مجلة الرسالة/العدد 527/تطهير العقائد وتحرير العقول

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 527/تطهير العقائد وتحرير العقول

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 08 - 1943



أساس الإصلاح الاجتماعي

للأستاذ محمود أبو رية

انبعث في السنين الأخيرة بين جوانب البلاد صيحات مختلفة تدعو كلها إلى الإصلاح الاجتماعي، وتسابق من ينشدون الخير لبلادهم فرادي وجماعات إلى المساهمة في ذلك الإصلاح. ولما كان فريق قد اتخذ لنفسه مذهباً خاصاً لا يشاركه فيه سواه ولم يذهب إليه بعد درس أو تمحيص، فأن طرق العلاج قد تعددت ومذاهبه قد تفرقت. وقد وجد أدعياء الإصلاح بين زحمة هذه الفوضى طرقاً ميسرة ليظهروا بين الناس أنفسهم وينالوا مآربهم فيقف الواحد منهم على رأس طريق يتخذه لنفسه بعد أن يفتلذ من جسم الأمة فلذة ليكون مرشداً لها وهذا هو كل همه فلا تجد له ولا لمن حوله من عمل بعد ذلك إلا دعاوى ينشرونها ومزاعم يبثونها

وهذه لطوائف هي التي تعرف بين الناس باسم الجمعيات، وما هي في الحقيقة إلا (فرق) قد زادت في تمزيق الأمة وتشتيت شملها بعد أن أصبح صدر البلاد ضيقاً حرجاً بتلك الفرق التي تعرف (بطرق الصوفية)

وإن قيام هذه الفرق المختلفة بيننا وما يدب بينها من عقارب الشنآن وما أصاب الأمة بوجودها من داء التفرق ومرض التشيع ليعيد إلينا ولا جرم عهد الفرق الإسلامية لتي ذر قرنها في صدر الإسلام فكانت من أسباب ضعفه وذهاب ريحه

على أنك لو بحثت عن عمل لهذه الفرق المستحدثة لما وجدت إلا صيحات عن بعض الذكريات الدينية ترسل بين الناس الفينة بعد الفينة ويحسبون أنها مجدية وهي لا غناء فيها

هذا هو كل عملها فلا تراها قد ظهرت من أدران الوثنيات ولا فكت عن القول أغلال الخرافات، ولا أصلحت من الناس ما غشيهم من شيء العادات، ولا حسرت عنهم ما غمرهم من أمواج المنكرات؛ بل أنك لترى عللنا الاجتماعية قد زادت واشتدت، وأمراضنا الاجتماعية قد عمت وانتشرت؛ حتى لقد أصبح جسم الاجتماع المصري بهذه الفرق - القديم منها والحديث - كمثل رجل ألحت على جسمه العلل وانتابته الأمراض فسعى لمداواته الطبيب النقريس والدعي الجاهل، هذا، يدس له ما يضره، وذاك يقدم له ما ينفعه؛ ووراء هذا وذاك أولياؤه وأقرباؤه يدخلون عليه من كل باب يحملون إليه من مختلف الهدايا ما يظنون أنه من دوائه، وما هو في الحقيقة إلا من بلائه، فلا يلبث هذا المسكين أن تشتد عليه الأدواء، وأن مصبح في حال لا يرجى له معها شفاء

مما لا ريب فيه أن جسم الأمة مريض بعلل شتى قد غيرت القرون عليها حتى أعضل أمرها، ولكن مما لا خلاف فيه كذلك أن لكل داء دواء يستطب به، على أن يتولاه بالعلاج طبيب نظامي يقوم عليه وحده، ولا يشاركه في تمريض المريض غيره

وإذا كنا ندعو بكلمتنا هذه إلى اتباع تلك الطريقة القويمة التي لا يؤخذ بأسباب أي إصلاح إلا باتباعها، فإنا نذكر قومنا بأن لكل إصلاح (أساساً ثابتاً) يقوم عليه، وأساس الإصلاح الاجتماعي - بل والديني - في بلادنا إنما يقوم على (تطهير العقائد من دنس الوثنيات، وفك العقول من أغلال الأوهام والخرافات)؛ وهذا الأساس لم نفتجره من عندنا، ولا هو ببدع جديد لنا، وإنما وضعه من قبلنا الأنبياء المرسلون والزعماء المصلحون. وبحسبك أن تعلم أنه لما قام رسول الله (ص) بدعوته جعل همه كله في القضاء على البدع والوثنيات التي تدسست إلى العقائد فأفسدتها، والأوهام والترهات التي غشت الأفهام فكبلتها، وقد جعل هذا الجهاد أساس دعوته فلم يأت للناس بشيء من التكاليف الشرعية ولا أمرهم بأداء فرض من الفروض الدينية، إلا بعد أن خلصت العقائد من لوثاتها، ونشطت العقول من أغلالها، وأصبحت الأمة كلها على دين واحد من التوحيد الخالص. وأنه صلوات الله عليه لم يفعل ذلك إلا لأن التوحيد الخالص هو كما قال الأستاذ الإمام: (كمال الإنسان، وأنه إذا سلمت العقائد من البدع تبعها سلامة الأعمال من الخلل)

وإذا أنت رميت إلى تاريخ (لوثر) مصلح أوربا العظيم تجد نور هذه الحقيقة أمامك ساطعاً، إذ أنه بعد أن قام بدعوته وطهر المعتقدات مما كانت قد تلوثت بها، دخلت أوربا في طور جديد من الإصلاح ظل يؤتى ثمره حتى صارت على ما هي فيه آلات مدنية وحضارة وعزة وقوة. ولقد قال توماس كارليل في تاريخ لوثر في كتاب الأبطال: إن على دعوته قد قامت دعائم الدستور الإنجليزي وبرلماناته والحرية الأمريكية واستقلالها والثورة الفرنسية ونتائجها

إن كثيرين ممن يتصدون للإصلاح (الكلامي) يستهينون بأمر البدع والخرافات، وبعض هؤلاء يجعل من إصلاحه أن تظل هذه العلل تنخر في عظام الأمة، لأنها (بزعمه) مما ينفع العامة. ولو هو تدبر الأمر بفكر الحكيم لعلم أنه ما أنهك جسم الأمة، ولا قضى على كل فضيلة فيها إلا تلك البدع والخرافات. ولقد أصاب السيد جمال الدين الأفغاني في قوله: (إن خرافة واحدة قد تقف بالعقل عن الحركة الفكرية وتدعوه بعد ذلك أن يحمل المثل على مثله فيسهل عليه قبول كل وهم وتصديق كل ظن، وهذا مما يوجب بعده عن الكمال، ويضرب له دون الحقائق ستاراً لا يخرق)

وإن للأستاذ الإمام محمد عبده لحكمة جليلة يجب على كل مصلح أن يتبعها ويسير على هداها وهي (إن نجاح هذه الأمة إنما يكون بحسن التربية، ولا سبيل إلى التربية فيها إلا بإصلاح معتقداتها وتصحيح ملكتها حتى تستقيم بذلك أعمالها وتصلح أحوالها)

ولشيخه السيد جمال الدين منهج في إصلاح الاجتماع وإسعاد الأمم جعل الأمر الأول منه (صفاء العقول من كدر الخرافات وصدأ الأوهام، فإن عقيدة وهمية لو تدنس بها العقل لقامت حجاباً كثيفاً يحول بينه وبين حقيقة الواقع، ويمنعه من كشف نفس الأمر. وأول ركن يبنى عليه الدين الإسلامي (هو) صقل العقول بصقال التوحيد وتطهيرها من لوث الأوهام، فمن أهم أصول العقائد أن الله منفرد بتصريف الأكوان متوحد في خلق الفواعل والأفعال؛ وإن من الواجب طرح كل ظن في إنسان أو جماد علويا كان أو سفليا بأن له في الكون أثراً بنفع أو ضر أو إعطاء أو منع أو إعزاز أو إذلال)

ومن أجل ذلك كان أول عمل قام به السيد بمصر أن (وجه عنايته لحل عقل الأوهام عن قوائم العقول فنشطت لذلك ألباب واستضاءت بصائر)

ومن كان رحمه الله في جميع أوقات اجتماعيه مع الناس لا يسأم من الكلام فيما ينير العقل أو يطهر العقيدة أو يذهب بالنفس إلى معالي الأمور)

هذا هو أساس الإصلاح الذي يكون كل ما يبنى عليه قوى الأركان شديد البنيان، وكل إصلاح يقوم على غير هذا الأساس فإنما يكون مصيره ولا ريب الإخفاق والخيبة

وإنا نرسل اليوم هذه الصيحة من فوق منبر الرسالة لكي تبلغ المسئولين في بلاد الشرق كافة، فينهضوا جميعاً في حزم وقوة، وفي غير هوادة ولا لين، ليضعوا هذا الأساس بأيديهم ثم يقيموا عليه بعد ذلك ما يقيمون من إصلاح وما يبنون من أعمال هذه هي صيحتي التي أبعثها إلى قومي. وأرجو أن أكون قد بلغت، وأن أكون قد ذكرتهم بما فيه الخير لهم، والذكرى تنفع المؤمنين

(المنصورة)

محمود أبو رية