مجلة الرسالة/العدد 527/الحديث ذو شجون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 527/الحديث ذو شجون

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 08 - 1943


للدكتور زكي مبارك

الوساطة بين الدكتور طه والأستاذ المازني - عناصر الهجوم - كلمة الدكتور طه - حل الألغاز - غمزات الدكتور طه - الدكتور طه في الأعمال الحكومية والأدبية - المازني ضحية الأدب، ولكنه لن يضيع - كلمه صريحة إلى الدكتور طه حسين

الوساطة بين الدكتور طه والأستاذ المازني

لم يعد القراء يلتفتون إلى ما يقع في الجرائد اليومية من المصاولات الأدبية، فقد صنعت أزمة الورق في صد الجرائد عن الآداب والفنون، وبهذا أصبح مجال الأدب مقصوراً على المجلات الأدبية، فمن الخير أن نحدث قراء الرسالة عما يفوتهم الاطلاع عليه، مما يقع من الصيال الأدبي فوق صفحات الجرائد اليومية من حين إلى حين

وكلمة اليوم في شرح مناوشة عنيفة بين الدكتور طه والأستاذ المازني على صفحات جريدة البلاغ، وهي مناوشة تمثل التجني والتظالم على أعنف ما يكون بغي الرجال على الرجال. وسنقف من هذه المناوشة موقف القاضي العادل، فقد ساءنا أن يتقارض هذان الرجلان الظلم والعدوان بلا ترفق ولا استبقاء، بعد أن ظلا صديقين حيناً من الزمان

والذي يهمني من هذه الكلمة هو أولاً تسجيل حادثة أدبية لا ينبغي أن تضيع، وهو ثانياً إنصاف رجلين عزيزين على الأدب وقد بغى كلاهما على أخيه بتحامل وإسراف. وهو ثالثاً توضيح لألغاز ساقها الدكتور طه بك مع اعترافه بأن فهمها لا يتيسر لأكثر القراء

وأصل القضية أن الأستاذ عزيز بك أباظة مدير البحيرة أصدر مجموعة شعرية سماها (أنات حائرة) مع تصدير بقلم الدكتور طه حسين. فلما بدا للأستاذ إبراهيم المازني أن يتحدث عن تلك المجموعة بدأ بالهجوم على صاحب التصدير، فغضب الدكتور طه وكتب رداً أراد به دفع العدوان بما هو أقسى من العدوان

ولأجل أن يدرك القراء حيثيات الحكم في هذه القضية أسوق إليهم كلمات الخصمين قبل الشروع في الحساب

قال الأستاذ المازني بعد التمهيد:

(وتوكلت على الله فقرأت التصدير الذي كتبه الدكتور طه حسين بك فقلت لنفسي: ولا قوة إلا بالله! هذا طه حسين يخسره الأدب ولا تكسبه الحكومة، فما خلق لها بل للأدب. وإنه ليضيع نفسه في هذه المناصب التي تشغله وتستنفذ جهده ووقته، فإذا كتب جاء بماذا؟ جاء بمثل هذا الكلام الذي لا محصول وراءه، ولا أعرف له رأساً من ذنب. فلماذا لا يستقيل ويريح نفسه من هذا العناء الباطل ويتفرغ للأدب؟ ماذا يفتنه من هذا العرض الزائل والذي أهمل أو ترك أبقى؟ كيف يستطيع بالله أن يواظب على التحصيل وتغذية عقله ونفسه - وهو ما لا غنى بأديب عنه - وكيف يتسنى له التجويد حين يكتب وهو مشغول في ليله ونهاره بهذا الذي لا آخر له من شؤون الوظيفة واللجان وما إليها. . . وهو يتولى أعمالاً كل واحد منها كاف للإرهاق: فمن جامعة فاروق إلى منصب المستشار الفني لوزارة المعارف إلى عشرات من اللجان يشارك فيها وتأبى له كرامته أن يكون صفراً، ولو اقتصر على الجامعة لكان خيراً، ولو نفض يده من هذا كله لكان أفضل)

عناصر الهجوم

وخلاصة هذه الكلمة:

1 - أن الدكتور طه خسره الأدب ولم تكسبه الحكومة، ومعنى ذلك أنه يتولى عملاً لم يخلق له. وسنرى كيف ثار الدكتور طه على هذه العبارة وعدها تحدياً لقدرته على الأعمال الحكومية

2 - وأن الدكتور يضيع نفسه في مناصب تشغله وتستنفذ جهده ووقته، فإذا كتب جاء بكلام لا محصول من ورائه ولا يعرف له رأس من ذنب

3 - وأن الأفضل للدكتور طه أن يستقيل ويريح نفسه من العناء الباطل (وهو عمله في الحكومة) ويتفرغ الأدب

4 - وأنه لا يمكن للدكتور طه أن يزود نفسه بالتحصيل، أو يتفرغ للتجويد حين يكتب وهو مشغول ليله ونهاره بأعمال كل واحد منها كاف للإرهاق.

كلمة الدكتور طه

وجه الدكتور طه كلمته إلى صاحب البلاغ ثم قال بعد التمهيد:

(أؤكد للأستاذ المازني أني آسف أشد الأسف لأن الأستاذ عزيز أباظة لم يطلب إليه هو كتابة هذا التصدير، إذن لكان له المحصول كل المحصول، ولكان له رأس كقمة الجبل وذنب كالذي خوف به المنجمون المعتصم حين هم بفتح عمورية. وآس أشد الأسف لأن الحكومة لم تكل إلى الأستاذ عملي في وزارة المعارف وفي جامعة فاروق، إذن لكسبته الحكومة والأدب جميعاً. والأستاذ المازني يعرف أن لأبي العلاء قصة مع الشريف المرتضى، وأظنه يأذن لي في أن أسرق من هذه القصة شيئاً، فالسرقة في الأدب مباحة، ولا سيما حين تكون في العلن لا في السر، وهي حينئذ أشبه بالسطو. فأنا أرجو أن يقرأ الأستاذ سورة الفلق، وأن يقرأ مطولة لبيد ومطولة طرفة وعينية سويد أبي كاهل التي مطلعها:

بسطت رابعة الحبل لنا ... فبسطنا الحبل منها ما اتسع

ورائية الأخطل التي مطلعها:

ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدر ... وإن كان حيَّانا عِدا آخر الدهر

ولامية المتنبي التي مطلعها:

بقائي شاء ليس هُمُ ارتحالا=وحُسنَ الصبر زمُّوا لا الجمالا

وسيقول القراء أني ألغز بهذا الكلام، ولكني أعتذر إليهم، فإني لا أكتب لهم وإنما أكتب للأستاذ المازني. وأنا أسلك في ذلك طريقة الأستاذ نفسه؛ فمن المحقق أنهم لم يفهموا عنه ما قال أمس، لأنهم لم يقرءوا التصدير الذي لا محصول وراءه والذي لا رأس له ولا ذنب. . . وأحبب إلي بأن أستقيل وأفرغ للأدب، ولكني أود أن أستيقن قبل ذلك بأن الحكومة ستضع الأستاذ المازني مكاني لنرى أيكتب كلاماً كالذي أكتبه أم يكتب كلاماً خيراً منه. . . أما بعد فأنا ضامن للقراء إحدى الحسنيين: فإما أن يسكت الأستاذ المازني فيستريح من هذا السخف الذي نحن فيه، وإما أن يكتب الأستاذ المازني فيجدوا شيئاً يرفه عليهم من هذا الفيظ المهلك، ويقرءوا كلاماً له الرءوس كل الرءوس، والأذناب كل الأذناب)

حل الألغاز

ونسارع فنذكر أن الإشارة إلى سورة الفلق منصبة على آية (ومن شر حاسد إذا حسد) وأن الإشارة إلى مطولة لبيد تتجه إلى هذين البيتين:

فاقنعْ بما قَسم المليك فإنما ... قَسمَ الخلائقَ بيننا علاّمُها وإذا الأمانة قسَّمت في معشر ... أوفى بأعظم حظنا قَسَّامُها

وأنه يريد من مطولة طرفة هذان البيتان:

فلو كنت وغلاً في الرجال لضرني ... عداوة ذي الأصحاب والمتوحد

ولكن نفى عني الأعاديَ جرأتي ... عليهم وإقدامي وصدقي ومحيدي

ومن عينية سويد أشار الدكتور طه إلى هذين البيتين:

رُبَّ من أنضجت غيظاً قلبه ... قد تمنَّى ليَ موتاً لم يُطَع

ويراني كاشجا في حلقهِ ... عَسِراً مخرجُه ما يُنتزَع

وأراد من رائية الأخطل هذين البيتين:

تَنِقُّ بلا شيء شيوخ محاربٍ ... وما خلتُها كانت تريش ولا تبري

ضفادع في ظلماء ليل تجاوبتْ ... فدلَّ عليها صوتُها حيةَ البحر

ومن لامية المتنبي أراد هذين البيتين:

أرى المتشاعرين غروا بذمي ... ومن ذا يحمل الداء العُضالا

ومن يكُ ذا فم مُرٍّ مريضٍ ... يجد مُرّاً به الماء الزلالا

وما أردت تبليغ هذه التعاريض إلى الأستاذ المازني، وإنما أردت منفعة القراء، والشر يتسم بالخير في بعض الأحايين!

غمزات الدكتور طه

1 - كان يستطيع أن يقول إنه (يستعير) قصة أبي العلاء مع الشريف، و (يستعير) هي اللفظة المطلوبة في هذا الموقع، ولكنه قال إنه (يسرق) ليندد بالأستاذ المازني. ولم يكتف بذلك، بل جعل سرقته علنية، وهي (حينئذ أشبه بالسطو) كما قال

2 - صور الأستاذ المازني بصورة الحاسد لمن كتب تصدير الديوان

3 - وصورة بصورة من يعجز عن عمل المستشار الفني بوزارة المعارف، ومن يعجز عن إدارة جامعة فاروق

الدكتور طه في الأعمال الحكومية والأدبية

لقد فصلنا الخصومة بين الرجلين بوضوح، ولم يبق إلا أن نكف شر الأستاذ المازني، لأننا نكره أن تختل الموازين في هذه البلاد

وإذا كان الأستاذ المازني هو البادئ بالظلم فأنا أبدأ بالدفاع عن الدكتور طه، والهجوم عليه ذو شعب: فهو تارة أديب أضاع نفسه بالأعمال الحكومية، وتارة موظف لا يحسن إدارة الأعمال، وتارة حائر لا يهتدي إلى ساحل الأمان

وأشهد أن الدكتور طه من أقدر الرجال على إدارة الأعمال الحكومية، فما تولى عملا أقبل عليه بهمة وقوة، ولا سما إلى مطلب إلا وصل إليه بأيسر أو أعسر مجهود. والدكتور طه مثال نادر من أمثلة البراعة في الشؤون الإدارية، وهو مفطور على سرعة التصرف، وأخطاؤه القليلة أو الكثيرة لا تقاس إلى صوابه في الابتكارات الديوانية

وما الذي يمنع من الحكم بأن الدكتور طه دفع عن رجال الأدب قالة من أسوأ القالات، فقد مرت أزمان والناس يتوهمون أن رجال الأدب لا يصلحون للأعمال الإدارية، وكان من أثر هذا التوهم أن لم نر لأحدهم مكانا في المناصب العالية من الوجهة الرسمية، فجاء نجاح الدكتور طه رداً حاسماً على أوهام أولئك المتوهمين

وكذلك يقال في تولي الدكتور طه إدارة جامعة فاروق، فذلك مغنم عظيم لرجال اللغة العربية، وكانت الحكومة لا تكل إلى أحد منهم إدارة مدرسة ابتدائية. وهل ننسى أن مدرسة دار العلوم ظلت آماداً طوالاً تحت نظارة رجال من غير أبنائها، مع أن فيهم كثيراً من الأكفاء؟

ويسرني أن تشهد البواكير بأن الدكتور طه سيفلح في إدارة جامعة فاروق، كما أفلح من قبل في إدارة كلية الآداب بجامعة فؤاد، وكما أفلح في أعماله بوزارة المعارف

أما قول الأستاذ المازني بأن شواغل الدكتور طه تصرفه عن تزويد عقله بالمطالعات والمراجعات فهو قول صحيح، ولكنه لا يؤذي الدكتور طه في شيء، لأن الدكتور طه قد اختار لنفسه أن يكون من رجال الدولة لا من رجال الأدب، وهو لن يزاحم أحداً من الباحثين، ولن يقول إنه أوحد الناس في جميع الفنون، فما يجوز لمن يكون في مثل حصافته أن يتناسى أن الأستاذية في الأدب توجب الانقطاع إلى الأدب، وتفرض الخلوة إلى النفس ساعات من كل يوم، وذلك لا يتيسر لمن تكون الأعمال الإدارية عناءه بالنهار وهمه بالليل.

المازني ضحية الأدب، ولكنه لن يضيع

من التقاليد الموروثة بمصر احترام الوظائف والموظفين، وقد كان الآباء في عهد الفراعنة يوصون أبناءهم بطاعة الرؤساء، ويحضونهم على تنفيذ الأوامر بلا اعتراض، ليظفروا من مناصب الدولة بأكبر نصيب

وأنا لا أرى في هذا شيئاً من الذلة في طلب المجد، كما رأى بعض الناس، وإنما أراه شاهداً على أصالة المصريين من الوجهة النظامية، فطاعة المرءوس للرئيس يوجبها نظام الأعمال إذا حسنت النيات وزال معنى الخضوع الممقوت

- واحترام الوظيفة في مصر له أصل، فقد كانت الوظائف من أنصبة الأغنياء والأقوياء، وكان مفهوماً أن الرجل لا يظفر بوظيفة إلا إن كانت له عصبية تحميه من الكائدين، أو تعينه على تحقيق السيطرة في الإقليم الذي يشرف عليه بأي صورة من صور الإشراف

ونحن اليوم نخضع لتلك التقاليد خضوعاً يعترف به القلب وإن أنكره اللسان، فمن السهل أن يسأل سائل عن مكانه الأستاذ المازني في الدواوين الحكومية، وكان قبل ثلاثين سنة أستاذاً في مدرسة من كبريات المدارس الثانوية، ومن زملائه من وصل إلى مكانة تضيفه إلى المحسودين بين كبار الموظفين، فماذا صنع المازني بنفسه حتى تخلف هذا التخلف وحتى صار من حق أي إنسان أن يقول له: داعب هذا المنصب إن كنت تستطيع؟

حظ المازني يظهر واضحاً إن تذكرنا ما صار إليه ناصحه الأمين، وهو الأستاذ عبد الفتاح صبري وكيل المدرسة السعيدية، يوم كان المازني أستاذاً بالسعيدية، فقد خضع الأستاذ عبد الفتاح صبري للأنظمة الإدارية خضوعاً وصل به إلى أرفع منصب في وزارة المعارف، وثار المازني على الأنظمة الإدارية ثورة وصلت به إلى العيش من سنان القلم في الجرائد والمجلات

فما النتيجة وما الغاية في حياة هذا وذاك؟

مات عبد الفتاح باشا صبري ميتة الغريب، فلم تبكه وزارة المعارف، ولم يحزن عليه مخلوق، ولن يذكر بغير الملام إن تسامح معه التاريخ!

أما المازني فلن يموت أبداً، وهل يموت رجال الأقلام والآراء؟

المازني من أمجاد مصر الأدبية، وصفحة واحدة من أصغر كتاب ألفه المازني أبقى على الزمن من جميع المناصب، والله عز شأنه أقسم بالقلم ولم يقسم بالجاه ولا بالمال

وهل كانت مصر ترضى أن يصير المازني إلى وظيفة تقبره كما قبرت الوظائف مئات من المفكرين بهذه البلاد؟

اقترحت مرة على صفحات الرسالة أن تقرر الدولة معاشاً الأستاذ المازني، بحجة أنه أدى للأدب خدمات لم يؤدها من تمتعوا بكرم الدولة باسم الأقدمية في الوظائف

وأنا في هذه اللحظة أسحب ذلك الاقتراح، فلن يجوع المازني وفي يده قلمه، ولن يشيخ قلم المازني ولو صار صاحبه في ضمور طيف الخيال.

كلمة صريحة إلى الدكتور طه حسين

ولكن ما الذي آذاك أيها الأستاذ الجليل من تلك الغمزة المازنية؟ ما الذي آذاك منها وهي حق في حق؟

أتريد أن نعفيك من النقد الأدبي؟

أتريد أن نتوهم أنك كنت معنا فطرت عنا؟

أيرضيك أن تتناسى اسمك في المناوشات الأدبية؟

إن كان هذا ما تريد فأنت وما تريد، ولكننا لن نحترم إرادتك إلا كارهين، لأننا نرفض تسليمك إلى الحكومة بأي ثمن، وسنجاهد إلى أن نستردك، فجهز نفسك لوصل حاضرك بماضيك، في خدمة الأدب الرفيع.

زكي مبارك