القرطبي وأوله:
غلب الشوق بقلبي فاشتكى ... ألم الوجد فلبّتْ أدمعي
أيها الناس فؤادي شِغُف
وهو من بَغْي الهوى لا ينصف
كم أداريه ودمعي يكف
أيها الشادن من علمكا ... بسهام اللحظ قتل السَّبُع
ولا أعرف في هذه اللحظة أي الشاعرين أسبق: ابن زهر أو ابن بقي، لأني أكتب هذا المقال في ليلة مطيرة وفي مكان بعيد من المراجع الأدبية، فليسأل المتسابقون أساتذتهم عن المبتكر والمعارض في هذين الموشحين
والمهم هو النص على أن أيدمر فاز وهو يعارض ابن زهر، فقد استطاع أن يقول: عَهِدَ البينُ إلى عيني البكا ... ثم أوصاها بأن لا تهجعي
وسقى قلبيَ من خمرته
فهو لا يعقل من سكرته
فمتى يُنقَذُ من غمرته
في سبيل الحب قلب هلكا ... شيَّع الركبَ ولما يرجع
هزّ عِطف الغصن من قامتهِ
مُطلعاً للشمس من طلعته
ثم نادى البدر في ليلتهِ
أيها البدرُ تغيّبْ ويحكا ... ما احتياج الناس للبدر معي
ثم مضى الشاعر فقال في ممدوحه ما شاء، ولكن الفن غلب عليه، فختم الموشحة بهذه الأقباس:
فاقتدحْ بالمزْج نار القَدَحِ
نصطلي إنْ نحن لم نصطبح
وأغنَّيك ولم تقترحِ
أيها الساقي إليك المشتكى ... قد دعوناك وإن لم تسمعِ
أفانين طريفة
قد عارض أيدمر بعد ذلك موشحة ثانية، ولا يتسع المجال للكلام عن الموشحات الأندلسية وتأثيرها في الآداب المصرية، ومن السهل أن يرجع المتسابقون إلى كتاب (بلاغة العرب في الأندلس) لأستاذنا الدكتور أحمد بك ضيف، فقد وفى هذا الموضوع حقه من البيان
والفنن الذي أقصد إليه هو موشحه الذي وصف به الخمر والرياض:
دع الصبا يمرّ في التصابي ... قبل تحلي سكرة الشباب
وانتهز اللذات فالعيش فُرَصْ ... رُبَّ سرورٍ كامنٌ فيه نَغَصْ
قم يا غلامُ هاتها وهاكا ... واعص هوى العاذل في هواكا
أما ترى ظل السرور سابغا ... ومشرب العيش هنيئاً سائغاً
فيْ روضة قيد النظر ... تشكر آلاء المطر ترنو بأحداق الزهر ... تحسبها بعد السَّحَر
قد انتثرْ ... فيها دُررْ
أو انتشرْ ... فيها حَبَرْ
تجلت الشمسُ عليها سافره ... فقابلتْها بنجوم زاهرهْ
ترمقها حين دنا طلوعُها ... بمُقلٍ ترقرق دموعها
تبكي وفي الأوجه بشر الضحك ... فأعجب لها تضحك وهي تبكي
تمايلت تمايُل السقيم ... لما أحست بسُرى النسيم
فأشفقتْ على حَذَرْ ... وفَرقَتْ من الخفر
من قبل أن يُقضى وطرْ ... نود لو كان استمرْ
ذاك العَطَرْ ... لما خطرْ
على الزهَرْ ... ساء وسرْ
بات الندى يُشربها نعيما ... كما يغذِّي والدٌ فطيما
فأصبحتْ ودرعها بليلُ ... تكاد من قطارِه تسيل
وأهدت الصَّبا لها كافورا ... فملأت أردانها عبيرا
كأنما نوّارها المستحسنُ ... ألسنةٌ تنطق فهي أعينُ
تفصح في بث الخبر ... عن الحديث بالنظر
بمقلة فيها صور ... حسناء من غير حور
فمنْ نظرْ ... فقد خَبَرْ
ما قد ظهرْ ... وما استترْ
قد تقولون إن الغزل والوصف هما اللذان منحا هذه الموشحة هذا اللطف، ولكن المدح فيها لا يقل طرافة عن هذا الغزل
وقد أثنى الشاعر على نفسه في ختام هذه الموشحة، وهو فرح جذلان، لأنه يؤمن بأنه من أكابر أهل البيان
الشعر التاريخي
وأريد به الشعر الذي ينظم حوادث التاريخ، وقد نظم أيدمر قصيدة طويلة سماها (الوسيلة المشفعة، في مناقب الخلفاء الأربعة)، وقد يرد عنها سؤال، لأنها تصور فهم هذا الشاعر للعهود الأولى من التاريخ الإسلامي، فمن واجب المتسابقين أن يلتفتوا إليها كل الالتفات أو بعض الالتفات، وموضوع هذه القصيدة مفصل في الكتب المؤلفة عن عصر النبوة وعصر الخلفاء
زكي مبارك