مجلة الرسالة/العدد 530/طرائف:
مجلة الرسالة/العدد 530/طرائف:
عن الكتب والكتاب
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
نسخ الكتب. تصحيح الكتب. سرقة الكتب. النار والمكتبات
موضوع المكتبة العربية - عامة أو خاصة - هو موضوع طريف سنعرض له بالتفصيل في العدد القادم من (الرسالة)
أما موضوع اليوم فهو توطئة للموضوع الذي اعتزمنا الكتابة فيه للأعداد المقبلة
ومن لوازم الكتب وجود عدد من (الناسخين) ومهمتهم أن ينسخوا من الكتاب الواحد نسخة أو أكثر على حسب رغبة المؤلف أو وفق مقتضيات الأمور
وأول ما عرف من هؤلاء الناسخين في الأدب العربي الجماعة الذين كتبوا المصاحف الأربعة بأمر الخليفة الثالث عثمان بن عفان؛ وهم زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث
أما كتاب الوحي فلم يكونوا نساخاً، بل كان الرسول يملي عليهم الآيات حين نزولها، وشرط النسخ أن يكون عن كتاب أو صحيفة مكتوبة
وليس النساخون مقصورين على الكتاب العربي وحده أو المكتبة العربية وحدها، فهناك نساخون في الكتب الأوربية وكان يطلق على هؤلاء النساخ كلمة الرهبان، لأن الرهبان والقسوس كانوا مختصين في العصور الوسطى بنسخ الكتب
وبهذه المناسبة كان عند النساخين من الرهبان قانون وضعه (تربتم) رئيس الكهنة في عصره يقول فيه: (يجب أن يقطع أحدكم الرق قطعاً، وآخر يصقلها، وآخر يسطرها، وآخر يبري الأقلام يملأ المحابر، وآخر يقرأ ويصحح كتابة الناسخ، وآخر يزخرف الكتابة بالمداد الأحمر وينقط الحروف، وآخر ينقشها، وآخر يلصق الورق ويحبك الكتب على ألواح من الخشب)
فأنت ترى من ذلك كله أن عملية نسخ الكتاب كانت عملاً منظماً توضع له القوانين وتقعد القواعد. وخاصة عند جامعي الكتب من أمراء أوربا في العصور الوسطى
ولهؤلاء النساخين - عرباً كانوا أو فرنجة - طرائف في النسخ. ولكنهم على كل حال كانوا آفة في الكتابة العربية: ونظرة واحدة في الشعر الوارد في كتاب (فوات الوفيات) لابن شاكر الكتبي تؤيد هذا الكلام، فهو شعر مختل مكسور مسخه الناسخ. وجاء الطابع الحديث فأبقاه - لسقم ذوقه - على اختلاله وكسره. وجاء الدكتور العالم أحمد عيسى بك فنقله في كتابه الجديد (معجم الأطباء) مختالاً مكسوراً. وليس ذلك من سبيل بحثنا اليوم، ولكننا سنفرد لتصحيح هذا المعجم الجليل مقالاً طويلاً في (الرسالة)
ومن عجب أن الكتب المنسوخة لم يقم لها مصححون يعنون بمراجعة أخطاء النسخ وضبط الكتاب وتحقيقه؛ أما الكتب المطبوعة فقد قام عليها مصححون منذ عرف الكتاب العربي الطبعة العربية في مطلع القرن التاسع عشر؛ وعند صديقنا العالم الرواية الأستاذ محمود حسن زناتي أنباء كثيرة وطرائف عن هؤلاء المصححين؛ ولعله يتحف الأدباء قريباً بمقالاته في هذا الموضوع. وأشهر هؤلاء المصححين التماعاً في سماء الأدب الشيخ نصر الهوريني المتوفي سنة 1874م، كان هذا الشيخ عضواً في بعثة أرسلتها الحكومة المصرية إلى فرنسا؛ فلبث هناك مدة ثم عاد رئيساً للتصحيح بالمطبعة الأميرية؛ وله تعليقات لطيفة على هامش القاموس المحيط للفيروزبادي؛ كما أنه له كثيراً من المؤلفات أشهرها (المطالع النصرية للمطابع المصرية)
ومن المصححين المشهورين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الشيخ أحمد الميهي بن حسن عبد الصمد؛ وكان موظفاً بالمطبعة الوهبية التي أنشأها الفاضل مصطفى وهبي. وللشيخ الميهي فضل تصحيح كتاب (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) لابن أبي أصيبعة؛ وهو من المطبوعات النادرة الآن. وقد تم طبعه في سنة 1882م؛ ولم يطبع بعد تلك الطبعة إلى اليوم
ولم يكن عمل المصححين القيام على تصحيح الكتب المطبوعة فحسب؛ بل قام بعضهم بتنظيم الفهارس المختلفة للكتاب المطبوع كما صنع الشيخ البهي في كتاب طبقات الأطباء المذكور. فقد صنع فهرساً وافياً للأعلام، وآخر للبلاد والمواضع والأماكن والمياه والأنهار. وبلغت صفحات هذين الفهرسين وحدهما (121 صفحة)
وليس عمل الفهارس للكتب المطبوعة القديمة أو الحديثة عملاً هيناً يسيراً، ولكنه يقتضي دقة وبصراً من واضعه؛ واشتهر من منظمي الفهارس اليوم الأستاذ محمد شوقي أمين الموظف بمجمع فؤاد الأول للغة العربية؛ فله فهرس منظم لكتاب البخلاء للجاحظ الذي طبعته وزارة المعارف العمومية بعناية الأستاذين أحمد العوامري بك وعلي الجارم بك، وله فهرس لكتاب الحلل السندسية في الآثار الأندلسية الذي يطبعه الأمير شكيب أرسلان
وللكتب - مطبوعة كانت أو مخطوطة - آفتان: السرقة والنيران. ولقد عرف اللصوص قيمة الكتب وخاصة بعد أن اعتنى أصحابها بتجليدها وتزيينها؛ فارتفعت أثمانها عند الأمراء والأثرياء واضطر هؤلاء إلى العناية بحفظها والقيام عليها وكانوا يكتبون على أولها عبارات تتضمن لعنة السارق والسخط عليه. وقد وجد على أحد الكتب هذا البيت من الشعر على لسان صاحب الكتاب:
إذا غرك الشيطان أن تجتري على ... كتابي فعقبى المجترين الفضائح
أما النيران فهي آفة الكتاب الكبرى وبليته. فلقد أحرقت مكتبة الأمير نصر الساماني على نفاستها. واتهم بعض ذوي الأغراض عمرو بن العاص بإحراق مكتبة الإسسكندرية وهي تهمة لا تستند إلى الحق. وأحرق التتار مكتبة بغداد وأغرقوا كثيراً منها في النهر سنة 656هـ، وكانت الكتب النفيسة في هذه الفتنة تباع بأوهى قيمة
ولما سقطت مدينة غرناطة في يد الأسبان أمر البطريق إيكزامينيس بإلقاء الكتب الإسلامية وخاصة العربية في النار. ونهب الأتراك في القرن العاشر ما وقع لهم من كتب المماليك وأضرموا النار فيها. ولا يغرب عن البال ما صنعه (كرمويل) في مكتبة اكسفورد فقد أمر بإحراقها وكانت أغنى المكتبات الأوربية في حينها
وهناك بلية ثالثة للكتب وهي العثة التي تعيث فيها وتطيل ملازمتها لها بالأخراق والثقب؛ واسمها بالإنجليزية: وقد أطلق الإنجليز على كل شخص يطيل ملازمة الكتب والتنقير فيها كلمة وهي كلمة يفتخر العلماء وأهل البحث بأنها من صفاتهم.
محمد عبد الغني حسن