مجلة الرسالة/العدد 546/أزاهير على قبر (وزير)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 546/أزاهير على قبر (وزير)

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 12 - 1943



موت الأديب!

للأستاذ عبد الوهاب الأمين

(ليس التحديق في لوح القدر بأسهل من التحديق في الشمس)

هنري باربوس

توفي منذ عهد قريب الأستاذ عبد المسيح وزير الذي لا يجهله قراء (الرسالة) الأفاضل، والذي كان في ربع القرن الأخير يوالي عمله بشكل متواصل لتغذية اللغة العربية بدم جديد، فأنشأ في خلال هذه المدة من عمله مفردات خاصة، وسبك تعبيرات ذات أثر فعال في الناحية العسكرية والفنية والأدبية في هذا الدور المهم من تاريخ تطور اللغة العربية الحديث، كما أضاف ثروة لا تفنى إلى المفردات التي تصاغ الآن في الحياة اليومية، وجلا عن فن الترجمة وأظهره بأحسن مظهر

مات هذا الرجل في بغداد، فكأنه ورقة سقطت في خريف! سكتة قلبية! أو ضنى أورثه طول الكد وقلة الراحة! أو غير ذلك مما يعتور حياة الأديب في بلاد الرافدين!

فماذا ترك وراءه؟

لقد ترك أهله ومعهم لا شيء!

وما أكثر أن يخلف الإنسان لا شيء!

ليست حياة الأديب في العراق ولا في غيره من البلاد العربية التي لا تفضله كثيراً في هذا المضمار بمجهولة السيرة. فإن أبخس ما يمكن أن يلقاه رجل الفكر والأدب في حياته وما يكابده رجال الأدب في بلاد الرافدين

هذه حقيقة واضحة تذكر في كل مناسبة، وأخص المناسبات لها بالذكر صوت أديب!.

والعجب في حياة العزبة التي يحياها الأديب في العراق أنها تتكرر في الأفراد بهذا الشكل من جهة وتؤكدها من الجهة الأخرى معاملة الجمهور لأولئك الأفراد في حياتهم وبعد موتهم

فقد عاش المرحوم عبد المحسن الكاظمي الذي كان أعجوبة دهره في السليقة الشعرية في مصر، منكور الحق مهملا من العراق والعراقيين، حتى مات، فعرف عندئذ حقه المهضوم وأقيمت الحفلات التأبينية على روحه الكريمة ولذكراه التي لم يأبه لها أحد في حياته!

فهل هو (الموت) الذي يقيم لهؤلاء الأدباء شأنهم؟ وهل هو (جواز السفر) لتقدير أدبهم؟

ليس الموت وحده فيما نظن هو الذي يسبغ على الأدباء قدسيته، بل هو غرض الأحياء من (المنتفعين) في أن ينتفعوا - بعد - من موت الأموات!

فقد مات (الزهاوي) الشاعر الذي تعدت شهرته حدود العراق والعالم العربي إلى أوربا ونسي بعد موته مباشرة

ومات (محمود أحمد) القصاص الأديب، فلم يذكره أحد

ومات (خلف شوقي الداوودي) فلم يشعر به أحد!

وسيموت غير هؤلاء كما مات عبد المسيح وزير على حين فجأة، فلا تقوم في أنفس الناس عليهم سوى بعض ما يتكرم به المتكرمون ويكون أبعدهم في الكرم من يقول: رحمة الله عليه!

هذا الرصافي: وهو الشاعر الذي كانت البلاد العربية بأجمعها تردد أناشيده وأغاريده في وقت من الأوقات:

ما هي حياته الآن وما محصولها؟

إنه يعيش كما يعيش النبات، ولا يجد من يذكره، ولعله يعد أيامه عداً!

وهذا (الصافي) أمثولة البؤس الحي، تنطق أشعاره به، ولعله هو الآخر يحسب ما بقي من أيام حياته

هل يعجز العراق كله بأن يمد في حياة هذين الأديبين - مثلاً - وأن يساعدهما على مد اللغة العربية ببعض الروائع؟

كلا! على التحقيق

ولكنه يفضل أن يموت كلاهما لكي يقول عنه: رحمة الله! لقد كان أديباً فذاً!

لا يملك الأديب أن يكتب في رثاء (وزير) دون أن يكون في طبيعة هذا الرثاء شيء من رثاء نفسه، فالواقع أنه - كان - أمثولة حية للأديب العراقي في بلاد الرافدين!

فقد كان موظفاً أفنى في وظيفته ربع قرن بدون أن يحصل على إجازة يوم واحد، ومات بعد كل ذلك فقيراً! وحاول أن يقوم بأعظم خدمة يستطيع أن يقوم بها فرد نحو أمته ولغته، وتجاهل جميع الصعوبات، وانكب على تهيئة أعظم قاموس إنكليزي - عربي، ولكن الصعوبات لم تتجاهله. بل انكبت عليه بأجمعها حتى اضطر أن يبيع ملازم الجزء الأول من قاموسه العظيم إلى باعة الجبن!

وكم كان يكسب لو أنه انصرف في حياته إلى شيء غير الأدب في هذا البلد؟ وكم كان يسعد هو وأهله لو أنه وضع نصب عينيه - مثلاً - أن يقتني سيارة لوري بدلاً من أن يكون الأول في دراسة نظرية النسبية لأنشتين؟

لقد كان (وزير) رمزاً حياً - حتى بعد وفاته، للأديب العراقي في كل صفاته المثلى

طاب ثراه، وطابت ذكراه

(بغداد)

عبد الوهاب الأمين