مجلة الرسالة/العدد 54/الامتيازات الأجنبية والضرائب
مجلة الرسالة/العدد 54/الامتيازات الأجنبية والضرائب
للأستاذ زكي دياب المحامي
عبثت الامتيازات ولا زالت تعبث بمرافق الدولة العامة، ووقفت في سبيل نموها عقبة ليس من اليسير تذليلها إلا على الأيام. وأثرت فيما أثرت على التشريع المالي تأثيراً بالغا، وددتُ لخطورة شأنه أن أفرد له هذا الفصل.
إن المبدأ العام الذي يحكم تشريع الضرائب في البلاد المتمدينة هو وجوب قيام كل فرد يقطن الإقليم بقسطه في الضريبة التي تفرض، بغض النظر عن تباين الجنسيات. تلك هي القاعدة العامة التي يأخذ بها الشارع والتي تقتضيها حكمة التشريع. وهي تستند على فكرتين أوليتين: محلية الضرائب، وعمومية الضرائب.
والأولى بدورها تعتمد على الحقيقة المعروفة القائلة بأن سيادة الدولة محدودة في نطاق إقليمها. وعماد الفكرة الثانية ضرورة تحمل كل فرد نصيبه من التكاليف العامة، حتى تقوى الدولة على إنجاز المشروعات الكبار التي تضطلع بها.
والآن وقد أوردنا المبدأ العام متعجلين، نقول في أسف شديد بان مصر أكرهت تحت عبء الامتيازات على عدم التمشي مع ذلك المبدأ الذي أخذ به العالم كله؛ فالأجانب معفون أصلاً من الضرائب إلا إذا وافقت دولهم سلفا. وقد استطاعت مصر أن تحصل على هذه الموافقة بعد جهود كبيرة بالنسبة لأربعة أنواع من الضرائب يسوي في جبايتها بين الوطني والأجنبي وهي:
أولاً: الرسوم الجمركية، والضرائب التجارية المفروضة طبقاً للمعاهدات التجارية. فللحكومة أن تفرض من هذه الضرائب ما تراه لازماً كضريبة الكحول.
ثانياً: ضريبة الأراضي طبقاً للفرمان العثماني الصادر بتاريخ 7 صفر سنة 1284، وهو الذي خول لهم بمقتضاه حق تملك العقار.
ثالثاً: عوائد المباني طبقاً لاتفاق لندن سنة 1885، وللدكريتو الخديوي الصادر في 13 مارس سنة 1884.
رابعاً: عوائد مجلس بلدي إسكندرية طبقاً للمادة 31 من الدكريتو الخديوي المؤرخ 5 يناير سنة 1890.
فإذا ما حصلت الحكومة من أحد الأجانب رسوماً أو ضرائب في غير نطاق ما ذكرناه، كان له الحق في طلب استردادها أمام المحاكم المختلطة، التي تحكم طبقاً للمادة 11 من لائحة ترتيبها فيما يمس حقوق الأجانب المكتسبة بالمعاهدات.
وفي الطريق الذي استطاعت به مصر أن تحصل على موافقة الدول على تلك الأنواع المذكورة من الضرائب تفصيل رأيت أن أبسط شيئاً منه:
وافقت الدول الأجنبية على سريان قوانين الضرائب على رعاياها فيما يتعلق بالضريبة العقارية على الأراضي الزراعية، والضريبة العقارية على أراضي البناء، وهما نوعان من الضرائب المباشرة.
أما عن الضريبة العقارية على الأراضي الزراعية فلم يكن يسمح قبل القرن التاسع عشر لأجنبي ما أن يتملك عقاراً في الدولة العلية. ولم يعف الأجانب من هذا الحظر إلا عندما حل عام 1867 إثر مفاوضات طويلة. على أنه بالرغم من ذلك المنع السابق، اعتاد الأجانب أن يسلكوا طرقاً ملتوية للحصول على تلك الملكية المحرمة، فكان الواحد منهم يبتاع الأرض باسم شخص متجنس بالجنسية التركية. وإزاء ذلك رأت الدولة العلية أن تضع حداً لتلك الحال، فأباحت تحت تأثير هذا العامل الملكية العقارية لكل فرد، بغض النظر عن تباين الجنسيات. ولقد تعرض الحظر الهمايوني الصادر سنة 1856 لهذا الموضوع، فنص صراحة على إباحة الملكية العقارية للأجانب في أراضي الدولة وولايتها، على أن يذعن هؤلاء الملاك لما يفرض على الجميع من التكاليف المالية، فاستووا بذلك مع الأهالي.
ولكن حركة الإصلاح لم تنجح، إذ تأجل نفاذ النصوص الصريحة؛ فحاول الباب العالي بعد ذلك مرة أخرى أن يخضع هؤلاء الأجانب للوائح والقوانين التي تسري على الملكية العقارية، وطلب ذلك مُلحّاً، فأجابته الدول إلى ما طلب بقانون صدر بتاريخ 10 يونيه سنة 1867 الموافق 7 صفر سنة 1284، وسمح للأجانب أن يكونوا ملاكاً عقاريين للأراضي الزراعية في الدولة العثمانية، وألزموا بالقيام بكافة الفرائض المالية على الأراضي الزراعية - أسوة بالوطنيين - في أي صورة تتشكل بها تلك الفرائض
ولقد خول الأجانب في مصر حق تملك الأراضي وكلفوا في الواقع بضرائبها قبل أن يُسن قانون 7 صفر ومن قبل أن يسمح لهم بالملكية في تركيا. ذلك أن الأجانب الذين حازوا في مصر ملكية عقارية لم يفكروا في منازعة الحكومة المصرية في حق كانوا يرون من الطبيعي الخضوع له، فكانوا يعتبرون الضريبة ديناً على الأرض نفسها لا على مالكها (دو روزاس ص465)، ومن أجل ذلك كان غير صحيح القول - كما يرى دو روزاس - بأن فرمان 7 صفر هو الذي قرر الضريبة العقارية على الأجانب في مصر.
تلك هي الأدوار التي مر بها تشريع الضرائب العقارية على الأراضي الزراعية وخضوع الأجانب لها.
أما الضرائب العقارية على أراضي البناء فقد قبل الأجانب سداد الضرائب العقارية عن الأراضي الزراعية بعد اقتناع وتسليم بوجاهة الطلب. ولكنهم رفضوا جميعاً الوفاء بضريبة أراضي البناء حتى بعد صدور فرمان 7 صفر الذي صادقت عليه الدول، والذي تقضي مادته الثانية بإلزام الأجانب بالضرائب على الأراضي الزراعية والأراضي المبنية. وفي إنكار هذا الحق وعدم النزول على إرادة القانون تحميل ثقيل للنص الصريح.
ولا عجب فلقد ذهبت المحاكم المختلطة مذهبهم وعززت وجهة نظرهم في أحكامها، فقررت أنه برغم إطلاق النص في قانون 7 صفر وشموله الضرائب العقارية عن الأراضي بنوعيها، فان العرف قد أكسب الأجانب حق إعفائهم من الضرائب على أراضي البناء. ونحن لا يكفينا إزاء الدور الذي تلعبه المحاكم المختلطة في موضوعنا هذا أن نمر سراعاً على حكم لها، بل سنبين فيما بعد أكثر أحكامها معلقين على بعضها عندما نرى ضرورة لذلك.
وأخيراً وبعد لأي وافقت الدول على تطبيق دكريتو سنة 1884 المتعلق بالضريبة على الأراضي المبنية على رعاياها، وكانت تلك الموافقة سنة 1885.
هاتان الضريبتان المباشرتان يخضع لهما الأجانب حالاً في مصر بعد الجهود المضنية التي بذلت للموافقة عليهما وبخاصة للموافقة على ضريبة المباني، فمن إنكار تام لمشروعيتها، إلى عبث بالنص صريح، إلى أحكام منتقدة تصدر من المحاكم المختلطة، ولا أرْجعُ أنا هذه المحاورات والتمحل من الطرف الأجنبي إلا إلى رغبة كمينة في النفس الأجنبية تدفعها دائماً إلى أن تجعل في يدها جماع الحقوق وأكثر المنافع.
ولسنا في حاجة إلى أن نبين كيف وافقت الدول على النوعين الآخرين من الضرائب، فلقد حَمَّل دكريتو 5 يناير سنة 1890 في المادة 31 منه الأجانب عبء عوائد مجلس بلدي الإسكندرية، شأنهم في ذلك شأن الأهالي، لما لبلدية إسكندرية من شخصية معنوية ممتازة، ونظراً لتمثيل الأجانب فيها تمثيلا صحيحاً. أضف إلى ذلك كثرتهم في الثغر، فلو تخلصوا من عبء الضرائب فقدت بذلك البلدية مورداً هاماً.
وللحكومة المصرية بما تبرمه من معاهدات تجارية مع الدول الأجنبية أن تفرض الضرائب التجارية والرسوم الجمركية.
أما المحاكم المختلطة فلقد لعبت دوراً خطيراً في الموضوع، فكلما همت الحكومة راغبة في فرض ضريبة جديدة حال بينهما وبين ما تبغي عدم اعتراف المحاكم المذكورة بحق الحكومة في فرض ضرائب جديدة تُحَمّل بها الأجانب فلا تستطيع إزاء ذلك شيئاً. فلابد من موافقة الدول سلفاً، ويجب أن توافق هي مقدماً على كل ضريبة مستحدثة. وكل إجراء مالي سن به قانون أو شرع في سنه وكان يلقى على عاتق الأجانب عبء ضريبة أو فريضة مالية أيا كان نوعها.
ووقف قرار الجمعية العمومية بالمحكمة في سبيل فرض ضريبة السيارات التي شرعت الحكومة في سنها أخيراً ورأت أن الحكومة تريد بذلك أن تفرض نوعاً مستتراً من الضرائب العقارية على الأجانب لأن تلك الضريبة كما تراها هي رسوم لاستعمال الطريق العام.
وأخيراً وبعد جهود عادت فأقرتها. وقضت تلك المحاكم في القضية التي رفعها الفيكونت روفونتارس سنة 1912 بأن الضرائب التي تفرضها مجالس المديريات للصرف منها على المنافع العامة ليست خاضعة لشروط موافقة الجمعية العمومية المقررة في مادة 24 من القانون الصادر في أول مايو سنة 1883.
وقضت كذلك في عدة قضايا، منها قضية شركة سكة حديد القاهرة الكهربائية، وقضية أوجست قساجيه ضد مديرية البحيرة.
وترى المحاكم المختلطة أيضاً فيما يتعلق بالأشخاص المعنوية أنها إن كانت مؤلفة من الأجانب تخضع للضرائب المباشرة التي تقررها الحكومة المصرية على الأشخاص الطبيعيين المصريين.
وخلاصة القول أن المحاكم المختلطة انتهت إلى التفريق بين الضرائب المباشرة وغير المباشرة، فهذه الأخيرة يجوز فرضها، أما الأولى فيجب لفرضها موافقة الدول، على أن ذلك القيد قديم نشأ نتيجة لعرف فاسد منتقد لا نتيجة نص صريح.
ومما يستنبط من ذلك أيضاً ومن مجموعة الأحكام التي لم نشأ أن نورد كل ما لدينا منها أن للحكومة أن تفرض ضريبة مباشرة أو غير مباشرة على رعايا الدول غير المتمتعة بالامتيازات، وعلى الشركات المساهمة المؤسسة في مصر وقد حكم بأن جنسيتها مصرية ولو كان أعضاؤها أجانب، وان كانت تشملها في حالة تقاضيها نظرية الصالح المختلط. ولكن ذلك لا يزيل مالها من صفة مصرية يظهر أثرها فيما يتعلق بالضرائب.
(بقية البحث في العدد القادم)
زكي دياب