مجلة الرسالة/العدد 528/عروس النيل

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 528/عروس النيل

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 08 - 1943


(رسالة مهداة إلى روح الأب العظيم عبد السلام مبارك)

للدكتور زكي مبارك

في هذه السنة تخلَّف النيل، وتخوف الناس عواقب الصدود من النهر الوفي المحبوب، فتذكرت ما وقع في أيام سيزوستريس، وتمنيت لو رجعنا إلى عهود الوثنية، فأهدينا إليه صبية، لينشرح فيعود!

وقبل أن أسوق الحديث عن عروس النيل أذكر أشياء من الحياة المصرية قبل إنشاء خزان أسوان، وهي حياة تختلف عن حياة اليوم كل الاختلاف

لم يكن النيل يغمر أرض مصر أكثر من شهرين، ثم ينحسر بعد أن يضيع منه في البحر ما يضيع، ولكنه مع ذلك كان يترك ثروة عظيمة من المياه الجوفية، المياه المخزونة في جوف الأرض، وكانت تلك المياه زاد المصريين إلى أن يعود النيل من جديد

ولهذه الأسباب كانت مصر أقدم أمة أجادت طي الآبار والسواقي، فكان في كل بيت بئر، وفي كل مزرعة ساقية، وكان في منازل المياسير ما يسمى بالصهاريج، وهي أحواض مسحورة تحفظ كميات عظيمة من الماء الزلال

والذين زاروا المعابد الفرعونية يذكرون أن بها آباراً في أكثر الجوانب، وكذلك كان الحال في العهد الإسلامي، فلا تزال في منزل السحيمي بالقاهرة ساقية، وإن طال على هجرها الزمان

وغيبة النيل شهوراً طوالاً من كل سنة لم تكن تؤذي المصريين بعد أن أجادوا على طي الآبار والسواقي، ولو شئت لقلت إن غيبة النيل كانت أداة من أدوات التحصين، فقد كانت المواصلات في العهود القديمة تعتمد على الملاحة، وكان من العسير على من يغزو مصر أن يتجه إلى الجنوب مع تعذر الملاحة في النيل، بسبب الجفاف أيام التحاريق، وخوفاً من عنف التيار أيام الفيضان. . . وهذا في نظري أهم الأسباب في ميل الفراعنة إلى أن تكون عواصمهم بالصعيد، فقد كان لهذا المعنى أمنع من نواصي الجبال

هل قرأتم في أي كتاب أن الفراعنة أجادوا تعبيد الطرق الزراعية؟

لقد تركوا هذا الجانب من النظام عامدين معتمدين، ليكون التوغل في بلادهم باباً من العناء وبمناسبة الآبار أذكر ما شهدت منها بمعبد الكرنك، فقد كان المهندسون يثقبون الأحجار الكبيرة بنسبة معلومة، ثم يضعون حجراً فوق حجر، كما يوضع الطوق فوق الطوق، لصير الآبار في أمان من الاختلال

وكان للآبار في مصر منزلة شعرية تفوق المنزلة النفعية، فقد كان مفهوماً عند الجمهور أن لكل بئر ملائكة تختلف باختلاف المكان، فهذا البئر مسكون بأرواح لطاف، وذاك البئر مسكون بأرواح كثاف، وباختلاف الروح يختلف طعم الماء في الملوحة والعذوبة والكدر والصفاء

وكانت هذه العقيدة ملحوظة في تقدير السواقي من الوجهة الروحية، فلا خطر من نزول هذه الساقية لأنها مسكونة بأرواح خيرة، أما تلك الساقية فمسكونة بأرواح شقية، ألم تسمعوا أنها قتلت فلاناً حين تجاسر على يزولها بالليل؟

ومياه الآبار والسواقي باردة في الصيف وحارة في الشتاء، فما سبب هذه الظاهرة الغريبة؟

يقول العلم إن مياه الآبار والسواقي بعيدة عن التأثر بالأحوال الجوية، فهي لذلك باردة في الصيف وحارة في الشتاء، فهل كان هذا هو الرأي عند أهالي الريف؟

كان الرأي عندهم أن للأرض وجهاً آخر، وجهاً يعاني برد الشتاء حين نعاني حر الصيف، ويعاني حر الصيف حين نعاني برد الشتاء، وكان مفهوماً أن السيخ الذي يفجر العيون في الآبار والسواقي يخرق القبة القائمة بيننا وبين البحار التي تسقي الوجه الثاني من الأرض، وكان ذلك هو السر في أن يختلف الماء بالحرارة والبرودة باختلاف الجو هنا وهناك

هذه الأخيلة الطريفة كانت الزاد لأهل الريف منذ زمن وأزمان، والفلاح المصري شاعر بالفطرة والطبع، فما كانت الدنيا عنده إلا ميدان قتال بين الملائكة والشياطين

إن الأمم لا تعرف الأساطير إلا في عهود الفتوة، فإذا اكتهلت عرفت الحقائق، وسعادة الكهول بالحقائق لا تقاس إلى سعادة الفتيان بالأباطيل

كان أهل الريف سعداء بالجهل، لأنه طوف بهم في آفاق شعرية، فما فائدة العلم الذي يواجه أهله بحقائق أقسى من الجلاميد؟

وهل أسعد العلم كبار أهله حتى يسعد صغار الفلاحين؟

ما القيمة الصحيحة لأن نعرف أن الزهرة مجموعة جراثيم، وهي في نظر الجهل خد وهاج؟

أين من يردني إلى العهد الذي كنت فيه أجهل الجاهلين؟

ليت الحوادثَ باعتْني الذي أخذت ... مني بحلمي الذي أعطت وتجربي

عروس النيل

تضاربت الأقوال في الأسطورة الشعرية، أسطورة عروس النيل، وانتهى الأمر بوزارة المعارف إلى حذفها من الكتب المدرسية، لتصون الأبناء من السخرية بالأجداد. ولكني مع هذا أرى من الخير أن يعرف أبناؤنا جميع الأساطير، ليعرفوا حيرة الإنسانية بين الحقيقة والخيال

وسأسوق هذه الأسطورة كما رأيتها في كتاب مخطوط لمؤلف مجهول، ففيها طرافة فنية، وفيها لفتات جديرة بالتسجيل:

في العام الثالث من حكم رمسيس الثاني وهو عام 1327 قبل الميلاد تخلّف النيل، فلم تظهر طلائعه في شهر أبيب ولا في شهر مِسْريَ، وامتدّ به التخلف إلى شهر توت، فجأر المصريون بالشكاية، وتجمهروا حول قصر الملك صارخين ضارعين

وماذا يصنع الملك؟ ماذا يصنع والشعب يطالبه بما لا يطيق؟ هل يصدّق الخرافة التي ذاعت في ذلك الوقت عن أسر النيل بأمر ملك الأحباش؟ وهل يستطيع ملك أن يأسر النيل. وهو ملك الملوك؟

إن النيل لا يقهره قاهر، إن أراد الوفاء، فما الذي صدّه عن الوفاء؟

ثم دعا الملك أقطاب السَّحرة ليرى ما عندهم في حل هذه المعضلة، فكان هذا الحوار الطريف:

الملك - ماذا ترون في تخلف النيل؟ أتظنون كما يظن الجمهور أنه في أسر ملك الأحباش، وأن من الواجب أن نجرد حملة لتأديب ذلك الطاغية؟

الساحر الأول - وماذا يملك عاهل الحبشة من أمر النيل؟

الساحر الثاني - هو يملك الخاتم السِّحري؟

الملك - وما ذلك الخاتم؟

الساحر الثالث - هو خرافة منقولة عن أساطير الأولين! الساحر الثاني - أتكذبني يا زميلي في حضرة الملك؟

الساحر الأول - إن تفضل جلالة الملك فأنا أفضي إليه بالسر في تخلف النيل

الملك - من أجل هذا دعوناك

الساحر الأول - النيل عاشق غضبان

الساحر الثاني - النيل عاشق؟ ما سمعنا بمثل هذا الكلام قبل اليوم!

الساحر الأول - أتظن أن النيل يوحي العشق وهو يجهل العشق؟

الساحر الثاني - العشق يصدر عن أهل الذوق، والنيل بلا ذوق

الساحر الأول - وما برهانك على أن النيل بلا ذوق؟

الساحر الثاني - لأنه لا يستقيم في سيره أبداً، ولو كان من أصحاب الأذواق لعرف قيمة الطريق المستقيم، وهو كما نرى غاية في التخبط والاعوجاج

الساحر الرابع - لولا هيبة الملك لرميتك بالجهل

الملك - هيبة الملك لا تمنع من كلمة الحق

الساحر الرابع - إن زميلي يطالب النيل باستقامة الضعفاء وليس النيل بالضعيف

الملك - ماذا تريد أن تقول؟

الساحر الرابع - أريد أن أقول إن استقامة الأقوياء في ضمائرهم لا في ظواهرهم، واستقامة النيل تتمثل في ذلك الاعوجاج

الملك - إن كلامك يحتاج إلى توضيح

الساحر الرابع - لن أوضح كلامي لجلالة الملك، لأنه أقدر الملوك على فهم الرموز والتلاميح

الملك - أوضح لزميلك

الساحر الرابع - ما كان لي بزميل، وهو بين السحرة دخيل

الملك - دعوا هذه اللجاجة وارجعوا إلى الحديث عن العاشق الغضبان

الساحر الأول - إن النيل لا يأخذ زاده من العواطف

الملك - كيف تقول هذا والصبايا يتهادين إليه في الفجريات والعصريات، وقد سقط النَّصيف، وغفل الرقيب؟ الساحر الأول - هو ذلك يا جلالة الملك، ولكن الجمال المصري جمالٌ لئيم؟

الملك - ما هذا الذي تقول؟

الساحر الأول - المقام لا يسمح بالرياء، وكيف نرائي سيزوستريس وهو أصرح الملوك؟

الملك - هات ما عندك يا كبير السحرة، فقلبي مصغ إليك

الساحر الأول - أنا رأيت وما سمعت

الملك - وماذا رأيت؟

الساحر الأول - رأيت النيل هام بصبية. . .

الملك - ثم؟

الساحر الأول - ثم مد إليها ذراع الموج ليجذبها إليه

الملك - ثم ماذا؟

الساحر الأول - ثم نفرت الصبية ولاذت بالشط، فهو لذلك عاتب غضبان

الملك - العلم الذي ورثناه عن الكهنة يحصر الحياة في النبات والحيوان. فكيف يهيم النيل بصبية وهو ليس من الأحياء؟

الساحر الأول - إن الله جعل من الماء كل شيء حي، فكيف يكون الماء سبب الحياة إذا كان من الأموات؟

الملك - ومعنى هذا أن الماء يعشق؟

الساحر الأول - ويُعشَق

الملك - ومن عاشق الماء؟

الساحر الأول - تحدث عنه شاعرنا بنتاءور حين قال في الصهباء:

مقطَّبةٌ ما لم يزرها مزاجُها ... فإن زارها جاء التبسُّم والبِشرُ

فيا عجباً للدهر لم يُخلِ مُهجةً ... من العشق حتى الماء يعشقه الخمر

الملك - لن أكذب الكهنة في قولهم بأن الماء جماد

الساحر الأول - أنا أوافق مولاي على أن الماء جماد، ولكني أرجوه أن يتفضل فيتذكر أخطار الجمال المصري

الملك - وما أخطار ذلك الجمال؟ الساحر الأول - لو صوّب الجمال المصري ناره إلى هضاب الحبشة لأحالها إلى قطرات من الماء المبذول بغير حساب

الملك - وترى أن نداعب النيل بالجمال؟

الساحر الأول - أرى أن يكون للنيل في مصر هوى وميعاد، فما يعود حي إلى بلد إلا إن كانت له فيه أهواء ومواعيد

الملك - وعند النيل هذا الذوق؟

الساحر الأول - وعنده الحقد على أهل العقوق!

الملك - وماذا يقول الشعب إن أقررنا مبدأ الاعتراف بالعشق؟

الساحر الأول - سيقول الشعب إنه يعيش تحت راية العدل

الملك - والعشق عدل؟

الساحر الأول - العشق من نتائج العدل

الملك - أوضح ثم أوضح يا أعظم حكيم رآه سزوستريس

الساحر الأول - العشق يا مولاي هو انجذاب روح إلى، ولا صفاء بين عاشق ومعشوق إلا بحفظ الحقوق، ولو وجه العاشق إلى معشوقه كلمة تغض من جماله لكان الفراق إلى آخر الزمان

الملك - أهذا هو العدل عندك يا كبير السحرة؟

الساحر الأول - العدل هو مصدر الحب لجلالة الملك، ولولا قولك بأن شعبك خلق للسيادة على الأقطار الأفريقية والأسيوية لتخاذل الشعب عما أردت من الغزوات والفتوحات

الملك - الشعب يحبني؟

الساحر الأول - الشعب يحبك لأنك تحبه، وأهل مصر يقولون: (إن أحبتك حية فتطوق بها)، ولهذه اللفتة صلة بوجود الحيات حول تيجان الفراعين!

الملك - أنت ساحر، يا ساحر!

الساحر الأول - وعن لطف جلالة الملك أخذنا السحر والفتون

الملك - عنكم نأخذ الطرائف المعاني يا أدباء وادي النيل، وعنكم تلقى الروح فلاسفة اليونان الساحر الأول - ماذا يرى جلالة الملك في اجتذاب العاشق الغضبان؟

الملك - آه ثم آه بلاد لا يستقيم فيها شيء بغير الحب والجمال

الساحر الأول - تلك طبيعة بلادك يا مولاي

الملك - وإذن؟

الساحر الأول - وإذن نترضى النيل بصبية مليحة لنروضه على الوفاء

الملك - صبية تغرق فتموت؟

الساحر الأول - إن من يصدق في حب النيل لا يغرق ولا يموت

الملك - وماذا تكون الحال إذا ترضينا النيل بصبية مليحة ثم أصر على الجفاء؟

الساحر الأول - نظرة واحدة من فتاة مصرية تزلزل رواسي الجبال

الملك - وأنا أرفض أن يكون الجمال المصري من أدوات الاستغلال

الساحر الأول - الصبية المنشودة لم تعانق غير أبيها، والنيل هو الأب الأول لجميع الأبناء بهذه البلاد

ثم نادى المنادي في اليوم التالي بأن النيل لن يعود إلا إن ضمن الظفر بعروس خمرية اللون، عروس عيونها عسلية، عروس تؤمن بأن الفناء في الواجب هو طريق الخلود

وبعد يومين تجمعت عرائس تفوق الإحصاء، فما يمكن أن تخلو مصر في أي وقت من عرائس جميلة تعد بالألوف وألوف الألوف. فوقف سيزوستريس وقفة الحيران، في تخير ما يشتهي العاشق الغضبان

ثم التفت فرأى صبية تلقي بنفسها في اليم. وما كاد يتبين هوية الصبية حتى رأى النيل يتناغى بالأمواج في كل مكان

من تلك الصبية؟ لم يستطع أن يعرف، بهذا كانت مصر أول من ابتكر فكرة الجندي المجهول

ومضى سيزوستريس إلى المعبد فترنم بصلوات على روح تلك المليحة السمراء، وسمع النيل صلواته فقال: الترحم لا يكون إلا على ميت، ولا يموت من يكرم النيل

وتسامع المصريون بأخبار سيزوستريس وهو رمسيس الثاني فأقاموا له في كل بلد عدداً من التماثيل، ودام ملكه ستين سنة أو تزيد بفضل عروس النيل أما بعد فأنا لا ادعوا وزير الأشغال إلى استعطاف النيل بضحايا الجمال؛ وإنما ادعوا وزير المعارف دعوة فنية، ادعوه إلى إقامة تمثال سيزستريس في ميدان باب الحديد، وهو تمثال لم يجد بمثله الفن في شرق ولا غرب، وهو الآية الخالدة على أن مصر دار الفنون

وإذا قيل إن الحفاوة بتمثال سيزستريس تنافي الدعوة إلى الوحدة العربية فسيكون جوابي أنه يشهد بقدرة العرب على امتلاك بلاد الفراعين

متى أرى تمثال سيزستريس في ميدان باب الحديد؟

ومتى يرى كل قادم عظمة مصر في ذلك التمثال؟

ومتى نفهم أنه أولى بالحفاوة من المسلة المصرية بميدان الكونكورد في باريس؟

لن أنسى أبداً أن بلدي أفضل البلاد، وأنه المعلم الأول لجميع الشعوب

زكي مبارك