مجلة الرسالة/العدد 540/من ليالي الفردوس

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 540/من ليالي الفردوس

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 11 - 1943


للدكتور زكي مبارك

لم يكن أول حب، فما مرت ساعة من نهار أو من ليل بلا وجد يعصف بقلبي فيزلزل وجودي، وإنما كان أخطر حب، لأن صادف قلبين كتب عليهما الشقاء بالهوى لأول لقاء

ولم يكن لهذا الحب مقدمات، على نحو ما تصنع الطبيعة في إرسال البشير بالغيث، أو النذير بالويل، وإنما صب علينا نعيمه وشقاؤه بلا وعد ولا وعيد، فأصاب قلبينا برجفة عاتية ستبقى لها ندوب، وإن قدر من بلواها الخلاص، ولا خلاص!

كنت أعرف أنها ملك يميني أصرفها كما أريد، فأنقلها من الغرب إلى الشرق، ومن الشمال إلى الجنوب، وكانت تعرف أنها ملأت قلبي فلا خوف من تعرضه لهوى جديد، ولو ساقته المقادير على يد جنية من جنيات باريس أو بغداد أو بيروت وطاب لنا في بداية الهوى أن نتكاتم، فقد كنا شببنا عن الطوق، وقد كانت لنا تجاريب تجعل البوح من أخلاق الأطفال. وكيف تأمن جانبي وقد (وصلتها أخبار) تشهد بأني لا أقيم على عهد، وأني أتخذ الحب وسيلة لدرس خلائق الملاح؟ وكان أمري في الهوى كما قدرت تلك البغوم، فما نظرت نظرة جارحة إلا لأقبس من أنوار الخدود شعاعاً ألون به مداد قلمي ولا تعرضت لمكاره الغواية إلا لآخذ من جحيم الفتك جمرة أذكي بها بياني

ثم كان حالي حال رائض الحيات في مدينة الأقصر، فما تاريخ ذلك الرائض؟

هو رائض تطايرت أخباره إلى (لورد كرومر) فأحب ذلك اللورد أن (يختبر) تلك الأخبار ليكون من أمرها على يقين، فقاده (الحاوي) إلى حية كان حبسها تحت حجر من الأحجار في رحاب (وادي الملوك)، وكانت تلك الحية تفهم عن (الحاوي) ما يريد، فتصحو أو تنام وفقاً لما علمها من الإشارات

ورفع الحاوي الحجر فثارت من تحته حية لم يرها من قبل، حية لم تتلقى عليه درساً من الدروس، ولا تفهم أنه في صحبة رجل كلفته الدولة البريطانية حراسة منافعها في مصر مفتاح الشرق!

وخاف الحاوي على حياته فلاذ بالفرار، ثم عظمت دهشته حين رأى لورد كرومر أقدر منه على الجري في طلب النجاة، مع أن في منطقته مسدسين، ومع أنه يمثل دولة لها في الب جيوش وفي البحر أساطيل!

كان حالي حال ذلك الرائض، كنت ألهو وألعب بالملاح كما كان يلهو ويلعب بالحيات، فكيف صار وكيف صرت؟

لقد هرب فنجا، أما أنا فثبت في مكاني لأصرع الحية أو تصرعني، وهل كانت حياتي إلا حومة نضال وصيال وقتال؟

وفهمت الحية وفهمت أننا لم نكن إلا أرقمين يتساوران، ثم كانت الحرب بيننا سجالاً فلم أنج منها ولم تنج مني

هي اطمأنت إلى أنها سيطرت على القلب الذي استطاب العبث بقلوب الملاح

وأنا رضيت بأن تكون تلك الحية من مرضاي، وهل من القليل أن تخضع الحية لحبك، الحية النضناض التي تقتل من تشاء بأيسر نظرة وأهون فحيح؟

كانت أنياب تلك الحية أشهى إلى فمي من (فرط الرمان) كما يعبر أهل سنتريس، وكنا نرضى ونغضب بلا اقتصاد ولا احتراس، فكان لنا في كل لحظة شأن أو شؤون، وكان وجهها يربد في وجهي من وقت إلى وقت، كما تصنع السماء مع المحيط، كانت ترضى فأظنها صارت ملكي إلى الأبد، وكانت تغضب فأتوهمها ضاعت من يدي إلى آخر الزمان

ولكن الشقية في جميع أحوالها جميلة فتانة إلى أبعد حدود الجمال والفتون، وكانت تعرف أن هواها أقسى وأعنف من القدر المكتوب، وكانت فوق هذا وذاك تفهم أني أول وآخر من يعرف خفايا الأسرار لحسنها المكنون، وكانت تفهم أني أدرك من أخطارها ما لا يدرك المصريون من أخطار قناة السويس، وكان يروعها أن تراني مبهوتاً أمام جسمها الفينان يبهت عابد الشمس وقد تجلت بطلعتها البهية عند الشروق

هل كان جمال هذه الشقية وهماً خلقه القلب الذي يطيب له التغريد فوق أفنان الجمال؟

وكيف وقد زاحمني إلى قلبها المتمرد مئات الفحول، فكنت بحمد الهوى أول سابق لا أول مسبوق، ومن زعم أن له ذراعين أقوى من ذراعي فقد أعتصم بحبل الزور والبهتان

كانت نخلة لا يميلها غير العواصف التي تثور عن وجداني. كانت امرأة وقوراً لا يستخفها غير الغزل الذي يصدر عن بياني

كانت في رزانة الجبال إلى أن رأيتها فعرفتني، وكنت قطعة من ثلوج الشمال إلى يوم البلوى بروحها المقبوس من عذاب السعير، فكيف صار الحب جدا من أعنف ضروب الجد، وكان مزاحاً من ألطف فنون المزاح؟

أنت يا شقية سبب شقائي، وأنت السر في بلواي بالدنيا وبالوجود

ولكنك مع ذلك أشبه الأشياء بنكت المداد الذي يتساقط حين أخلو إلى قلمي، فمن قطرات المداد الأسود دونت أدبي، ومن زفرات روحك الأهوج صغت روحي، وبين الأدب والروح نسب وثيق

أنا القمر وأنت السحابة في ليلة من ليالي دمياط، والنصر للنور ولو بعد حين

مالي ولهذا الحديث؟ أنا أريد وصف ليلة من ليالي الفردوس مع تلك الحورية السمراء، فكيف كانت تلك الليلة الفردوسية؟

يجب أولاً أن أقول كلمة وجيزة أبين بها بعض خصائص المرأة الجميلة حين تصبح على جانب من التهذيب والتثقيف، وحين يصبح في مقدورها أن تخوض بلباقة وبراعة في شجون من الأحاديث، فهذه المرأة تخلع على موضوع الحديث عطراً رقيقاً يسري أريجه إلى عقل المحدث فيزيده حيوية إلى حيوية، وهي تضيف إلى الحديث ألواناً لطيفة من الدعابة والدلال، وإن كانت لا تقصد إلى الدعابة والدلال، فالمرأة رقيقة بالفطرة والطبع، وقد تبلغ نهاية الرقة حين تساجل رجلاً تميل إليه بالقلب والوجدان

وهنالك ظاهرة نفسية تستحق التسجيل، فالمرأة تحاول الظهور باسم العقل، ويسرها أن تجد من يقول بأن النساء أعقل من الرجال

وهل قلنا بغير ذلك، يا ناس؟

المرأة أعقل من الرجال، بلا جدال، فلتطلب من المناصب ما تريد!

وصاحبة الليلة الفردوسية من هذا الصنف، فهي لا تكف عن المطالبة بمساواة النساء للرجال في جميع الميادين

ولكني أعارض. أعارض لأسمع صوتها البغوم وهي تجادل وتناضل. وأعارض لأرى كيف يتلون وجهها الجميل حين تنفعل وحين تصرخ؛ ولا غنى للمرأة عن الانفعال والصراخ

ما أجمل هذه الشقية حين تثور مطالبة بحقوق النساء! إنها ترفع ذراعها، وتلوي وجهها، ثم تحدق في لأقتنع!

وهل أقتنع إلا بعد أن أتمتع بهذه المجادلات ساعات وساعات؟

لن أقتنع أبداً، فلتحبسني في دارها لأسمع تلك الخطب اللطاف، إلى أن أمل من النعيم فأقتنع، ولن أمل ولن أقتنع!

إن كان من الخيانة للحق أن نساعد النساء على الطغيان، فأنا بإذن الهوى أول الخائنين!

ومن حسن الحظ أن خيانتي هينة الخطب، لأن المرأة بعيدة عن عملي، ولو تعرضت لي في عملي لدستها بقدمي، فللرجولة وثبات تزلزل الجبال

إذا جد الجد فلن أخضع لهذه الجنية ولو كانت من جنيات الأورمان

وما الجد وما الحق بجانب سحر الجمال؟

آمنت بك يا ربي وآمنت ثم آمنت، فلولا لطفك لردتني هذه الجنية إلى أهواء يعجز عن تصورها الخيال

أنا أحبها لأنها أصدق مني. . . تعرضت للموت في حبها فتعرضت للفضيحة في حبي، والفضيحة أفظع من الموت

ما أجملها حين تثور في المطالبة بمساواة النساء للرجال!

لو كان الأمر للهوى لمنحتها ما تريد، ولكن العقل يساجلني من وقت إلى وقت، فأثور على مطالب النساء

ما أنت أيها العقل؟ ومتى أنجو من شرك؟

مالي ولهذا الحديث؟ ألم أقل إني أريد وصف الليلة الفردوسية؟ طال الجدال حول حقوق المرأة فاقتنعت لأني شبعت من مجادلة الجنية السمراء، ولأني رغبت في تلوين الأحاديث، فدعوتها للمهادنة إلى حين

عند ذلك وقفت وقد احتضنت الكمنجة لتداعبها بأناملها اللطاف، وهي أجمل ما تكون حين تقف، لأن جمالها يرتكز في قامتها السمهرية:

أنا واللهِ هالك ... آيسٌ من سلامتي

أو أرى القامة التي ... قد أقامت قيامتي

- ماذا تحب أن تسمع؟ - أنا أحب أن أرى!

- أنت تعرف أني أبغض المزاح الثقيل

- وأنت تعرفين أني أبغض الجد اللطيف

- يظهر أننا أطفال

- نحن أطفال كبار، والطفل الكبير هو الطفل اللوذعي، لأن مطالبه مطالب رجال، لا مطالب أطفال

- وماذا تطلب أيها الطفل اللوذعي؟

- أطلب تغريدة تعبر بها الكمنجة عما أريد

ولكن الشقية رمت الكمنجة، ومدت يدها إلى المكتبة فأخرجت كتاب (ليلى المريضة في العراق)

- تصفح الكتاب، ثم اقرأ ما طوق بعلامة الخطر، وهي التأشيرة الحمراء

- اقرئي أنت

- أنا أحب أن أسمع صوت المؤلف، لأتفوق على من يتباهون بأنهم رأوا المؤلف

- كتاب ليلى لا يقرأ، وإنما يرتل، وصوتك أندى في الترتيل

- أنا أحب أن أسمع صوتك في مواقف الصبوات

عند ذلك تمثل ماضي الجميل، ماضي في ضيافة ليلى وظمياء، ماضي الذي لم يظفر بمثله أي عاشق في أي زمان

وعند ذلك تمثل شقائي في بغداد، وأي شقاء؟

كنت أرجع من دروسي بدار المعلمين العالية أو محاضراتي بكلية الحقوق فأرى العربات محملة بأقوام يمضون إلى سهرات المساء ضاحكين حالمين، وأراني أمضي إلى داري لأقضي الليل بين الورق والمداد

هل أنسى أني استهديت أحد أصدقائي عشاء في داره لأقول أني ذقت طعاماً في أحد بيوت العراق؟

البيوت العراقية مفتحة الأبواب لكل زائر، ولكني لم أهتد إلى هذه الحقيقة إلا بعد أن طال عذابي بالوحشة والانفراد في ليالي بغداد وفي تلك الأزمات القاسية سطرت كتاب ليلى المريضة في العراق.

تمثلت هذه المتاعب لخاطري وأنا أرتل كتابي، فانقلب الترتيل إلى نشيج، ثم رفعت بصري فرأيت دموعاً تجاوب دموعي، وهي الدموع الأبية العصية، دموع الخريدة التي قهرها الحب على البكاء، بعد طول التأبي والعصيان

- من صاحبة هذا الوحي إليك؟

- هي ليلى

- غريمتي في العراق؟

- عند القلب علم الغيب

- وماذا يقول قلبك؟

- يقول: (قلبي مات، قلبي مات)

- ولقلبك قلب؟

- ولدموعي دموع!

- وما نصيبي عندك؟

- هو أعظم نصيب، وهو أخطر من أن ينصب له ميزان، فذخائر الوجود لا تساري قطرة واحدة من دموعك الغالية

- يفتنك بكائي؟

- الدموع فوق الخدود أجمل من الأنداء فوق الورود

- ستنشر هذا الحديث في مجلة الرسالة؟

- وفي جميع المجلات

- وماذا يقول الناس؟

- وأين الناس؟

- أنت تخاطر بمركزك بالمجتمع

- وأين المجتمع يا طفلتي الغالية؟ لقد حاربت ألوفاً من الخلائق فحاربوني، فهل هزموني؟ أنا لا أخاف غير الله، وهو خوف منبعث عن الأدب، وليس له أية صلة بالخوف الذي يفهمه عامة الناس، ولو شئت لقلت إني آمن جانب الله فلا أتخوف منه أي عقاب - هات السند من الكتب الدينية

- حياتي هي السند، فقد تفردت بين أهل زماني بالثورة على الناس، ثم بقيت سيداً لا يمن عليه مخلوق

- ولكنك فقير، بالقياس إلى المرائين

- كيف أكون فقيراً وأنت في حيازتي، أيتها الجنية السمراء؟

- هل تبيعني لتغتني؟

- وأين أجد المشتري؟

- أنت تكايدني!

- المكايدة لغة جنية الأورمان، عليها غضبة الحب إلى آخر الزمان!

- ومن تلك الجنية؟

- هي روح لطيف، وإن لم أتمتع برؤية وجهها الجميل

- أتكون أجمل مني؟

- جمالها في الصوت، وبصوتها في الهتاف نقلت قلبي من مكان إلى مكان

- هي إذا غريمة جديدة؟

- إن آذتك الغيرة فلن تظفري مني بأي نصيب، لأن الغيرة تفسد ما بين المرأة والرجل فساداً لا يرجى له صلاح

- كنت أحسب أن الغيرة دليل على قوة الحب، وأنها منة نطوق بها قلب الحبيب

- غيرة المرأة أثرة وأنانية وتحكم وطغيان

- وغيرة الرجل؟

- غيرة الرجل رفق وحراسة ومروءة وإيمان

- أوضح ثم أوضح، لأن هذا الكلام يحتاج إلى إيضاح وإيضاح

- اسمعي يا طفلتي الغالية، إن الرجل يستطيع أن يصاهر من يشاء، ولو شهد ماضيه بأنه كان من أهل العبث والمجون. ولا كذلك المرأة، فإنها لا تجد خاطباً إلا إن شهد ماضيها وحاضرها بأنها من أهل التصون والعفاف

- هذا هو الظلم المبين - هو ظلم يا طفلتي الغالية، ولكنه ظلم لمن يرفع عن المرأة في أي زمان

- الفجور الصريح لا يؤذيكم، فكيف تؤذينا كواذب الشبهات؟

- كان الأمر كذلك، وسيكون لأننا أقوياء، وحق الأقوى هو الأفضل، ألم تقرئي قول لافونتين:

- وأنت أقوى منا؟

- الجواب حاضر، فبيني وبينك في السن عشرون سنة، وأنت مع هذا تعجزين عن مصارعتي، وأنا أشتهي أن تصارعيني

- ذوق هذا العصر لا يعترف بالقوة الجسدية

- القوة الجسدية هي الأساس في جميع العصور

- وهل حصنتكم القوة الجسدية من الضعف؟

- أي ضعف؟

- الضعف أمام رقة المرأة

- هذا الضعف من شواهد قوة الرجل، كما أن ضعف المرأة أمام فحولة الرجل من شواهد قوة المرأة

- أنت إذاً أضعف مني، لأن خضوعك لي أقل من خضوعي لك

- خضوع الرجل للمرأة خدعة من خدع الحرب، وأنا منتصر، والمنتصر لا يحتاج إلى الخداع

- والنتيجة؟

- النتيجة معروفة، وهي أن النساء لا يصلحن لمساواة الرجال

- أنت تعرف أني لا أرى هذا الرأي

- وأنت تعرفين أني أنكر على المرأة جميع الحقوق

- جميع الحقوق؟

- حتى حق الحب!

- إذن نفترق - إن طاب لك الافتراق

- ولا نتلاقى أبداً؟

- أبداً أبداً

- ولكني أرى هذه المعضلات تحتاج إلى حلول، فهل نلتقي في الأسبوع المقبل، على شرط أن نظل متخاصمين في الرأي؟

ثم انصرفت وأنا من تلك العيون على ميعاد، للمجادلة والاختلاف، وسنجادل ونختلف، ونجادل ونختلف، لأرى كيف ترفع ذراعها وتلوي وجهها، ثم تحدق في لأقتنع

آمنت بالحب والجمال، آمنت آمنت، فزدني اللهم إيماناً إلى إيمان.

زكي مبارك