انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 544/مسابقة الأدب العربي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 544/مسابقة الأدب العربي

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 12 - 1943


2 - البهاء زهير

للدكتور زكي مبارك

مصرية البهاء

يقول الأستاذ مصطفى باشا عبد الرازق إن البهاء لم يكن طفلاً حين هاجرت أسرته من الحجاز إلى وادي النيل، لأنه وجد في شعره قصيدتين يذكر فيهما عهده بالحجاز، الأولى قصيدة:

أحن إلى عهد المحصَّب من مِنّى ... وعيشٍ به كانت ترفّ ظِلالهُ

والثانية قصيدة:

سقى اللهُ أرضاً لست أنسى عهودها ... ويا طولَ شوقي نحوها وحنيني

ثم يقول بعد إيراد هاتين القصيدتين: (وليست ذكريات طفل هذه الذكريات التي يحن البهاء زهير إلى عهدها بين المقام وزمزم، فلابد أن يكون شاعرنا جاء إلى قوص فتى مستكملاً)

وأقول إن القصيدتين تشهدان بأن البهاء كانت له ذكريات غرامية بالحجاز، فإن صدقناه فيما ادعى لنفسه من الصبوات بالبلاد الحجازية، فمن حقنا أن نسأل كيف خبت حرارة الذكريات لتلك الصبوات فلم توح إليه غير قصيدتين اثنتين؟

والأستاذ مصطفى باشا يحدثنا أن المؤرخين قالوا:

(وانتقل البهاء زهير من قوص بعد أن ربى فيها وقرأ الأدب وسمع الحديث وبرع في النظم والنثر والترسل)

ومعنى هذا أن البهاء بدأ حياته في قوص وهو في عهد التربيب، وأنه لم يجئ إلى قوص وهو فتى مستكمل الفتوة، كما حكم سعادة الأستاذ قبل لحظات وهو يدون بحثه الطريف

يجب أن نتذكر أن الكلام عن الحجاز وذكرياته الغرامية بدعة أدبية شرعها الشريف الرضي، وأتبعه فيها من تلاه من الشعراء، فكان من هوى كل شاعر قضى وقتاً بالحجاز أن يقول إن له حجازيات، كما كان للشريف حجازيات.

مشكلة لغو لغة البهاء زهير لغة شاعر عريق في المصرية، ولولا إجماع المؤرخين على أنه ولد بالحجاز لكان من الحتم أن نفترض أنه ولد في قرية مصرية من قرى المنوفية، فكيف نصدق أن أهله حجازيون؟

لقد رأينا رجالاً نشأوا بالشام أو لبنان، ثم هاجروا إلى مصر فعاشوا فيها سنين وسنين، إلى أن استمصروا بحكم القانون، ومع هذا بقيت ألسنتهم وأخيلتهم شامية أو لبنانية، فكيف جاز أن يكون هذا الحجازي أعرق في المصرية باللغة والروح والخيال؟

أنا أرجح أن تكون أسرة البهاء زهير مصرية لا حجازية، وإن كانت عربية العرق، وأرجح أنها انتقلت من مصر إلى الحجاز للتجارة، بدليل أنها لم تنتقل من الحجاز إلا إلى قوص، وكانت مدينة قوص ملتقى القوافل الواردة من الهند والحبشة واليمن والحجاز، وملتقى الحجاج من المغاربة والمصريين

ويمكن أن نقول إن أسرة البهاء هاجرت إلى الحجاز لتنضم إلى جماعة المجاورين، والمجاور في الاصطلاح القديم هو من يجاور الحرم النبوي، وبه وصف المجاور للحرم الأزهري في القاهرة، أو الحرم الحيدري في النجف. وفي القاهرة مقابر تسمى (قرافة المجاورين) من باب التشريف، فما انحطت كلمة مجاور إلا في عصور الانحطاط

ويرجح هذا القول أن مصطفى باشا رأى في أحد المخطوطات أن والد البهاء وصف بـ (العارف محمد، قدس الله روحه) و (العارف) كلمة لم يكن ينعت بها غير المعروفين بالتنسك والتصوف

ولا يقدح في هذا القول ما صار إليه البهاء من الإقبال على المناصب الدنيوية، فالرأي الغالب عند أسلافنا أن طلب الدنيا لا يغض من قيمة التمسك بالدين، ما دام طالب الدنيا حريصاً على التحلي بمكارم الأخلاق

إن البهاء مصري اللغة والروح، مصري (ابن بلد) بلا جدال، فكيف نجعله من الحجازيين؟ وهل ينطبع الرجل على لغة بلد وعلى أوهامه وأحلامه وهو في الأصل غريب؟

وما هو الروح الحجازي في أشعار البهاء لو جعلنا أسرته حجازية الأصل، وأنها لم تعرف مصر إلا في أواخر القرن السادس؟

أنا أقدم هذا السؤال، وإن كان لا يخلو من ضعف، لأني أعتقد أن الحجاز لم تكن له قومية محلية في العهد الإسلامي، فقد صار الملتقى لألوان من اللغات والآداب، منذ اليوم الذي صار فيه ملتقى لألوان من الأمم والشعوب

وجملة القول أني أرجح أن أسرة البهاء أسرة مصرية أقامت مدة في الحجاز، ثم رجعت إلى مصر، ولغة البهاء تؤيد هذا الترجيح، وقد تظهر في المستقبل أشياء نعرف بها صدق هذا الترجيح

لو عرف المؤرخون أن هذه القضية ستشغل الباحثين بعد أزمان لحدثونا بالتفصيل عن المنابت الأصيلة لدوحة البهاء

ذاتية البهاء

البهاء زهير ذاتية واضحة جداً، ذاتية نفسية وذاتية فنية. ولننظر هذه الأبيات:

أحبّ من الأشياء ما كان فائقاً ... وما الدُّون إلا من يميل لدون

فأهجرُ شربَ الماء غير مصفَّقٍ ... زُلالٍ وأكلَ اللحم غير سمين

وإن قيل لي هذا رخيصٌ تركتهُ ... ولا أرتضي إلا بكل ثمين

فهذه البيات ليست من البدائع، بالقياس إلى ما يمتدح به أكابر الشعراء، وهي مع ذلك من الطرافة بمكان، لأنها تصور المصري المتأنق في اختيار المطعوم والمشروب والملبوس

وللنظر قوله في معاتبة الأمير مجد الدين:

فيا تاركي أنوي البعيد من النوى ... إلى أي قوم بعدكم أتيممُ

ألا إن إقليما نَبَتْ بيَ دارُهُ ... وإن كَثُر الإثراء فيه لمعدم

وإن زماناً ألجأتني صروفُهُ ... فحاولتُ بُعدي عنكمُ لمذَّممُ

وأعلم أني غالطٌ في فراقكم ... وأنكمُ في ذاك مثلي وأعظم

فلا طاب لي عنكم مُقامٌ بموطنٍ ... ولو ضمَّني فيه المَقام وزمزم

ومثلك لا يأسى على فقد كاتبٍ ... ولكن يأسى عليك ويندم

فمن ذا الذي تُدنيه منك وتصطفي ... فيكتُب ما توحي إليه ويكتم

ومن ذا الذي ترضيك منه فطانةٌ ... تقول فيدري أو تشير فيفهم

وما كل أزهار الرياض أريجةٌ ... وما كل أطيار الفلا تترنم

فهذا عتاب نرى مثله عند المتنبي والأرجاني وابن دراج، والمعاني فيه مألوفة، إن لم نقل مطروقة، ومع ذلك نجد فيها عذوبة بهائية زهيرية تشهد بأنها صادرة من شاعر خفيف الروح، رقيق الأسلوب

وهل رأيتم في تصوير (كاتم السر) وهو ما نسميه اليوم بالسكرتير أدق من هذين البيتين:

فمن ذا الذي تدنيه منك وتصطفي ... فيكتُب ما توحي إليه ويكْتُم

ومن ذا الذي ترضيك منه فطانةٌ ... تقول فيدري أو تشير فيفهم

هذا هو (السكرتير) المنشود، وكذلك كان البهاء

وإيمان البهاء بذاتيته إيمان متين، فهو يثق بنفسه وبفنه ثقة بصيرة، لا ثقة عمياء، ومن شواهد ذلك قوله في مخاطبة أحد الأمراء:

هذا زُهيرك لا زهير مزينةً ... وافاكَ هَرِماً على علاّتهِ

دَعْه وحولياته ثم استمع ... لزهَير عصرك حسن ليليّاته

لو أُنشِدَتْ في آل جفنة أضربوا ... عن ذكر حسّانٍ وعن جَفَناته

فهل رأيتم قبل البهاء من يعارض الحوليات بالليليات؟ هو شاعر الفطرة والطبع، فمن حقه أن ينتظر جود الخاطر في الليلة القصيرة بما لا يتيسر لغيره في الحمل الطويل

وللنظر كيف يمتدح بأخلاقه وأشعاره وهو صادق:

مذ كنت لم تكن الخيا ... نة في المحبة من خَلاقي

ولقد بكيتُ وما بكي ... تُ من الرياء ولا النفاق

برقيقة الألفاظ تح ... كي الدمع إلا في المذاقِ

لم تدرِ هل نطقت بها الْ ... أفواهُ أم جَرَت المآقي

لطُفتْ معانيها ورقَّ ... تْ والحلاوة في الرِّقاق

مصريةٌ قد زانَتها ... لطفاً مجاورة العراق

مصري ابن بلد

المصريون يسمون الفتى الحلو الفكاهة والدعابة (ابن بلد) وفي أشعار البهاء كثير من التعابير البلدية، وما نظرت في ديوانه إلا أيقنت أنه (من الناحية بلدنا) وهتفت:

يا زرع بلدي ... عليك يا وعدي

ويضيق المجال عن الإكثار من الشواهد، والمهم هو أن نرشد المتسابقين إلى هذا الجانب، لأنه سيرد حتماً في أسئلة الامتحان، لأهميته في الدلالة على الألوان المحلية

قال البهاء:

فيا صاحبي أما عليَّ فلا تَخَفْ ... فما يطمع الواشون في عاشقٍ مثلي

وعبارة (أما عليَّ فلا تخف) لا تزال على ألسنة المصريين (ما تخافش عليه)

وقال:

أتتْك ولم تبعُدْ على عاشقٍ مصرُ

وأولاد البلد يقولون: (مصر لا تبعد على حبيب)

وقال:

سيدي قلبيَ عندك ... سيدي أوحشتَ عبدك

و (قلبي عندك) عبارة بلدية نقولها في كل يوم، ومثل عبارة (أوحشت عبدك) فهي تدور على كل لسان، ومن (أدوار) الغناء عندنا هذا الدور

ياما انت واحشْني وروحي فيك

وقال:

أين مولاي يراني ... ودموعي فوق خدي

فمن الشطر الثاني عبارة بلدية مألوفة

وقال:

لنا صديقٌ سيئٌ فِعلهُ ... ليس له في الناس من حامِد

لو كان في الدنيا له قيمةٌ ... بعناء بالناقص والزائد

والمصري يقول حين يضجره السوق: (بناقص بزائد سأبيع) وقال:

سيندم بَعدي من يريد قطيعتي ... ويذكر قولي والزمان طويل

والخصم عندنا يقول لخصمه: (أنا وأنت والزمان طويل). وقال:

إياك يدري حديثاً بيننا أحدٌ ... فهم يقولون للحيطان آذانُ

ففي هذا البيت عبارتان مصريتان لا تحتاجان إلى بيان. وقال:

وكانت بيننا طاقٌ ... فها نحن سددناها

ففي هذا البيت عبارة بلدية صريحة. وقال: جاءني منه سلامٌ ... سلَّم الله عليه الله يسلّمك.

وقال:

له فصولٌ كلُّها فضولُ

يريد أن يقول إنها (فصول باردة).

وقال:

حاشاك أن ترضى بأن ... أموت في الحب غَلَطْ

كما نقول اليوم: (فلان مخلوق غلط)

وقد أكثر في شعره من عبارة: (يا ألف مولاي)

ونحن نقول للزائر: (يا ألف مرحب)

وأنا أكتفي بهذه الشواهد، وأترك للمتسابقين مراجعة نظائرها في ديوان البهاء

الشاعر العاشق

يظهر أن البهاء زهير فتن بالجمال فتنة دامية، فهو عاشق من الطراز الأول، ولم يمنعه منصبه في الدولة ولا مركزه في المجتمع من إعلان هيامه بالجمال، كأن يقول:

أروح ولي من نشوة الحب هزةٌ ... ولست أبالي أن يقال طَرُوبُ

محبٌّ خليعٌ عاشقٌ مّهتكٌ ... يَلذّ لقبي كل ذا ويطيبُ

خلعتُ عذاري بل لبست خلاعتي ... وصرّحُت حتى لا يقال مريب

وفَي ليَ من أهوى وصرّح بالرضى ... يموت بغيض عاذلٌ ورقيب

فلا عيشَ إلا أن تُدار مُدامةٌ ... ولا أُنس إلا أن يزور حبيبُ

وإني ليدعوني الهوى فأجيبُهُ ... وإني ليَثنيني التقي فأنيب

فيا من يحبّ العفوَ إنيَ مذنبٌ ... ولا عفو إلا أن تكون ذنوب

وكأن يقول:

لحا اللهٌ قلباً بات خِلواً من الهوى ... وعيناً على ذكر الهوى ليس تذرفُ

وإني لأهوى كلَّ من قيل عاشقٌ ... ويزداد في عيني جلالا ويَشْرُف

وما العشق في الإنسان إلا فضيلةٌ ... تُدمَّث من أخلاقه وتُلطّف

يعظِّم من يهوى ويطلب قربه ... فتكثر آدابٌ له وتظرُّف وهو يرى الموت في العشق حياة، كأن يقول:

ما لَهُ أصبح عني معرضاً ... تحت ذا الأعراض من مولاي شيّ

أنا من قد مِتّ في العشق به ... هنِّئوني: ميّت العشاق حيّ

وغزل البهاء غاية في الرقة والعذوبة واللطف، وما أحلاه وهو يصور غيرته على من يهواه:

وأنزّه اسمك أن تمرّ حروفه ... من غيرتي بمسامع الجلاّس

فأقول بعض الناس عنك كنايةً ... خوف الوشاة وأنت كل الناس

وأغار إن هبّ النسيم لأنه ... مُغرًي بهزّ قوامك الميّاس

ويروعني ساقي المدام إذا بدا ... فأظن خدّكُ مشرقاً في الكاس

وما ورد (المطمع الممتنع) في الشعر العربي بأكثر مما ورد في شعر البهاء. أليس هو الذي يقول:

سيدي قلبيَ عندكْ ... سيدي أوحشت عبدك

سيدي قل لي وحدِّثني متى تنجز وعدك

أترى تذكر عهدي ... مثل ما أحفظ ودك

قم بنا إن شئت عندي ... أو أكن إن شئت عندك

أنا في داريَ وحدي ... فتفضَّلْ أنت وحدك

وأشعار البهاء تفيض بالمطارحات الغرامية، مع خفة الدم، ولطف الروح، وأنا أرجو أن يعفيني المتسابقون من إيضاح هذه الناحية، لأنها أوضح من أن تحتاج إلى إيضاح

ومن سمع الغناء بغير قلب ... ولم يطرب فلا يَلُم المغنَّي

وقد غنى البهاء وأجاد، فاسمعوه بالقلوب.

زكي مبارك