مجلة الرسالة/العدد 545/صور من توفيق الحكيم
مجلة الرسالة/العدد 545/صور من توفيق الحكيم
كتابه (زهرة العمر)
للأستاذ دريني خشبة
لو لم ألق توفيق الحكيم، ولو لم أقرأ كتابه (زهرة العمر) لظلت صورته التي صورتها له في خيالي هي هي لا تتغير. . . وهل يصدق القارئ أنني كنت أتصوره في هيئة سيدي العارف بالله السيد أحمد البدوي، مع أنني لم أر هذا العارف بالله إلا في صور تلاميذه وأتباعه ومريديه!
لا يتوهمن القارئ أنني كنت أخال أن لتوفيق الحكيم ذقناً ركبت فيه لحية مستطيلة على هيئة لحي أولئك المريدين الذين أحبهم وأعجب بهم. . . كلا. . . لقد كنت أتصوره بغير لحية، أو بلحية رباها في فوديه، تنبت بالدهن من رأسه الكبير!
ولقد ثبتت تلك الصورة التي تصورتها لتوفيق الحكيم في ذهني. . . ثم رسخت وزادت رسوخاً عندما قرأت له (عصفور من الشرق) لسبب واحد. ذلك أنه أهدى هذا الكتاب إلى
الست الطاهرة. . . السيدة زينب!!
لقد أكد هذا الإهداء العجيب صورة توفيق الحكيم في ذهني، ولولا ما أعرفه من تاريخ سيدي العارف بالله السيد احمد البدوي من أنه كان نظيفاً حسن السمت، لزدت في صورة توفيق الحكيم أشياء وأشياء. . . ولا داعي لذكر شيء منها، اللهم إلا (الشمروخ) الهائل، والعمامة الكبيرة الخضراء، والسبحة التي تزن كل حبة من حباتها رطلاً أو. . . أقة. . . ثم هذه (الفراجية) الكبيرة الفضفاضة!
ليتني إذن ما لقيت الأستاذ وما رأيته! وليتني ما قرأت زهرة العمر! ليتني ما رأيت الأستاذ الحكيم. لأن هذه الرؤية نسخت نصف الصورة التي تصورتها له، وليتني ما قرأت (زهرة العمر)، لأن هذه القراءة نسخت النصف الآخر لهذه الصورة التي كنت أحبها وآلفها، وأكبر توفيق الحكيم من أجلها. . . إن كل ما بقي من تلك الثورة هو هذا التثني الذي يجيده مريدو ولي الله البدوي وقت الذكر، أما (زهرة العمر) فإليك كيف مسخ الصورة الفقيدة الغالية الخالدة مسخاً:
(. . . لقد دخلت عليه الخادم في الصباح تحمل صينية الفطور، فوقع بصرها عليه السرير، لا يبدو منه إلا رأس يطل من اللحاف الناصع كأنه رأس يوحنا المعمدان على صينية الفضة، ولكن. . . حاشا الله أن يكون هذا معمدانا! صاحب هذا الرأس لا يمكن أن يكون من الآدميين! ذلك ولا ريب ما جال بخاطر الخادم، وهي تنظر إلى شعري الذي هب قائماً إلى ما فوق مسند السرير في شكل دائرة، كأنه هالة من (الهباب) الأسود على حافة الوسادة البيضاء. . . ثم ذهبت الخادمة تقول لسيدتها مرتاعة: (أتدرين يا سيدتي ما حل بدارنا؟) فسألتها: من؟. فأجابت! ' إنه الشيطان!)
ويقول توفيق الحكيم بعد هذا: ولعلها صدقت! ولست أدري ما ذكرني الساعة بهذه الحادثة كدت أنساها. ولم يذكرني بها حتى خطابك الممتع الذي حدثتني فيه عن ذلك القسيس الذي ظن (توفيق الحكيم بملابسه السوداء) الشيطان أو المسيح الدجال!. . . ومن يدري؟ لعلي أخذت عن إبليس صورته وهيئته! لكن. . . هل تظن أن لي أيضاً قلبه؟ لا أظن. وبعد. فلتسكت الطبول، وليغسل (البلياتشو) وجه، فقد انتهى الفصل المضحك
فاللهم لا حول ولا قوة إلا بك! نتصور الأستاذ الحكيم في صورة الأولياء والصالحين، وفي مسوح القديسين. . . ويصور هو نفسه في صورة الشيطان الذي له شعر فوق مفرقه كهالة من الهباب الأسود!
لقد أوشك أن يتفق معنا في صورة يوحنا المعمدان لأنه من القديسين والشهداء، كما تصورنا. . . أما الشيطان. . . فلا! وأما قلب الشيطان فمسألة فيها نظر، ونقول. . . مسألة فيها نظر للصورة الثانية التالية:
لقد كنا نؤمن بأن مؤلف أهل الكهف، ومحمد، وسليمان الحكيم، هو من خلق الله، أي من صنعه! ولكن. ليتنا ما قرأنا زهرة العمر! فتوفيق الحكيم يقول في كتابه هذا (. . . إن الله لم يخلقني! إنما هو الشيطان أراد أن يخلق طرازاً جديداً من الآدميين. أو (موديل!) من الإنسان، يضارب به الطراز الشائع المعروف، فجاء خلقه عجيب البناء غريب التركيب، به أثر من عبقرية الشيطان، ولكن به نقصاً ينم عن تخبط في شؤون الخلق والإبداع، ومع ذلك، حتى على فرض أن الله هو الذي خلقني لا الشيطان، فإنه كان لسوء حظي يضجر ويتبرم كلما جاءه جبريل بلوحي المحفوظ ليعين فيه خطوات حياتي. فقد كان يصرخ في وجه الملاك الأمين قائلاً: (اذهب عني الآن!) فيقول جبريل خاشعاً: (لكن يا إله السموات والأرض، المدعو توفيق الحكيم ولد وشب ونما وكاد يدنو من الثلاثين، وهو لم يزل يدب على الأرض ويعيش فيها بالمصادفة. وكلما جئت إليك بلوحه لأجل التعيين. . .) فيسمع كأن الصوت العلوي يصيح به: (قلت لك اذهب عني الآن ولا تشغلني بهذا المخلوق!)
ولا شك في أن الذي خلق جسم توفيق الحكيم ورأسه، هو الذي خلق قلبه، ولا شك في أن الشيطان كان يأوي إلى هذا القلب حينما أملي على توفيق الحكيم هذا التجديف! والعجيب أن ينسى الحكيم هذا اللغو فيقول عن نفسه (ص 248) إنه ملاك من ملائكة السماء! ثم يدعي (ص 255): (أن شخصي غير مفهوم الآن حتى لنفسي! على أني أعتقد أني خلقت للخير لا للشر، وإذا نفذ إلي الشر فمنكم أنتم يا أصدقائي ومعارفي!) هكذا يدعي بعد الذي وصم به خلقه أنه خلق للخير لا للشر!) ثم يختم كتابه هذا الجميل الذي تمنيت أني لم أقرأه، بتلك الوثنية: (إني أومن بأبولون. . . أومن بأبولون إله الفن الذي عفرت جبيني أعواماً في تراب هيكله. إنه ليعلم كم جاهدت من أجله وكم كافحت وناضلت وكددت. . .)
ثم اللهم لا حول ولا قوة إلا بك مرة ثانية وثالثة وألفاً وألفين حتى تغفر لعبدك وابن عبدك توفيق الحكيم! أحقاً إن صاحب هذا التجديف هو ذلك الرجل الذي كنت في سذاجتي القديمة أتصوره في صورة سيدي العارف بالله السيد أحمد البدوي، أو على الأقل في صورة يوحنا المعمدان كما صور هو نفسه؟
لا. لا. . . لا تثوروا أيها المؤمنون فأنا والله محاميه ولست جلاده! لقد قال المتهم هذا الكلام وهو في ظروف تضايق حقاً. وقد صح أن النبي ﷺ قال ما معناه: أن الزاني لا يزني وهو مؤمن، وأن السارق لا يسرق وهو مؤمن. وكذلك إن توفيق الحكيم لم يقل هذا الكلام وهو مؤمن. وذلك هو السبب في بعض التناقض الذي كان يقع فيه وهو يقذف بخطاباته الكثيرة هذه على رأس (أندريه) صديقه الباريسي المسكين. ومن هذا التناقض أن يقرر أنه شيطان. ثم (يماحك!) فيقول إنه ملاك. ومنه أيضاً أن الإنسانية لم تخسر شيئاً إذا تمكن العلم الحديث من بتر الحب واستصاله. مع أنه يعود فيدعي أنه يحب الحب، وأن للحب عنده مقاماً كبيراً في الحياة. في كل حياة؛ ومن تناقضه أيضاً وقوعه في هوى (إيما) لا لشيء إلا لأنها عرفت كيف تعذبه بالتيه والدل والبعد وكل ما في معجم الهجران من هوان. ثم دلاله هو على ساشا الجميلة الجذابة التي اعترف بأنها أجمل من إيما وأكثر جاذبية، وذلك لأنها كانت مفتقرة إلى بره والى قليل من دريهماته، ثم إلى مقاسمته سريره وكتبه. . . ومن تناقضه أيضاً عداوته للمرأة (قبل المعاهدة التي أبرمناها معه بهذا الصدد) بسبب حبه لإيما. إيما الهيفاء التي كنت أحس لسع حبها ولفحه. بل اضطرامه يتأجج به فؤاده في ثنايا سطور (زهرة العمر)، وهو لا يزال يتلظى بناره حتى هذه الساعة. . . إيما - وكم في الدنيا من إيما التي تملك وحدها كما قلت له ذلك أمام قاضينا الزيات - أن ترده إلى الجنة التي طردته منها في ساعة من ساعات الجنون
آه يا ساشا المسكينة لو عرفت سر توفيق الحكيم! إنه عند ما رآك أول مرة نسى إيما ونسي ببغاءها ونسي باريس كلها، وطلب سكيناً لينتحر تحت قدميك الجميلتين الصغيرتين، ولكنك حينما جئت إليه وفي عينيك لمحة من أسى، وبلة من بكاء. عند ذلك انخفضت قيمتك في عينيه، وهبط ثمنك في سوق غرامه. آه يا ساشا المسكينة لو عرفت سر توفيق الحكيم، وعرفت تناقضه في الحب، وفي الفن، وفي الله، وفي الشيطان!
لقد عرفت إيما هذا السر فعبثت بصاحبك، وصاحبها، زمناً ليس بالطويل وليس بالقصير، فلما عرف سرها طارت عنه وتركته يناصبها العداء، ويناصب كل امرأة من أجلها العداء. ثم يحتج في تناقضه مع الدنيا نفسها ومع إخوانه البشر. بهذا المودرنزم، وذلك حين يدعي، برغم الحب الذي ينشب أظفاره في نياط قلبه، أنه لا يريد أن يعصي الله من أجل التفاحة التي هي الحب، والتي خيل إليه أنه لم يذق حلوها قط! فهل صدقت يا ساشا وهل صدقتم أيها المؤمنون أن توفيق الحكيم، رجل يقع أحياناً في التناقض الشديد الذي يجعل مؤمناً مرة، ويجعله كافراً مرات، ثم يجعله مغرماً طوراً، ويجعله رجلاً لم يقع في شراك الهوى قط! اسمعي يا ساشا واسمعوا أيها المؤمنون هذا الرجل المولع بالمودرنزم يقول: (إني لم أزل أحب إيما لأنها شيء بعيد، غير موجود في كل وقت. . . يرتفع إلي غناءها من نافذتها كأنه شعاع يأتيني من بعيد. إنها أعطتني بعض أسرار نفسها وجسمها. ولكنها مع ذلك ليست في يدي، شأنها شأن الطبيعة التي تعطينا وتستعصي علينا. إن الحب قصة لا يجب أن تنتهي. قصة إيما مستمرة لا تريد أن تنتهي. . . لو أن إيما قبلت أن تترك حجرتها كما عرضت عليها وتأتي لتقطن معي في حجرتي لكان حظها عندي حظ ساشا. هنا الفرق بين الغرام والزوجية! فتوفيق الحكيم لا يحب إلا المرأة التي تمزق قلبه بالهجر، وتؤرق جفنه بالسهد، وتذوي شبابه الفينان بحرق الغيرة ونيران الشك. . . لماذا لا يتزوج توفيق الحكيم؟ إليك جوابه بقلمه! (. . . إني أدرك لماذا يفتر الحب الملتهب بين الخليلين إذا تزوجا وقد يعود إلى سبق اشتعاله إذا عادا خليلين). . . (أندريه، أندريه، أخشى أن يحطمني المجتمع. . . يحطم الفنان في. . . ربما كان قد حطمني وكسرني. . . ولكني أقاوم. . . منذ أسابيع وأنا أتلقى من أهلي خطابات يغرروني فيها بالزواج. . . ويذكرون لي أسماء لامعة في الثروة والجاه. . . ويتهمونني بالحمق والغفلة والعته إذا خامرتني فكرة الرفض. . . لقد قلت لهم (لا) بأعلى صوتي، وهم مشدهون لا يعرفون السبب)
إنه يقول إنه لن يتزوج لأنه فنان. فهل جميع الفنانين غير متزوجين؟! كلا. . . ولكنه التناقض. التناقض والمودرنزم! هنا عيب توفيق الحكيم يا ساشا! عيبه الذي هيأ له أنه من صنع الشيطان لا من صنع الله، وعيبه الذي يجعله يجفل عن فكرة معصية الله من أجل التفاحة، ومن أجل هذه التفاحة نفسها يعصي الله
أيها المؤمنون لا تغضبوا! وفيم الغضب وهذه طبيعة الفنان! وفيم الغضب ونحن لا نؤمن بما كان يؤمن به اليونانيون القدماء. نحن لا نؤمن بربات الانتقام، أو ال. . ولذلك فلن يخشى توفيق الحكيم كيدهن، وحتى لو أنهن لاحقنه لأنقذه أبوللو منهن كما أنقذ (أورست) منذ ثلاثة آلاف سنة!! أليس أبوللو هو إله الفنون الذي يزعم توفيق الحكيم أنه يؤمن به، وطالما عفر جبينه بتراب هيكله؟
لا تصدقوا أن هذه هي عقيدة توفيق الحكيم، فهو رجل متناقض، لأنه رجل مؤمن. ألم يؤلف (أهل الكهف) وقد أخذ موضوعها من القرآن؟ ألم يكتب كتاباً طويلاً عن محمد؟ ألم يكتب قصة عجيبة عن سليمان أخذها من الكتب المقدسة! إن كنتم في ريب من هذا، فذاكم كتابه (زهرة العمر) الذي يفيض بالدفاع عن الأدب العربي، وعن ألف ليلة وكليلة ودمنة والجاحظ والإسلام. . . لا تراعوا إذا وجدتموه ينتقل فجأة من الكلام عن إعجابه بقصص القرآن إلى الكلام عن بنات الهوى في باريس، فكتبنا العربية قد سبقت إلى هذا الشيء من عدم مراعاة النظير، ففي العقد الفريد يأتي فصل عن المجون المكشوف وأخبار القيان بعد الفصل الذي فيه خطبة الرسول في حجة الوداع. . . وأمثال ذلك كثيرة فلا ضير على توفيق الحكيم أن يقع فيه مرة في حياته. . .
أيتها العزيزة ساشا:
لقد ابتدع توفيق الحكيم لوناً جديداً في الأدب المصري هو من فنه الخالص. . . هو من عصارة قلبه النابض، هو مزيج من الموسيقى والألوان وعبير الحدائق، وفي هذا المزيج كثير من دموعك، بل من دمك، ولكن فيه أيضاً الكثير من دموعه هو أيضاً ومن دمه
إن توفيق الحكيم هو أحد أولئك الذين يخلقون لنا مصر الحديثة. . . أدب مصر الحديثة، وذوق مصر الحديثة، وروح مصر الحديثة، وفن مصر الحديثة، وكلما تفتقر إليه مصر الحديثة من لغة وفلسفة وشعر وسمعة!
إنه تلك الابتسامة الحلوة التي رفت فجأة على شفاهنا حينما كنا نفتقد المجددين ذوي المواهب فلا نجد منهم ثلاثة أو أربعة!
إن روح توفيق الحكيم تتلألأ في كل سطر من سطوره (زهرة العمر) في خطوط الفنان القوية أحياناً وفي مسوح الراهب المتأمل أحياناً أخرى. . . وقد تظهر في ألف صورة من صور الأحياء الممتارين خصوصاً في صورة (البليادشو!) من غير حاجة إلى الدقيق على الوجه أو الطرطور على الرأس. . . لأن توفيق الحكيم يستطيع أن يضحك إلى حد الإغراب بدون هذه الوسائل الشكلية. . . إنه مضحك موضوعي ممتاز. . . ولو أنه عني بالتأليف للمسرح على النحو الذي يعرفه المسرحيون لأشرنا عليه أن ينقطع للملهاة. . . إنه إذا فعل يتيح للمسرح المصري فرصة مواتية ومركزاً عالياً ومكانة عالمية لا تعد لها مكانة. . . على أنه مع ذاك أقدر من يستطيع أن يؤلف المأساة في مصر. . . لأن الضحك الذي يصنعه توفيق الحكيم مصدره البكاء. . .
وبعد، فقد ذكرت أنني كنت أصوره في نفسي على صورة العارف بالله السيد أحمد البدوي، أفتدري يا سيدي القارئ أن سيدي المرسي أبا العباس قد صدر توفيق الحكيم إلى طنطا. إلى البدوي العظيم. . . وأن البدوي العظيم قد صدره بدوره إلى سيدي إبراهيم الدسوقي!! فما معنى هذا في تاريخ حياة أديبنا الألمعي! وما الصلة الروحية بيني وبين أقطاب الأولياء في مصر؟ وما الصلة بين هذا كله وبين إهداءه عصفور من الشر إلى (الست الطاهرة. . . السيدة زينب؟!) كل من رأى توفيق الحكيم ولو مرة واحدة. . . يفهم سر ذلك!
دريني خشبة