مجلة الرسالة/العدد 54/من الشعر المنثور
مجلة الرسالة/العدد 54/من الشعر المنثور
المدينة الهاجعة
للأستاذ خليل هنداوي
مهداة إلى مدينتي الصغيرة الراقدة رقاداً عميقاً على الشاطئ الأزرق. . . . . صيداء.
خليل
خاطر أزعج نفسي ... يا له من خاطر!
ما له من أول ... ما له من آخر
دعوا مدينة البحر تنم هادئة، فقد أرقتها يقظة الشاطئ،
لا توقظوها إذا جاء الفجر. . . أنها نائمة.
نامت عن الأرزاء والشجون.
واستسلمت للأحلام الجميلة وأطبقت عليها الجفون
من فاته في اليقظة الهناء
فليطلب النوم، ففيه شفاء
وليفر أحلامه بألوان الضياء
فتصبح الروح بها ناعمة
ألا لا توقظوها. . . إنها حالمة
نامت في غابر الزمن على الشاطئ الأزرق نوماً عميقاً،
وفي النوم تتبدل الخاطرات، وتتغير الأرواح،
إذ لا سكون في عالم الحركة، ولا وقوف في عالم الضوضاء.
تبدلت مدينتي وهي راقدة، وهبت فلم تر من آثار أخواتها إلا أطلالاً بالية، ورسوماً عافية.
فمشت بين مدائن غريبة حائرة ذاهلة، مشية أهل الكهف بعد يقظتهم!
رجعت إلى شاطئها الأزرق كما قفل أولئك إلى كهفهم،
لأن الحياة تنكرت لها ولهم
فنامت. . . ولا تزال نائمة لا توقظوها. . . إنها حالمة.
يهوي على قلبي أسى مبهم
أكتمه قسراً فلا يكتم
ألا أيها الأسى في أية جانحة تجثم؟
لا خمر تقوى على أمرك!
ولا غادة تقوى على قتلك. . .
أي أسى في روحي السائمة؟
تذوقت أيها الغريب جمال الصحراء الذي لا تنتهي حدوده كما لا تنتهي لها حدود،
وفنيت مع طيوبها، وامتزجت مع ألوانها
وجريت مع (فراتها) الصامت، ورتلت مع أطيارها،
فمالك لم يشبعك جمال، ولم تذهلك هذه الأشكال؟
فيك وحشة من كل شيء، لا يغلب عليها شيء،
ولا تنير آفاقك المظلمة شمس، ولا ينفذ إليها قمر
لأن في روحك وحشة من كل شيء. . .
لا الطبيعة تشبع نفسك، ولا عبيرها يسكر روحك.
لأن مدينتك الصغيرة بعيدة عنك. . .
وإن لم يكن لك في مدينتك - أيها الغبي - إلا الصخور والأمواج، فإنها ستدعوك إليها.
لا حبيب في زواياها يناديك.
ولا صديق يناجيك.
الرمال التي تحسبها جامدة ميتة. . . الرمال التي كنت تعبث بها طفلاً تناديك.
تناديك لتحتضنك. . . هي مبعث وحشتك، وموئل ذكرياتك.
للصخور الصلدة روح، وللأمواج المتقلبة روح
تحيا كلها في حنايا روحك
هي نائمة كمدينتك النائمة. . .
لا توقظوها. . . إنها نائمة ترقد مدينتي الصغيرة في كل شيء أراه، حتى في ذرات الرمال وقزعات السحاب.
ويرن صوتها في كل مبعث صوت، حتى في وقع الأمطار.
فأين أفر من وجهها، وكيف أصم أذني عن صوتها؟
وكل الأشياء التي نحيا فيها تحيا فينا.
هي حية في نفسي. . . مدينتي الصغيرة
هي مبعث وحشتي في هذه الحياة الغريبة.
هي التي تجذبني إليها وتخيم فوق رأسي في غربتي كالسحابة السوداء،
هي مجمع ذكرياتي التي تصطف للقائي في كل زاوية من زواياها،
وفي كل ثنية من ثناياها
سأحاول أن أنسى. . . وسيساعدني الزمان على النسيان،
وأية ذكرى وأية خطرة تستطيع أن تثبت أمام سلطان الأزمان؟
لكن شاطئك الأزرق الجميل. . شاطئك الذي امتزج دمه بدمي،
وخفق قلبه في قلبي، أنّى لي أن أنساه؟
هو كالقطرة التي تنعكس فيها كل السموات والنجوم. . .
ألا هنيئاً للجالس على شاطئك الأزرق فانه مالك كل شيء.
صيداء
خليل هنداوي