مجلة الرسالة/العدد 526/في الشعر المهموس

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 526/في الشعر المهموس

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 08 - 1943



للأستاذ حسين الظريفي

ليس من البحث في شيء أن نتناول الظاهرة في العلم أو في الأدب أو في الاجتماع، ونغفل المصدر الذي انبعثت عنه كشأن الحديث الذي دار وما يزال دائراً على الشعر المهموس في (الرسالة) و (الثقافة) دون أن يصل الناقد والمنقود إلى نقطة اتصال، يتم فيها بينهما التفاهم على ما اختلفا فيه ولا يزالان على خلاف

ولو أن كلا منهما اتجه بالبحث إلى تعيين مصدر هذا الشعر في أدب المهجر، لضاقت بينهما شقة الخلاف، ولقاما بتعليل جروح كثيرة. وما كان القول بتخلف الشعر في مصر، أو بنفي هذا التخلف، إلا علة السير على الهامش وترك الصميم. وهذا ما رغبتي في أن أقول كلمتي لإملاء فراغ الموضوع

والواقع أن شعر المهجر طابعاً خاصاً يعرف به. لا من حيث مبانيه ومعانيه فحسب، ولكن من حيثية أخزى، هي ذلك الإيقاع الذي يقرع به الأسماع، أو مدى ذبذبته على حد التعبير العلمي. وهذا ما يحمل على استصواب تسمية هذا الشعر بالشعر المهموس، وتخطئة نعته بشعر الحنين. لأن هذه التسمية الأخيرة ترتكن إلى انفعال الشاعر بينما تعتمد التسمية الأولى على النزعة الشعرية العامة في قطر بعينه. فالموضوع يدور على هذه الظاهرة العامة في شعر المهجر، تاركاً وراءه البحث عن كل انفعال خاص - كالحنين - لا يقوم إلا إذا قام الباعث عليه. وما يظهر إلا لحاجة ثم يختفي

وأنا أراد نزعة الهمس هذه إلى شعر الشقيقة سورية؛ لأنها هي الأخرى تتميز بهذا الضرب من الشعر، وإن كانت تسير فيه خلف الشعر في المهجر. ويظهر أن شعراء الشقيقة وجدوا في العالم الجديد ما إذا قيهم نزعة الهمس هذه، فإذا هي علامته الفارقة في الشعر على اختلاف أغراضه وفنونه

ونحن نجد ظاهرة الهمس في النثر إلى جانب ظهورها في الشعر، ثم نجدها في فنون الغناء السوري، كما نجدها في لهجة التخاطب. فالقوة الموسيقية في الإعراب عن الخواطر والانفعالات؛ وأعني بها ما اصطلحنا عليه بكلمة (الهمس) لا تكاد تختلف في ضروب هذه الأساليب البيانية من شعر ونثر وغناء وتخاطب وقد أطلت التفكير في مصدر هذه الطاقة الموسيقية فلم أجده إلا في طبيعة البلاد السورية، فإنها هي المصدر الذي صدرت عنه هذه الظاهرة وانسجمت علي كافة طرق التعبير. لقد فعلت طبيعة البلاد فعلها الخاص في أعصاب هؤلاء الشعراء وتسربت منها إلى فنون القول موزوناً وغير موزون

يقابل ذلك ما ينتج من العراق من شعر ونثرن وما يألف من ضروب الغناء؛ فإنه يقف في الطرف الثاني من المحور، حيث يقف على طرفه الآخر أدب المهجر. إن الأدب في العراق كالغناء فيه يعتمد في إيصال الشعور على قوة اللهجة؛ فإذا كان أدب المهجر يمس شعور القارئ أو السامع برفق ولين، فإن أدب العراق لا يمسه إلا بشدة. ويقف بين هذين أدب مصر، فلا هو بالضعيف ولا بالعنيف

ولا محل للقول بتخلف الشعر في مصر لأن رنة الإيقاع فيه غير هادئة؛ فالشعر لا يقاس بهذا المعيار، وإنما ينظر في مدى ارتقائه على أنه أسلوب بيان ومجموعة خواطر. أما قوة اللهجة فيه فإنها مظهر الحالة العصبية التي كان عليها الشاعر عند بنائه بيوت الشعر. وليست هذه الحالة بجزء من الشعر لتكون جزءاً مما يقاس به مدى ارتقائه وطول بقائه، ويحكم له أو عليه

وقد نرى الهمس والجرس في بعض قصائد الشاعر فلا يصطبغ شعره بهذا اللون، لأنه وليد حالة روحية خاصة تأتلف الموضوع المقول فيه. ومركز الثقل فيما دار ويدور عليه الحديث على لسان الرسالة وزميلها الثقافة، هو ندرة ما في مصر من هذا الشعر وكثرة ما في أدب المهجر منه. تلك الظاهرة التي أرجعناها إلى طبيعة البلاد. فشاعر المهجر عاش في وسط لا ترهق فيه الأعصاب، ومن ثم كان تصويره وتعبيره غير مرهق الأعصاب غيره. أما الشاعر في مصر أو في العراق فإنه محاط من حمارة الصيف بما يتعب الأعصاب ويبعد بها عن أن تنفعل إلا بأبلغ المؤثرات. وهو بمدى تأثر هذه مسوق إلى التهويل عند محاولة التأثير فيمن سواه. فكان كل من أدبه وغناه يعتمد في التأثير على ارتفاع الصوت فيه وإن صم الآذان

وأعتقد أن حالة الأعصاب هذه كانت وما تزال حائلاً دون انتشار القصة والرواية في أدب العرب، وباعثاً إلى وضع تلك القواعد الأدبية التي تقول باختيار ما قل ودل، وأن الإعجاز في الإيجاز

فإذا اتفقت كلمة الباحثين على أن الشعر المهموس وليد طبيعة خاصة تفعل في نفس الشاعر، لا يبقى محل للنعي على الشعر في مصر، أو للقول بأن الهمس فيه فن من الفنون

إن الهمس أو الجهر في الشعر أو في غير الشعر، لا يمكن اعتباره مظهر تطور أو تأخر، لأنه لا يدل إلا على مقدار الطاقة التي بذلها صاحب الفن في سبيل التأثير في الآخرين

(بغداد)

حسين الظريفي المحامي