مجلة الرسالة/العدد 528/نهاية أستاذ. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 528/نهاية أستاذ. . .

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 08 - 1943


مئات من المدرسين وآلاف من الطلاب يعرفون الأستاذ. أحمد عثمان المهدي مدرس الفرير المثابر خمسا وثلاثين سنة. ولكن معرفتي إياه رفيقاً في الدراسة، وزميلاً في التدريس، تجعلني أقدر من عرفوه جميعاً على حكاية مأساته، وكشف ما خفي من أسرار حياته ومماته.

عرفته سنتين طالباً في الأزهر يعني بتجويد الخط، ويحاكي (أبناء البلد) في لرواء والسمت. ومنى كان ربيب أسرة المهدي المترفة كان خليقاً أن ينشأ على حب الجمال في الزي والمنظر

وزميله سبع سنين مدرساً في كلية الفرير بالخرنفش يعلم العلوم العربية في فصولها المختلفة، وينسخ (للأخ بلاج) المفتش أصول (مؤلفاته) في النحو والبلاغة والأدب. وما كان أحذق المتنبئين ليستطيع حينئذ أن يتنبأ لهذه النفس الراضية والطبع المرح والثغر الضحوك واللسان الداعب، بهذه الكهولة الأليمة والعاقبة المحزنة. نعم كان المتفطن المستبصر يخشى أن تكون له في بعض الأزمان زوجة وأولاد؛ فقد كان يعيش عيش السمك في الماء، لا يكاد يعرف له مستقراً ولا غداً ولا غاية. كان يقضي فراغه كله في المقاهي بين زمرة الشباب المملق المتملق؛ وكان العرق التركي الذي فيه لا يزال يضرب عليه الشموخ والأبهة، فلا يسمح لأحد من الجلاس أن يدخل يده في جيبه. وكان فضلاً عن ذلك مخروق الكف والكيس فلا يمسكان على ما يكسب، ولا يبقيان على ما يملك. كان لا يسأله أحد إلا أعطاه، ولا يعرض عليه شيء إلا اشتراه. وكان أكثر ما يشتريه لا يحتاج إليه، كأداة المطبخ وليس له بيت، أو حاجة المرأة وليست له زوجة. إنما كان مولعاً بمساومة الباعة الجوالين، ويسره أن يعلموا أنه خبير بالصنف فلا يغش، عليم بالثمن فلا يغبن. وقد فطن الخبثاء إلى هواه فكانوا يتغالبون له ويتشاكون منه، وهو يشتري ويشتري ثم يودع ما اشتراه صاحب القهوة ولا يطلبه!

وكان لحبه الخير والشهامة يتمدح بما فعل ما لم يفعل منهما. ولخياله الخصب في هذا الباب حوادث وأحاديث يكون هو فيها البطل المرموق. وكان يكفي أن تحسن الاستماع وتظهر الاقتناع لتسلبه الإرادة وتقوده إلى حيث تريد. وضعف إرادته إنما كان يظهر في نواحي المروءة والرحمة، أو في أمور المال والمعيشة. فكان لا بد له من قيم يدير ماله وينظم أمره. ولكمه مع ذلك كان يعيش أرغد العيش، لأنه كان يخلف ما يتلف. كان يكسب من الدروس الخصوصية لليهود أضعاف ما يأخذ على عمله اليومي في المدرسة. وكان من الجائز أن يقضي العمر في ظلال هذا العيش الغرير لولا أن وقع المحذور وتنبهت عيون الحوادث. تزوج المسكين!! وكانت زوجة لسوء حظه صورة مؤنثة منه. بل زادت عليه أنها من قوم فقراء يحبون الرفد والمعونة. وكانت كما شاء القضاء ولوداً، فلم يأت على زواجهما بضع سنين حتى كانا في بضعة أولاد. وتظاهر ضعف الزوجين وإسرافهما الشديد ونزاعهما المتصل على حياة هذه الأسرة البائسة فلم تنعم بهدوء ولم تظفر بتربية. وأصبح كدح الرجل قليلاً على تسعة أفواه لا تحسن غير الخضم والهضم؛ فكان يكد ويحتال ويتصرف ويقترض. ولكن الأمر كان فوق طاقته، ومن المحال أن بتعادل دخل المبذر وخرجه. والماء مهما زخر وارتفع لا يبقى إذا ما انتهى إلى بالوعة!

وتسابقت الأحداث إلى المسكين ففدحه الدين، وركبه الهم، وغاضت بشاشة وجهه، وذهبت أناقة هندامه. وقسا عليه الدهر ذات مساء فانتحر ابنه البكر تحت الترام وهو معه ينظر إلى أشلائه المبددة، ويستمع إلى أناته المرددة!

ثم جاءت هذه الحرب بما نعرف من بلاء وغلائها، وكانت عوارض الوهن والانحلال قد ظهرت على المعلم المكدود فاضطرب تفكيره وفتر نشاطه. وصعب على (الفرير) خدام الدين والعلم أن يمشوه عظماً كما نهشوه لحماً، فأخرجوه بعد أربع وثلاثين سنة قضاها معهم في جهاد العجمة واللكنة لا يدخر جهداً ولا يبالي مشقة. أخرجوه وكل ما في يده مائه وخمسون جنيهاً كافئوه بها على ما أفنى من صحته وشبابه. وكانت هذه المكافأة طعام أشهر معدودة كان في أصباحها وأمسائها يطرق الباب بعد الباب عسى أن يجد السبيل إلى رزقه الهارب، أو الوسيلة إلى عيشه المفقود. وتصام أكثر الأصدقاء فلم يستجيبوا لطرق الأنامل النحيلة على الأبواب الصقيلة. . . فباع الرجل فضول المتاع ثم باع حاجاته. وكادة الأسرة الشريدة تجوع وتعرى لولا أن قيض الله له صديقاً من ذوي الجاه والفضل فرشحه للتدريس في المدرسة الملكية بالمنصورة. ولهذه المدرسة شهرة بحب الجمع وكراهة القسمة، فرتبت له ثمانية جنيهات في الشهر. وحاول البائس المضطر أن يسد بهذا المرتب أجرة مسكنه ونفقة عياله، فاستحال ذلك عليه إلا أن يسكنوا نصف السكن، ويأكل بعض الأكل، ويخلصوا من عقابيل السرف القديم. فكان يقترض من المدرسة سبعة جنيهات في كل شهر على حساب الشهر المقبلة، حتى جاء شهر مارس الماضي وليس له مرتب العام كله غير خمسة جنيهات! نعم خمسة جنيهات هي كل ما تبقى لسبعة الأشهر الباقية! إذن ماذا يصنع؟ لم يبق في المنزل ما يباع، ولا في الناس من يعين، ولا في الغد ما يرجى!

وهاهو ذا بعد أن نيف على الخمسين في خدمة اللغة والأدب يجد نفسه على شفا الهاوية ممنوع الرزق مقطوع الرجاء لا منصب يظل ولا ثروة تغل ولا ولد يعول ولا عشيرة تؤوي ولا أمة تساعد!

وفي هوادي ليلة سواء من ليالي مارس انفرد به الهم الملازم في ركن منعزل من البيت النائم، وكان مستقبله القريب الداهم قد تمثل في ذهنه وبرز في عينيه حجاباً من الظلام الكثيف يتدّجى بالمخاوف واليأس، فلم يستطيع أن يتبين من خلاله غير صحيفة من البترول صبها عليه، وغير ثقاب من الكبريت أشعله فيه! فلما شاعت النار في جسده خرج يعدو إلى الشارع وهو يستغيث بأبنائه واحداً بعد واحد فما أصاخت أذن ولا تنبهت عين. وسقط المسكين صريعاً أمام كنيسة المارون في الحسينية، وكان الصراخ الهالع قد أيقظ قسيسها فخرج يستطلع الخبر وانحنى القسيس على المحترق يتأمله، ورفع نظره إلى المنحنى يتبينه، فإذا كلاهما يعرف الآخر، وإذا القسيس تلميذ من تلاميذ الأستاذ القدماء!

- ماذا صنعت بنفسك يا شيخ عثمان؟

- تلك مشيئة الله!

ونقلت المحتضر عربة الإسعاف إلى المستشفى ليلفظ آخر أنفاسه حين تنفس صباح الجمعة. وأبطأت إجراءات النيابة والصحة حتى دخلت ليلة السبت. ولم يكن حاضر أمره غير ناظر المدرسة ووكيله. فاقترح الوكيل أن يبقى في المستشفى إلى الصباح ليشيعه زملاؤه وتلاميذه؛ وصمم الناظر أن يقبر في الليل، لأن النهار يقتضي قماشاً وفراشاً وقهوة!!

وشيعت في ظلام الليل وسكون الناس جنازة جندي باسل من جنود الأدب المجاهدين، وليس أمامه إلا الناظر والوكيل، وليس وراءه إلا أولاده وزوجته!

أحمد حسن الزيات