مجلة الرسالة/العدد 54/مجهولو الأبطال
مجلة الرسالة/العدد 54/مجهولو الأبطال
عيسى العوام
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
وقفت إلى جانب الطريح المسكين وقد فقد المحيطون به الأمل في حياته، وكان رجلاً نيف على الستين، ظل يجاهد في عمله حتى وقع وهو يدفع عربته وعليها حملها الثقيل فكان في وقعته أجله، وهو من أهل الصعيد الأعلى كما تنم عليه عمامته وسحنته، إذ كان ثوبه المهلهل لا يكاد يتماسك في رأي العين ليكون آية دالة على منبت لابسه، فكان موته في جوار البحر الملح موت المهاجر الشهيد، لا تحيط به عناية أهل، ولا ترفه عنه شفقة البنين. ومن يدري ماذا كان يعاني ذلك المسكين قبيل ضجعته من آلام تحملها صامتاً، وجاهد في سبيله وهي تخزه وتطعنه؟ ومن يدري على أية حال من الضعف كان يدفع بحمله في سبيل القوت، وسوط الجوع من ورائه يلهب ظهره؟
ووقف حوله معي من أهل الساحل بقوامهم السمهري ولونهم الخمري، فكانوا يؤدون له تحية الوداع على غير معرفة، والشفقة بادية في محياهم، ولم يكن أحدهم خيراً منه بزة ولا مظهرا، ولكنهم كانوا جميعاً يعرفون كنه ما في هذه الحال من عظمة لأنهم يجاهدون مثله، ولعلهم هاجروا مثله من بلاد قصايا في التماس الخبز وما يبلله من رقيق الآدام. (أولئك قومي بارك الله فيهمو)
وانصرفت وفي عيني دمعة كما كان في عين سواى من الوقوف إشفاقا على ذلك المسكين، وجعلت أفكر فيما تدين به الحياة لهؤلاء. فهم عدة السلم، وهم سواعد العمل، وهم جنود النضال. وأذكرني ذلك التفكير ببطل من هؤلاء الدهماء ذكر التاريخ اسمه، وأقام له تمثالاً هو رمز لمجهولي الأبطال، فلسنا نعرف أهله ولا منبته. ولا شيئاً مما يمسه غير اسمه، وهو (عيسى العوام)
كان ذلك الرجل يعيش في عكاء ثغر الشام منذ نيف وثمانمائة عام. في أيام النضال الكبير بين الشرق والغرب - أيام الحروب الصليبية - وكان السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب في ذلك الوقت في صراع الحياة أو الموت مع ملوك الفرنج قد بلغ به الجد أن كان يتمثل بقول عبد الله بن الزبير وهو يصارع الأشتر النخمي في موقعة الجمل مصارعة من لا يريد هوادة، إذ قال:
اقتلوني ومالكا ... واقتلوا مالكا معي
وكان الفرنج قد جمعوا جموعهم وحشدوا أمام عكاء، وجعلوا التغلب عليها مقصد همهم. فكان هناك ملوك ثلاثة هم أكبر ملوك أوربا وزعماء فرسانها. وحاصروا المسلمين في ذلك الثغر من قبل البر ومن قبل البحر، وأتى صلاح الدين من خارج المدينة يحاول رفع الحصار عن إخوانه وجنوده.
واستمات جنود الجانبين في القتال، وبذل كل قصاراه في النضال، وعض على النواجذ من الأضراس. واستطالت بهم الحرب نيفاً وسنتين، حتى اشتد الأمر بالمحصورين، وعجز صلاح الدين عن أن يرفع عنهم نطاق الأعداء، فأخذ ذلك النطاق يتضامن ويشتد، حتى بلغت الشدة بالمحصورين مبلغاً عظيماً، وتراخت همة الدفاع من طول الجهد وشدة القتال.
فذهب جماعة من صيادي عكاء ممن درجوا على أمواج البحر ونشأوا على أمواهه، فعرفوا مداخله ومخارجه، وبرعوا في اقتحام تياراته وخوض غمراته، وعرضوا على قادة المسلمين ما في طاقتهم من المساعدة في ذلك المأزق. وتساءل القادة ماذا عسى هؤلاء يصنعون في قتال العدو؟ وماذا تراهم يستطيعون أن يرزأوا فيه؟ فأقبل عليهم الصيادون يعرضون أن يحملوا الأخبار إلى إخوانهم المحصورين، وأن يحملوا المال إليهم إذ استحال على السلطان الاتصال بهم، وقالوا انهم يستطيعون أن يستتروا بجنح الليل فيسلكوا سبيلهم بين سفن الأعداء سباحة، فإذاما تعذر ذلك سلكوا بينها غاطسين في الماء كما تسلك الأسماك وتسبح الحيتان. وكان صلاح الدين في أشد الحاجة إلى الاتصال بالجنود والقواد الذين يدافعون عن المدينة، فقبل ما عرض هؤلاء الأبطال، وكانوا منذ ذلك الوقت لا ينقطع وافدهم من المدينة إلى عسكر المسلمين، أو من عسكر المسلمين إلى المدينة. وكانوا لا يطلبون في سبيل ذلك جزاء، إن هو إلا قربان يقدمونه احتساباً، وواجب يؤدونه عن رضا وسخاء.
وظهر من بنهم (عيسى العوام) فكان أسرعهم سبحا وأجرأهم على الليل والنهار، وأكثرهم إقداما على الأخطار. فصار يهتف باسمه، ويدعى إذا ما اشتد الخطر وادلهم الخطب. وكان هو لا يخيب ظناً ولا يخيم عند دعوة. وكانت بسالته تزداد كلما ضاقت حلقة الحصار.
والتأمت فروجه واتصلت سلسلته. فكان أقر لعينه وأثلج لصدره أن يغوص في شبر بين سفن الفرنج، أو يسبح على مرمى سهم من نبالهم. وبقي على أداء واجبه مدة حتى طلع يوم، وانتظر أهل عكاء طلوع عيسى عليهم من ثنايا الموج كعادته، فلم يتحقق لهم ذلك. وطال وقوفهم وامتدت أعناقهم نحو البحر، كلما برق لهم شيء سابح، أو لمع لهم جسم طاف، أشاروا إليه إشارة الملهوف، وتوقعوا أن يكون هو عيسى، ثم تبين لهم أنه حباب الماء أو رشاش الموج، فعادوا إلى ناحية أخرى، فشدوا إليها أبصارهم ثم لم يلبثوا أن يجدوا خيبة لظنونهم وتكذيباً لأوهامهم. ولما طال بهم الوقوف وملوا الانتظار انصرفوا وفي قلوبهم هلع وتوقع للمحذور، ولم تخل صدورهم من شكوك ساورتها في أمانة عيسى وديانته. وقديماً كان في الناس الطمع وأعماهم الجشع، وقديماً فتنهم حب المال وأغواهم شيطان الغرور. أيكون عيسى كبعض من خان وافتتن؟ أيكون عيسى ممن خذلتهم نفوسهم عندما استطال بها النضال، وانخلع فؤادهم عندما اكفهر الجو وأظلم؟ لم يرد الله أن يدع تلك الشكوك تساور ذكرى عيسى، ورحم ذلك الرجل أن يهمس هامس عند ذكرى اسمه بما ثار في صدره من شك، فتسود بين الناس صحيفة بيضاء عند الله. فأرسل الموج حاملاً جسمه نحو الشاطئ، ولا تزال حولها أكياس الذهب التي كان بعث بها صلاح الدين معه إلى المدينة. فرأى الناس عند ذلك جثة شهيد قضي وهو يؤدي الأمانة، وجاد بالنفس وهو في سبيل الخير والمجد.
رحم الله (عيسى العوام)! وكم في الناس من مثل عيسى؟ غير أن التاريخ لا يذكر منهم أحداً إلا فلتة ليشير إلى أن بين المجهولين آلاف الألوف من أفذاذ الأبطال.
محمد فريد أبو حديد