مجلة الرسالة/العدد 534/فوق جبل البارود

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 534/فوق جبل البارود

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 09 - 1943


للدكتور زكي مبارك

طاف الشاعر بالشواطئ طوافاً طال حتى بلغ سبع ساعات، وكانت غايته من طول الطواف أن يرى جنية تفوق صاحبة الميعاد، ليستطيع التمرد عليها إن فكرت في التمرد عليه، ولكنه لم ير في الشواطئ ما يصيبه أو ينسيه، فقد كانت الجنية أقوى روح تخطرت فوق تلك الرمال

أيان يذهب الشاعر لو نفرت منه الجنية؟

لقد سحرته سحراً لا نجاة منه ولا خلاص، وصيرت السجن أحب إليه من الحرية، وفرضت عليه أن يفرح بنعمة الشقاء

أنه يذرع الشواطئ من الجنوب إلى الشمال، ومن الشمال إلى الجنوب، فلا يرى من ذلك الملك العريض، ملك الحسن الوهاج، غير ألماح مقبوسة من نيران الجنية، والجنيات خلقن من النار لا من الماء

سبع ساعات والشاعر في حيرة من أمره، في حيرة من بخل الطبيعة بأن تجود عليه بما يصيبه أو يسليه ليتمرد على الجنية لحظة من زمان

وكان الميعاد عند الغروب، في اللمحة التي تخلع فيها الشمس أثوابها الفضية لتستحم في البحر وتنام إلى الصباح

- ألا تخاف على الشمس من هذه العاقبة؟

- أية عاقبة يا محبوبتي؟

- عاقبة اغتراق الجمر في الماء

- لو كان الماء يطفئ الجمر في كل وقت لأطفأت دموعي نار قلبي

- ولك دموع وأنت أقسى من الجلمود؟

ومضينا فخلونا بمكان لا يهتدي إليه رقيب ولا عذول، وكانت الخلوة مزعجة إلى أبعد الحدود، فقد كان الغرض أن أستطيع حصر نار الجنية في مكان، وأن تستطيع الجنية حصر قلبي في مكان

- اجلس هنا لأجلس هناك - جلست هنا فاجلسي هناك

- ولا تمد يدك ولا بصرك

- أنا أملك كف يدي ولا أملك غض بصري

- وكيف رضيت بهذه الخلوة يا شقية؟

- أردت أن أمتحن قدرتي على مقاومة الساحرين من أمثالك، فامتحن قدرتك على مقاومة الساحرات من مثيلاتي

ثم أسلمت الساحرة جفنيها إلى نوم عميق

كان قلب الجنية بكراً قبل أن أراها وتراني، فليس لها في الحب تاريخ، ولم يجر اسمها على ألسنة الماجنين، ولا أقلام العابثين، وإنما استهواها قلمي وشعري فأرادت أن ترى كيف يعيش الكتاب والشعراء

لابد مما ليس منه بد

لابد من احترام رغبة الجنية، وهي قد ألحت في أن (أقسم بشرف الحب لتنامن في أمان)

قال الشاعر: ونظرت فرأيتني مقهوراً على امتشاق القلم لأسجل ظاهرة روحية لم يعرفها من قبل أحد من المحبين

كنت ألتهمها بعيني والقلم في يدي، وكان نومها شبيهاً بنوم الفتنة، ونوم الفتنة مقدمة الهبوب

نامت الفتنة واستيقظ ضميري، فهممت بإلقائها من الشباك ولكن هذه الفتنة ستتعرض لمآثم إن رفعت عنها حمايتي في مثل هذا الليل

آه ثم آه!

أنا في هذه اللحظة أقيم فوق جبل من البارود، وشرارة واحدة تكفي لتحويلي إلى رماد تذروه الرياح، وأنا أبغض الفناء

واستيقظت الفتنة فرأتني في سياحة فارسها القلم وميدانها القرطاس

- ماذا تصنع؟

- أسجل خواطر وكلمات

- وماذا سجلت؟

- سجلت ما نصه بالحرف: (هي لحظة جمعت أطراف النعيم في جميع الأقطار وفي جميع الأزمان، فما كان لها مثيل في تصوير عشاق النعيم في زمان أو مكان، لأنها فوق ما يجوز بخواطر أهل الخيال من طلاب المحال. . . هي لحظة فيما تعرف التعابير الدنيوية، ولكنها فيما تعرف الأرواح آباد أطول من عمر الخلود. . . هي لحظة لا يبالي من يعيشها معنى الحياة والموت، لأنه اجتاز بها آفاقاً لا يجتازها غير من تسامت قدرته على ضجيج الحياة وسكون الموت. . . في تلك اللحظة طاف القلب وطاف الروح بمعالم ومجاهل لا يدرك العقل منها غير أطياف. . . هي لحظة ولكنها العصارة الدامية من قلب الوجود، وأنا عشت تلك اللحظة فلتفعل الدنيا ما تشاء، وما الذي أبقيته للدنيا حتى تنتزعه من يدي؟ أنا نهبت من الدنيا جميع ما تملك، فلتقابلني إن استطاعت في ساحة القضاء)

قالت الجنية: أهذا هو المحصول لمثل هذه المغامرة العاتية؟

قلت: هذا ما يملك قلم يقيم صاحبه فوق جبل من البارود!

- ولكني لم أر جديداً في كلامك

- كيف وهو كلام لم يقله أحد من قبل؟

- أنت قلت مثله مرات ومرات، فكان مبتكراً أول مرة، ثم صار من المبتذلات

- وإذن؟

- وإذن تقول كلاماً غير هذا الكلام لأرضى عنك ونامت الجنية من جديد ولم تترك لي سميراً غير قلمي، فماذا أصنع؟

الخطر كل الخطر في عشق الموحيات من المليحات. هن يتوهمن أن العشق وسيلة لا غاية، ويرين أن ثمرة الحب ليست طفلاً يولد على نحو ما تكون ثمرات الحب في عالم الحيوان، وإنما الثمرة لمثل الحب الذي تسامينا إليه أن ينتج مواليد من كرائم المعاني، مواليد لا تتعرض للمرض ولا للموت

صوبت بصري إلى وجه الجنية وكتبت:

(لقد آذاني الحسن المجلوب بالطلاء، وهو حسن للموت فيه حيوية اللون، فغمرت محبوبتي في أثباج البحر لأرى قيمة ما تملك من جوهر الحسن الصحيح، والجمال عندي يوزن بحيوية اللون، وهي حيوية تتموج فوق الصدر والخد والجبين، وقد تتموج فوق اليدين بأسلوب لا يدرك مراميه غير فلاسفة الجمال. إن اللون قد يحتفظ بالصورة، ولكنه لا يحتفظ بالحيوية إلا أن سقاه ماء الشباب. وحيوية اللون هي سر السحر في العيون الزرق والخضر والسود، وهي أيضاً السبب في أن يكون بعض السمر أجمل من بعض البيض، لأن الأمر كله لحيوية اللون، والقول بأن البياض نصف الحسن قول عليل، فلا قيمة لنوع اللون وإنما القيمة لحيوية اللون)

ثم صوبت بصري مرة ثانية إلى وجه الجنية وقد هممت بأشياء، فهبت مذعورة وهي تقول:

- ماذا تريد؟

- أريد أن أقرأ عليك هذه الكلمات

فرحت الجنية بما سمعت، ثم استسلمت إلى الهجود، وتركتني وحدي

أنا أقيم فوق جبل من البارود، وشرارة واحدة تكفي لتحويلي إلى رماد تذروه الرياح

- أيتها الجنية، إسمعي!

- لن أسمع، وإن كنت سمعت

- وما نومك هذه الليلة تحت بصري؟

- لأعرف ما عندك من المعاني، فاكتب كلاماً يرضيني ثم هجعت الجنية في غيبوبة أبلغ من يقظة القلب الخفاق، ونهضت قبل الشروق، لتبلغ مأمنها قبل الشروق، بعد أن عرفت أن الإسكندرية لا تقل روحانية عن القاهرة، والمنصورة وأسيوط

لم تكن ليلتنا مما ينتظر في دنيا الحقائق أو دنيا الأباطيل، ولا جاز في أوهامها أو أحلامي أن تجري بيننا شؤون يفضحها نهار أو يسترها ليل، فقد شقيت بالجنية ما شقيت، ويئست منها ما يئست، ولم يبق لي أمل يفوق السماح بأن أعيش في عذاب. . . وفي الحب سجون لا تدخل بدون استئذان!

كيف ظفرت بالجنية؟

أكان من هواها أن تزور المكان الذي نظمت فيه قصيدة. . .

أي قصيدة؟ وهل نظمت بيتاً غاب عنه وحيها الجميل؟

إن حياتي في جميع مناحيها الروحية لا تعرف غير تلك الجنية، وأنا لا أرى الدنيا ولا أحبها إلا حين أتمثل روحها الشفاف وهو يناجيني برفق، أو يلاحيني بعنف، ونحن نذرع أودية الخيال

مضيت يوماً لرؤية النيل عند الطغيان ومعي صديق متبرم بمصر والمصريين، فقلت:

- هل تعرف يا صديقي كيف أرى مصر؟

- كيف تراها؟

- أراها في وجه الجنية التي نشأت فوق ضفاف النيل، ولولا الخوف من أن تتهمني بالجنون لقبلت كل وجه وكل شجرة وكل جدار بهذه البلاد

من أجل من؟

من أجل الجنية، فهي وحدها الدليل على أن مصر وطن الجمال

- الآن عرفت

- وماذا عرفت يا جهول؟

- عرفت كيف نجوت من التبرم بمصر والمصريين

- مصر وطن الجنية، والمصريون أعمامها وأخوالها، فأنا لها ولهم أوفى الأوفياء

- وما نصيبك من الجنية؟

- نصيبي أن تكون لي وحدي، وهي لي وحدي

- وهل تكون أجمل من الشمس؟

- جمال الشمس جمال مبذول، فليس له سحر ولا فتون أما جمال الجنية فهو جمال الزهرة المشرقة في ضمير البيداء، ولن تكون لغير من يدرك سرها الغريب

- وكيف اهتديت إلى هذا الجمال المجهول؟

- لقد اهتدى إلي قبل أن أهتدي إليه؟

- وكيف؟

- صنع معي بما تصنع السرحة لاجتذاب البلبل، فأورق وأزهر ليطيب فوق غنائي، فأنا أبدعت ذلك الجمال

- وهو أبدع شعرك

- وصيرني من أقطاب الوطنية، فما يحب الرجل وطنه إلا إن كان له فيه هوى وميعاد مضت أعوام وأعوام ولا أرى شمس مصر عند الشروق، وقد رأيتها عند توديع الجنية ورأيت معها النخلات المتشوقة لنور الصباح

مضى الزمن الذي كان أبي يوقظني فيه لصلاة الصبح قبل طلوع الشمس

فهل نعرف كيف قضت الشريعة بصلاة الصبح قبل طلوع الشمس؟

شباب النهار في الشروق، وشباب الروح في الشروق، فاحذروا نومة الصبح، لأنها لا تليق لغير النساء

لو رجعت الجنية لحدثتها بما نقلت عنها وهي تغرب عني مع الشروق، كما يذهب الحلم الجميل مع الشروق

علمتني الجنية ما لم أكن أعلم، علمتني أن الحب جهاد، وأن الله لا يخذل المجاهدين

هل رأيت الجنية في داري بالإسكندرية؟ هل رأيتها هنالك؟ وهل كان هذا التناجي من الحقائق لا من الأباطيل؟

قلبي يقول إني رأيتها وأنا لا أكذب قلبي، فإن لم أكن رأيتها فما هذا الذي أعاني من لجاجة الواشين والرقباء؟

لم يروني معها جنباً إلى جنب، أو قلباً إلى قلب، وإنما رأوا بشاشة روحي وأنا عائد من الإسكندرية فقدروا أني احترقت في كوثر الوصال

وروائح النعيم في أعطافي، ونيران الوجد في أحشائي، فأنا رأيت الجنية هناك، ثم رأيتها هناك

رأيتها رأيتها، وشربت على وجهها كأس الصفاء، فليفرح روحي بما يزخرف خيالي، ولو صرحت لتعرضت للشرارة التي تنسف جبل البارود

أنا ما رأيت الجنية ولا رأتني، وما كان حديثي عنها إلا ضرباً من تزاوير الخيال، فليطمئن عذالي ورقبائي، وليعرفوا أن حديث الجنية بعض الذي زورت من الأحاديث

أنا قضيت ليلة مع الجنية بعد ليالٍ وليال، وهذا عطرها في قلبي، وهذا سحرها في قلمي، فليصاولني سكان وادي عبقر، إن كانوا يطيقون

أتغضب يا ربي لأن أقول هذا القول؟ أنا أحكم بما أرى، وأنت لعدلك لا تطالبني بأن أحكم بغير ما أرى، وهذه الجنية هي آيتك عندي على التفرد بالجمال وفي سحرها قبس من سحرك، وبجمالها أتعرف إليك، فاجعل حبي لها كفارة عما ساورني من العقوق

هي جبين الشمس، وأنت فاطر الشمس، فليكن حبي لها وثنائي عليها فنا من الحب لك والثناء عليك.

زكي مبارك