مجلة الرسالة/العدد 532/إلى الأستاذ الزيات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 532/إلى الأستاذ الزيات

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 09 - 1943


آباؤنا وأمهاتنا وأبناؤنا

للدكتور زكي مبارك

بعد منتصف الليل من هذا المساء (29843) وسوس الهتاف

من جريدة الأهرام:

- ألو، ألو!

- خير، من المتكلم؟

- صالح البهنساوي، هل أزعجتك بالحديث في مثل هذا الوقت؟

- لم تزعجني، ويسرني أن أسمع صوتك، فما عندك من الأخبار؟

- عندنا خبر يقول: إن والدة الأستاذ الزيات ماتت، وأردنا أن نعرف منك مبلغ هذا الخبر من الصحة قبل أن ننشره في الوفيات

- لم أسمع هذا الخبر إلا منك، فلا موجب لنشره قبل التثبت ثم رجعت إلى نفسي أسأل عن مواساة الأصدقاء بعضهم لبعض، فقد كان يجب أن أكون أول من يعرف هذا الخبر إن كان صحيحاً، لأحضر دفن السيدة التي أنجبت هذا الصديق، ولأشترك في مواساته مع الأقربين

وحانت مني التفاته إلى الماضي يوم ماتت أمي، فقد طلبت بإلحاح أن تراني قبل أن تموت، وكان أبي يسوف لأنه يعرف أني أؤدي أول امتحان في الجامعة المصرية، وكانت النتيجة أن تدفن وأنا غائب، وأن تبقى الحسرة على أن لم أحمل نعشها على كتفي

هل كان أبي يعرف أن توديع أمي في لحظاتها الأخيرة أحب إلي من جميع المغانم العلمية؟

لو أنه عرف لأعفاني من لوعة سأعاني نيرانها إلى آخر أيامي

وقد لطف الله بأمي فماتت قبل أن يموت أخي سيد بنحو سنتين، فلن تشهد فجيعة الدار في موت فتى لم ينتصر عليه قاهر غير الموت

دخلت على أخي سيد وهو في الحشرجة فنهض من فراشه ليقبل يدي، ثم أسلم روحه إلى بارئ الأرواح

وكانت الفجيعة الأخيرة هي موت أبي، ولكنها فجيعة نفعتني أجزل النفع، فقد هونت الدن في نظري حين صورتها بالصورة الحقيقية، صورة الصحراء التي لا تضمن لسكانها من الضراغم غير الفناء

وهل تعزيت عن أبي وقد طال الفراق؟

أريد أن أخفف لوعتي فأذكر أنه عاش ما عاش وهو يعتقد أنني أوفى الأبناء: فما راجعته في كلمة، ولا رفضت له نصيحة، ولا استجزت المخالفة عن أمره في شأن من الشؤون

كنت ابناً بارا بأبيه، وكان بري بأبي يتمثل في صورة لم تخف عليه، فقد سمعت أنه تحدث بها إلى بعض الأصدقاء، وهي أني أخفي عنه همومي وأحزاني، فما بات ليلة وهو مغموم بسببي، ولا وصل إليه حزن من طريقي، ولا عرف أن الأبناء قد يكدرون حياة الآباء

والحق أني كنت أراعي معنى هو غاية في الخفاء، ومراعاة هذا المعنى كانت أعظم عمل أديته في حياتي، فما ذلك المعنى الدقيق؟

كانت الأقدار قضت بأن تمزق أملاك جدي كل ممزق، فلا يبقى منها غير أوشال، وكان أبي آخر العنقود، فلم تكن له مندوحة من أن يجاهد ليستبقي ومضات من الذهب المضاع

كان أعمامي جبابرة وكانوا قساةً وطغاة، وكانوا أيضاً منجبين، فلا يمشي الرجل منهم إلا وهو موصول الجناح بأبناء أشداء، فماذا يملك أبي في مقاومة أعمامي؟

لقد ناضلهم وحاربهم، واستطاع أن يستخلص بضعة فدادين يعيش من ريعها عيش الكفاف، إلى أن يجود الله بالغنى حين يشاء

وكانت دار أبي هي الدار التي مات فيه جدي، لأن جدتي كانت آخر زوجاته الغاليات، وفي تلك الدار نشأت، فماذا رأيت؟

كنا نستيقظ على زلزال يتمثل في سقوط إحدى القاعات، فيخف إلينا الجار الأقرب وهو عمي الشيخ سيد أحمد وبيده فانوس ومعه أبناؤه ليعاونوا على رفع الأنقاض

كانت أخطر فاجعة تهون على أبي ما دامت بعيدة عني

هل أستطيع تأدية واجب الوفاء لأبي، ولو نظمت في رثائه ألف قصيد؟

وفي إحدى العصريات دخلت الدار فوجدت أمي تخرج وهي مذعورة، فماذا وقع؟

كانت أمي رأت ثعباناً في أبراج الحمام فغزته بالنار ليختنق، فامتدت النار إلى سقوف الدار فحولتها إلى نيران وفي لحظة أو لحظتين بدت شهامة أهل سنتريس

لقد تجمعوا من كل جانب رجالاً ونساءً ليخمدوا تلك النيران بالماء والتراب

وماذا يملك أولئك الأوفياء؟

لم يكن في بلدنا غير آبار معدودات، فكان من الصعب إخماد نيران لا يخمدها غير البحر المحيط، وكانت العاقبة أن يحترق البيت من جميع الجوانب وأن يمسي بلا سقوف، مع قسوة الشتاء

ونظر أبي فرآني بعافية، فحمد الله وأثنى عليه، ثم جلس على مسطبة المضيفة وهو في غاية من الاطمئنان

وفي أعقاب السهرة الجياشة بكلمات المواساة سمعنا ضجيجاً يخطر في البال في مثل تلك الحال، فما ذلك الضجيج؟

رأينا جماعة العيسوية تغزو دارنا بركائب محملة بأقوات تكفينا عشرة سنين، فوقف أبي وقال: إن باب الدار لم يحترق، وسأغلقه إن لم ترجعوا مشكورين

كان مقام أبي في تلك الليلة مقاماً رهيباً، فقد أتت النيران على جميع الأشياء، وتركتنا بلا قوت، وإن لم أذكر أني نمت في تلك الليلة بلا عشاء

ما الذي كان يمنع من أن يقبل أبي مواساة أعمامي؟

منعه الخوف من أن يمن عليه أخ أو صديق في الأيام المقبلات

كان أعمامي كراماً برغم ما أرادت الأقدار في تحيف ما ورثوا من الثراء العريض، ولكن أبي رفض معروف اخوة سيحاربهم أو سيحاربونه بعد يوم أو يومين

تمثلت لي متاعب أبي في حياته حين شببت عن الطوق، فقررت إعفاءه من التعب إلى آخر الأيام من حياته الغالية

أردت أن أكون لأبي ابناً وأخاً وصديقاً فكنت، وقد محوت عن صدر أبي تلك السطور السود، سطور الشقاء بالأهل والأقرباء

هل عرف أبي أن له أبناً تمتحنه الحياة؟

لقد أخفيت همومي عن أبي فكانت تصل إليه وهي أساطير، وكان لا يتوهم أن كيد الدنيا يصل إلى من يكون في مثل عنفواني وأنا الرجل الذي عرفه أبي، فلتحاربني الدنيا الغادرة إن كانت تطيق

لم أنسى يوماً أن أبي تعب في شبابه حتى شبع من التعب، ولم أنسى لحظة أن تكدير كهولته بسببي قد يكون إثماً موبقاً يكدر ما أرجو لحياتي من صفاء، ولهذا المعنى حرصت على أن يراني باسماً في كل وقت، وأن يراني غنياً عن الناس في جميع الأحايين، وهل يفتقر المؤمن إلى الناس؟

لم تكن الدنيا سمحت بأن تخلو حياتي من متاعب، ومع هذا أخفيت عنه جميع آلامي، فلم يتصورني إلا رجلاً خلت حياته من المصاعب والأهوال

كان سلوكي مع أبي سلوكاً هو الصورة المنشودة لأدب النفس، ولعل الله يتفضل فيتقبل دعواته الطيبات وهو يعاني مرض الموت، فما مات أب راضياً عن ابنه كما مات أبي وهو راضٍ عني

وهنا أتذكر أشياء تعد من الغرائب، أشياء متصلة بحياة أمي، فما تلك الأشياء؟

كانت أمي تفرح بالمرض أشد الفرح، لأنها كانت تؤمن بأن دعاء المرضى دعاء مستجاب، فكانت تقضي لياليها الأليمة في دعاء الله بأن يجعلني من الموفقين. كانت تدعو الله وهي توقن أنه يسمع ويجيب، ولم يخطر في بالها أبداً شيء مما يخطر في بال أهل الارتياب

كانت أمي سيدة مؤمنة، وكان إيمانها موروثاً عن أمها وأبيها، وكانا زوجين قانتين لا يعرفان غير فاطر الأرض والسماء

ومع أن المألوف في كل أرض أن الأم لا تستريح كثيراً إلى زوجة ابنها، فقد كانت أمي تحبني في زوجتي، وتصفها بأجمل الأوصاف، وتخصها بكثير من الدعوات، بحيث عُدَّ سلوكها من أندر ما يقع في حياة النساء

وكذلك كان حال جدي لأمي، فقد كان حين يزور دارنا بعد صلاة العيد يبدأ بالسؤال عن زوجات أبي، سؤال الوفاء لا سؤال الرياء، ثم يدعو الله أن يديم عليهن نعمة العافية والقبول

أما أمر أبي في تربيتي، فكان عجباً من العجب، كان لا يتناول طعاماً بدون أن أشاركه فيه، ولو كان طعاماً أعدته له إحدى الزوجات المحظيات

كنت أدخل الدار مع الليل، والشواء يفوح والنوم في جفوني، فآوي إلى مضجعي وأنا أرجو أن يعفيني أبي من مشاركته في عشائه المرموق، ولكنه لم يكن يتناول طعاماً بدون حضوري ولو كان تحفة عروس

من الذي أوحى إلى أبي ما غاب عن كبار المربين؟

كان أهلي يقولون إن الطفل يحتاج إلى تأسيس، وكانوا يرون أن الطفل المؤسس يعيش في قوة إلى آماد طوال

ثم دارت الأيام واستقللت عن أبي كل الاستقلال، فقد أكرمه الله بالعيش إلى أن يراني رجلاً له أهل وأبناء وأملاك، ومع هذا كان يراني ضيفه حين أزور سنتريس، ويبالغ في الكرم فلا يتركني لحسن الفهم في رعاية ضيوفي، وإنما يتقدم فيكرمهم بأسلوبه الجميل، أسلوب الرجل المفطور على السخاء الفضفاض

ولن أنسى أنه كان يناجي المسيو دي كومنين مناجاة الرفيق للرفيق، مع أن لغة التفاهم غير موجودة بأي شكل، فكان من ذلك دليل على أن الألسنة أقل إفصاحاً من القلوب

كان لي أب وكانت لي أم، وأنا اليوم يتيم كهل، واليتيم الكهل أعرف باليُتم، كما قال أخونا الأستاذ محمد الهراوي، طيب الله ثراه!

أما بعد فأنا لا أوصي باجترار الأحزان، ولا أدعو إلى أن نطيل البكاء على آبائنا وأمهاتنا، فذلك يؤذيهم في عالم الأرواح وإنما هي لوعة نزجيها كارهين لا طائعين، وهي على قسوتها دون ما يجب في تسجيل الوفاء

ثم ماذا؟ ثم يكون الحديث عما نفقد من أبنائنا، وأنا ذقت مرارة الثكل مرات، إلى أن لطف الله فأعفاني من ذلك العناء وسيتفضل جل شأنه فيرحم جفوني من دموع الثاكلين، لأنه أرحم الراحمين

ومن واجبي نحو قرائي أن أدلهم على المذهب الذي سلكته في ذلك الجحيم:

حين ذقت الثكل أول مرة رأيت له طعماً متفرداً بين طعوم الأحزان، رأيته يقلقل أضراسي ويكاد ينقلها من مكان إلى مكان، ورأيت تعزية المعزين تزيد أحزاني، فقررت أن لا يقام للطفل الميت مأتم ولا عزاء، وقرت أن لا أسمع بكاء أمه عليه، وأن لا يذكر اسمه في البيت، وأن يمضي إلى من وهبه ثم استرده بلا عويل ولا صياح

كنت أقول: هو لنا عند الله، فلنتركه ذخيرة تنفعنا يوم الحساب، إن كنا مؤمنين والواقع أن هذه أعظم شجاعة بدت مني في حياتي، فالطفل لا يموت إلا بعد أن يتجلى تجلياً هو غاية في الفتون، فتكون حركاته وسكناته من الغرائب والعجائب، ويكون تحفة طريفة تحول البيت إلى فردوس من أجمل الفراديس، بحيث يقال في وصفه إنه كان أبن موت، وهذه عبارة مألوفة عند أهل الريف، وهي غاية في الصدق

وبقليل من التأمل نرى الطفل الذي يموت بعد سنة يكون استوفى من الحياة سنوات وسنوات، لأنه في عمره القصير يستوفي من حظوظ دنياه في المرح واللعب والابتهاج ما لا يستوفيه كبار المعمرين. وهنا تكون الفتنة الدامية، فذلك الطفل يعد أهله وعوداً لا تخطر في البال، فهو في إشاراته وعباراته يؤكد بأن سيكون أعظم العظماء في القديم والحديث

وفي أقصر من لمح البصر يختضره الموت، فتبقى له بوارق تذيب لفائف القلوب

ماذا أصنع والأطفال الذين ثكلتهم كانوا كذلك؟

قدرت أنهم عاشوا حتى شبعوا من العيش، والعيش تعب فليستريحوا آمنين

دفنت بيدي أطفالاً كانوا أعز علي من نفسي، ولكني لم أبك عليهم كما بكيت على أمي وأخي وأبي، لأنهم لا يطالبونني بالوفاء، فقد اختارهم الله إلى جواره قبل أن يعرفوا الفرق بين البر والعقوق

وما حاجة الأطفال إلى البكاء؟

ألا يكفي أن الله أنجاهم من مكاره العيش، في دنيا أتعبت الأنبياء؟

الدمع على الطفل الذاهب أغزر من الدمع على الكهل الذاهب، فما الذي فاتهم من حظوظ البكاء؟

بهذه السياسة فرضت على زوجتي أن تنسى الأطفال الذين فقدناهم في مصر الجديدة وفي سنتريس، فاكتفت واكتفيت بالشياطين الذين عاشوا، وهم أبناء لم تمنعهم الشيطنة من أن يكونوا غاية في أدب النفس وصفاء الروح

إذا راعى الابن واجبه نحو أبيه، فما يضره إن نسي الواجب في معاملة جميع الناس؟

أنا لم أفعل خيراً في حياتي أفضل من الأدب في معاملة أبي وأمي، وقد جازاني الله فجعلني في عصمة من دسائس السفهاء

الحجر الأول في بناء الوطن هو الأسرة، وأبنائي لا يحبونني متفضلين، وإنما يرون رجلاً يدبر لهم منافع لن يحتاج إليها قبل أن يموت، ولو عاش عمر نوح. . . وهل أعيش إلى أن أنتفع بما أدبر لأبنائي؟

ليت أبنائي يتأدبون بأدبي!

أنا أرى أن حيوية الرجل فوق الحدود، والسر كله في طاعة الله، الطاعة التي يعرفها أصحاب العقول، الطاعة التي تتمثل في العمل الموصول بصدق وإخلاص

كونوا يا أبنائي مثل البحر، فهو قد يغضب في كل وقت، ولكن كل قطرة من قطراته تشتمل على حيوات عظيمات

واذكروا دائماً أني لم أنل رضا الله بالمجان، فقد نلت رضاه بكفاح يؤيد كرمه في صحة بنياني، وأنا بحمد الله غاية في صحة البنيان.

زكي مبارك