مجلة الرسالة/العدد 545/من أدب التاريخ
مجلة الرسالة/العدد 545/من أدب التاريخ
شاعر ومنجم. . .
للأستاذ محمود عزت عرفة
العهد عهد الخليفة المستعين أبي العباس أحمد بن محمد بن المعتصم، ذلك المتولي في الخامس من ربيع الآخر عام 248هـ، إثر وفاة الخليفة المنتصر ولي عهد أبيه المتوكل وقاتله. والشاعر هو الوليد بن عبيد الله البحتري المكنى أبا عبادة؛ أما المنجم فهو جعفر بن محمد البلخي، المكنى أبا معشر
ولم يكن أبعد من هذين الرجلين على عهدهما صيتاً، ولا أثبت منهما في فنيهما مقاما؛ ومع ذلك فقد لقيا أيام المستعين من المجافاة والإعراض وقلة المبالاة ما ضاق معه عيشهما، وانسدت به مسالك الحياة الهنيئة دونهما
فقد كان الأول شاعر المتوكل الأثير. . . شهد بعينيه مصرعه الرهيب على يد ابنه وولي عهده، وسمع بأذنيه - بعد حين - قصة نقض البيعة الموثقة التي عقدها المتوكل لولده المعتز من بعد أخيه؛ فكان حزن الشاعر على الخليفة المصروع لا يوازيه إلا عطفه على الأمير المخلوع
ولما عجلت بالمنتصر ميتته المريبة فلقي بها أول ما يلقاه كل عاق ناكث للعهود، بادر نصراؤه من قواد الأتراك إلى تنصيب المستعين بالله على عرش الخلافة؛ إمعاناً منهم في إقصاء المعتز الذي طال بتدبيرهم حرمانه، وتنزت بسبب ذلك في صدره السخائم والأحقاد عليهم
وزادوا على هذا أن ألقوا بالمعتز في غيابة السجن، مع أخيه المؤيد ثالث أولاد المتوكل وأولياء عهوده؛ فلم يكن الشاعر كالبحتري أن يظهر في مثل هذه الفترة، أو أن يؤمل عند المستعين وشيعته جاهاً. . .
ذلك موجز حديث أبي عبادة؛ أما صديقه أبو معشر فأيسر ما نقول فيه أن المستعين كان يعتد له من الإحسان ذنباً، وينحي عليه ببالغ العقوبة أشد ما يكون ترقباً منه للإحسان والمثوبة؛ حتى لقالوا إنه ضربه مرة أسواطاً على ما صح من حدسه في أمر أخبر بوقوعه قبل حينه، فكان أبو معشر يعجب الناس من ذلك ويقول: أصبت فعوقبت! أمضى الصديقان عاماً من خلافة المستعين وهما أبأس ما يكون حالاً، وقد انعقد واهي أملهما على سجين قصر الجوسق بسامراء، أبي عبد الله المعتز، وكان معتقلاً هناك مع أخيه إبراهيم المؤيد. ولقد كان من حقهما أن يستمسكا بهذه الآمال التي عقداها على الأمير المسجون لما كان يشهدانه من اضطراب حبل السياسة في يد المستعين؛ إذ راح الأتراك يقتتلون بدافع أطماعهم حول دعائم العرش التي أقاموها بأذرعهم، وبلغ من ضعف نفوذ الخليفة يومئذ أن امتدت أيديهم إلى وزيره (أتاش) وهو قائم بين يديه في قصره، فسلبوه الحياة مع كاتبه (شجاع)، وقد حدث ذلك يوم السبت رابع عشر ربيع الآخر عام 249هـ
ومن الطريف أن نرى البحتري - وقد قرت عينه بهذا الحادث دون شك - يبعث إلى المستعين بهذه الأبيات مادحاً ومهنئاً في موضع كانت السخرية فيه أقرب إلى لسانه، والتشفي أعلق بفؤاده:
لقد نُصر الإمام على الأعادي ... وأضحى الملك موطودَ العماد
وعرفّت الليالي في (شجاع) ... و (تاشٍ) كيف عاقبة الفساد
تمادى منهما غيٌّ فلجَّا ... وقد تُردى اللجاجة والتمادي
وضلا في معاندة (الموالي) ... فما اغتبطا هنالك بالعناد!
وما نشك في أن البحتري كان أصدق في شعوره، وأبلغ بالإبانة عن وليجة نفسه، حين انكفأ غب ذلك إلى بيته يناجي خادمه (نائلا) يخفي أمانيه فيقول:
ألا هل يحسن العيش ... لنا مثل الذي كانا؟
وهل ترجع يا نائ - لُ بالمعتز دنيانا؟
عدمت الجسدَ الملقَى ... على كرسي سليمانا. . .
فقد أصبح لِلَّعْن - ةِ نقلاه ويقلانا!
ازداد نفوذ المستعين بين رعاياه تقلصاً، حتى لأصبح (الجسد الملقى) حقيقة كما وصفه البحتري. وانتهى الأمر بأن انحازت إليه شعبة من الأتراك على رأسها وصيفٌ وبُغا؛ وراحت شعبة أخرى يقودها باغر تدبر له الكيد وتمشي حوله الضراء من كل سبيل. ثم قتل باغر بتدبير من حزب الخليفة، فثارت ثائرة أنصاره حتى لم يجد المستعين بدا من الانحياز إلى بغداد (في المحرم عام 251هـ) وتناهت هذه الأخبار إلى البحتري وأبي معشر وهما في معتكفهما، فأقبلا يتداولان في الأمر ملياً، ويجددان من قديم أمنيتهما، وقد أملا أن تطرد الحوادث في طريقها حتى تفضي بهما إلى كل ما يسر ويرضي. . . ثم انبعثا يقولان: وماذا علينا والحال كما نرى، أن نمضي إلى المعتز بالله في محبسه فنتودد إليه ونؤصل عنده أصلاً؟
وطابت لديهما الفكرة فجدا في إنفاذها، واحتالا حتى توصلا إلى لقيا الأمير في معتقله. ولم يكن البحتري قد أعد لهذا اللقاء شعراً، وأي شعر يقال لسجين يترقب الموت في كل لحظة!
على أنه فكر هنيهة حتى استرجع في ذهنه أبياتاً له قديمة كان قد واسى بها أبا سعيد الثغري وهو في معتقله أيام المتوكل، فأعاد تحريرها في رقعة لطيفة، وكان أبو معشر قد هيأ صحيفة في أحكام النجوم سهر على ضبطها وتصحيحها الليالي الطوال
وفي إحدى غرف الجوسق مثل الرجلان أمام المعتز فواسياه بما تهيأ لهما من كلام. ثم استأذن البحتري في الإنشاد، وتلا أبياته من رقعتها. . . كأنه نظمها من يومه:
جُعلنا فداك، الدهر ليس بمنفكِّ ... من الحادث المشكوِّ والنازل المُشكي
وما هذه الأيام إلا منازل ... فمن منزل رحب ومن منزل ضنك
وقد هذبتك الحادثات، وإنما ... صفا الذهب الإبريز قبلك بالسبْك
أما في نبي الله يوسف أسوة ... لمثلك محبوساً على الجور والإفك؟
أقام جميل الصبر في السجن برهة ... فآل به الصبر الجميل إلى الملك
على أنه قد ضيم في حبسك العلا ... وأصبح عزالدين في قبضة الشرك
وأصغى المعتز إلى الشعر في تأثر، ثم تناول الرقعة ودفعها إلى خادمه وقال: احفظ هذه وغيبها، فإن أفرج الله عز وجل عني فذكرني بها لأقضي حق هذا الرجل الحر
وتقدم أبو معشر فقال: إني جئتك والله أيها الأمير بأعظم البشرى وأصدقها. كنت قد أخذت مولدك يوم عقد لك العقد، ويوم عقدت البيعة للمستعين، فنظرت في ذلك، وصححت الحكم لك بالخلافة بعد فتن وحروب تجري. وصح عندي الحكم على المستعين بالقتل، وهاك صورة مما عملت
فتناول المعتز الصحيفة مستبشراً، وشكر للرجلين نبلهما ووفاءهما، ثم وعدهما ومناهما. فخرجا وهما أكثر الناس رضاء وأرحبهم أملاً. . .
وانقضى شهر على حادث المستعين إلى بغداد جرت أثناءه مداولات غير مثمرة، ثم آب الثائرون إلى سر من رأى فأخرجوا المعتز من الجوسق وبايعوه بالخلافة. واضطرمت نار الفتن والحروب عاماً كاملاً خلع في نهايته المستعين، ثم نقل مخفوراً إلى (واسط) حيث قتل بعد أشهر. واستقر أمر الخلافة للمعتز. . . وهكذا صدق فأل البحتري وصحت نبوءة أبي معشر
ومثل الصديقان بعد حين أمام المعتز فهش لهما وبش، ورفع من مجلسهما حتى رمقتهما العيون بالغبطة، ثم قال لأبي معشر: لم أنسك منذ لقيتني، ولقد صح حكمك، وأنا مجر لك في كل شهر مائة دينار رزقاً وثلاثين مزلاً، وجاعلك رئيس منجمي دار الخلافة. ثم قد أمرت لك عاجلاً بإطلاق ألف دينار صلة. . . فقبض أبو معشر ذلك كله من يومه
أما البحتري فقد أنشد في ذلك اللقاء بائيته المشهورة:
بجانبنا في الحب من لا نجانبه ... ويبعد عنا بالهوى من نقاربه
وفي القصيدة مدح للمعتز وهجاء للمستعين؛ ونحن ندع للقارئ أن يراجعها بتمامها في ديوان البحتري، ولكنا نختص مع ذلك بالتسجيل هنا قوله:
بكى المنبر الشرقي إذْخارَ فوقه ... على الناس ثور قد تدلت غباغبه
تخطى إلى الأمر الذي ليس أهله ... فطوراً ينازيه وطوراً يشاغبه
ولم يكن المغتر بالله إذ سرى ... ليعجزوا (المعتز بالله) طالبه
رمى بالقضيب عنوة وهو صاغر ... وعُرِّي من بُرد النبي مناكبه
وقد سرني أن قيلُ وجِّه عارياً ... من الشرق تُحدّى سفنه وركائبه
إلى (واسط) حيث الدجاج ولم يكن ... لتنشب إلا في الدجاج مخالبه!
وكان رضى الخليفة بالغاً غايته عن شاعره الأول وشاعر أبيه من قبله، فاستحضر الرقعة القديمة بعينها وفيها أبياته الستة؛ ووهبه على كل منها ألف دينار، فأعطي البحتري ستة آلاف دينار كملا
ثم نصح إليه المعتز ألا يبادر بإنفاقها في شراء ما قد يروقه من غلام أو جاريه أو فرس. . . وقال له: (إن لك فيما تستأنف معنا في أيامنا، ومع وزرائنا وأسبابنا إذا عرفوا موضعك عندنا، غناءً عن ذلك. . .) ثم حسن له شراء ضيعة ينتفع بغلتها، ويبقى عليه وعلى ولده أصلها. وكذلك صنع البحتري. . . فعاش إلى انتهاء خلافة المعتز في رفاهة من الحال ورغد من العيش.
(جرجا)
محمود عزت عرفة