مجلة الرسالة/العدد 540/جامع أحمد ابن طولون
مجلة الرسالة/العدد 540/جامع أحمد ابن طولون
2 - جامع أحمد ابن طولون
(حديث ألقي في نادي النجادة في ليلة القدر)
للأستاذ أحمد رمزي بك
قنصل مصر في سوريا ولبنان
إنه لمن غير المستصعب والمستغرب أن يقيم رجل العصبية دولة بين أهله وعشيرته، ولكن أن يخرج رجل وحيد ينحدر من سلالة في أواسط آسيا، فيؤسس ملكا عريضاً يضم مصر والشام والثغور والعواصم، ويسيطر بذكائه وفطنته فيقود، وينتصر، وتخضع له الخاصة والعامة، وتدين له الرقاب ويقارع أكبر سلطة شرعية، ذلك أمر لا يتم إلا لرجل قد امتاز عن كافة الناس وخصته العناية بصفات من الأخلاق والمزايا النفسية لا تتوفر في غيره
ويذكرني ذلك بما كتبه أحد مفكري الغرب عن عظماء الرجال في القرن العشرين إذ قال: إن هناك قوات جامحة من قوى الطبيعة تسبح في فضاء هذا الكون، فتصيب الرجل العظيم الذي هيأته العناية لدور فاصل في تاريخ الإنسانية، فتراه قد استيقظ إذ لمسته وأفاق فقبض على هذه القوى بكلتا يديه، فدانت له الجماعات وخضعت لمشيئته، فإذا هو على رأسها يسخر هذه القوى ويدفعها إلى الأمام فيغير مجرى الحوادث ويكتب التاريخ كما يشاء، ذلكم هو أبو العباس أحمد بن طولون، رجل من عظماء التاريخ العربي ملك مصر وقاد وانتصر
ولسنا في موضوع الحديث عنه ولا عن أعماله لنؤرخ له، وإنما نحن في مقام التعريف لذلك الرجل الذي عاش في القرن الثالث الهجري، وإذا كان لي أن أختم هذه الكلمة وما أصعب على النفس ختمها فما لي سوى ترديد قول شوقي في شعره الخالد عن الزعيم مصطفى كمال إذ ينطبق على أميرنا ابن طولون:
هو ركن مملكة وحائط دولة ... وقريع شهباء وكبش نطاح
وأنتقل الآن إلى الجزء الثاني من هذه المؤانسة فأحدثكم عن زيارتي لجامع ابن طولون
كان ذلك في خريف العام الماضي، حينما حللت بالقاهرة المعزية، وكان وقت الأصيل حينما توجهت إلى جامع ابن طولون وارتقبت ذلك لأرى أثر أشعة الشمس وقت غروبها، وما تلقيه من روعة، على منظر القاهرة، فإن رؤية مآذنها العالية وقباب مساجدها التي تعد بالمئات مما يدخل في قلبي رهبةً وإحساساً فائضاً وحنيناً إلى الماضي وعوداً إليه
ولما صعدت إلى قمة المنارة ونظرت إلى أطراف المدينة من مشهد السيدة نفيسة والإمام الشافعي، إلى القلعة فالسلطان حسن والرفاعي، ثم إلى جامع الجاولي حيث أعجبني هذا التناسق البديع الفائق الحد الذي يبدو بالنظر إلى القبتين المتجاورتين إذ هما قطعتان من قطع الفن العربي الخالد
ولا أحدثك عن الذكريات التي غمرتني ساعتئذ وإنما تساءلت كيف حفظت العاصمة كل هذا التراث العربي العظيم؟ وكيف خرج من كل أدوار التاريخ خالداً، وهو يدافع المحن ويسمو على طوفان الحوادث
ولا بأس من إيراد حديث دار مع سيدة من كبريات سيدات الغرب، وقت أن نزلت من المنارة واتجهت إلى صحن الجامع، فقد كانت جالسة على كرسي فحيتني أحسن تحية، ثم قالت لي كالمعاتبة لغيري:
(متى بلغ اهتمامكم بآثاركم العربية هذا الحد حتى أتيت من بيروت لتقضي إجازتك السنوية، ووقت راحتك في منادمة أطلال الماضي وما درس من آثاره؟)
قلت: بلى أحن إلى هذه الجدران، وأعرف نقوشها، وهذه المئذنة والمحاريب وهذا المنبر الذي وضعه حسام الدين لاشين، وما شعرت يوماً بأني غريب عنها، بل هي عندي صورة من صور الماضي الباقي الذي يفيض حياة، ويلازم فكري، واستمد منه قوة على قوة، وأسير في هداه، وأستعير منه الحجة لأقرع بها الحجة. . .
ولما تركتها متجهاً إلى الأروقة قلت يا لله! إن المساجد له، وهي مع ذلك تعلو علواً كبيراً، ليغمرها العز والسؤدد والمجد ثم تهبط إلى التدهور والتفكك والنسيان حتى يقيض الله لها من ينتشلها من وهدتها. فالنتعرف إلى بعض الشيء من عظمة هذه الجدران. . .
لقد حمل هذا الثرى الذي أسير عليه ابن طولون وملكه، وطالما ازدحم هذا الصحن بالأمراء والجند والعامة، ولو نطقت هذه الجدران لحدثتنا حديث رجال الفقه والتفسير والحديث الذين اجتمعوا هنا لسنين خلت. ولأعادت علينا آيات الكتاب الكريم التي رتلت أصوات المؤذنين والشيوخ والقراء التي ذهبت في أعماق الماضي البعيد. أين صناديق المصاحف الطولونية والشمعدانات التي وضعها الحاكم بأمر الله؟
أين القناديل المعلقة بالسلاسل التي وصفها المؤرخون؟
أين الأبسطة والفرش من عبدانية وسامانية التي أمر بها ابن طولون وخص بها المساجد؟
أين جماهير المصلين وحلقات الدرس والتلاوة؟
ووقفت أمام المحراب الكبير، وقلت هنا صلى بالناس، عندما كمل الجامع، القاضي بكار بن قتيبة إماماً، وهو مفخرة من مفاخر القضاء المصري في القرن الثالث، وهدية البصرة لمدينة مصر
وعلى منبر في مكان هذا قام أبو يعقوب البلخي يوم الافتتاح خطيباً؛ ثم جاء الربيع بن سليمان، وهو من تلامذة الشافعي رضي الله عنه، بل من أحبهم إلى قلبه، فافتتح دروسه في إملاء الحديث بقوله عليه الصلاة والسلام
(من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة، بنى الله له بيتاً في الجنة).
ففي أي ركن من هذه الأركان كان هذا الدرس؟
وأين اللوحة التذكارية لهذا اليوم؟
لابد أن يكون مكان هذا الدرس على مقربة من المحراب الكبير، فلنتمهل ولنترحم على صاحب الدرس وعلى شيخه وأستاذه.
(للحديث صلة)
أحمد رمزي