مجلة الرسالة/العدد 524/إيضاح أخير
مجلة الرسالة/العدد 524/إيضاح أخير
للدكتور محمد مندور
الحنية:
قلت أنني لا أحب اللجاجة فكيف إذا انقلبت مزيجاً من المهاترة والمغالطة. وها هو الأستاذ سيد قطب يعود إلى (مزاجي) الخاص فيدعي أن آثر شخصية لدي من شخصيات القصص التي حللتها في سلسلة (النماذج البشرية) بالثقافة، هي شخصية (فيلستيه) للكاتب الفرنسي (فلوبير)، وذلك لما بها من (حنية) كما يقول
ولكنني لم أوثر شخصية على أخرى إلا أن يريد الأستاذ قطب حملي على ذلك الإيثار. و (فلستيه) بعد ليست النموذج الوحيد الذي تحدثت عنه، فثمة (فاوست) يمثل الإقبال على الحياة والنهم إلى المعرفة عن سبيل المغامرات؛ و (دون كيشوت) الساخر من الحياة، المجالد للشر رغم إيمانه ببطلان جهاده. و (هملت) العقل النافذ نفاذاً يشل الإرادة. و (جوليان سوريل) الثائر على مواضعات الحياة الاجتماعية. و (الست) الناقم على البشر انحلال أخلاقهم. و (فيجارد) المنتقم من الحياة بالسخرية. و (إبراهيم الكاتب) الذي تعلق بالحياة حتى مجها و (جفروش) الطفل الباسم عن جسارة قلب وغيرهم ممن لا صلة لهم (بالحنية) والمزاج الخاص
لقد حللت هذه النماذج مظهراً ما فيها وهي عندي سواء، فلا محل إذن لمغالطة الأستاذ قطب وإصراره على زعمه أني لا أوثر إلا لوناً واحداً من الإحساس
ويأبى الأستاذ قطب إلا أن يضيف إلى المغالطة المهاترة بحيث لا أرى بداً من أن تكون هذه الكلمة آخر حديث لي في هذا الموضوع:
يرى الأستاذ قطب أن نوع الإحساس الذي أوثره في زعمه خاص بالنساء وبذوي الأمزجة الخاصة. وأنا لا يرهبني أن يكون إحساسي على هذا النحو، ويعصمني من تلك الرهبة جهل نفضته عن نفسي وبربرية لا يزال يسدر فيها الفطريون من الناس
لقد سمع الأستاذ قطب أستاذه العقاد يكتب مقالات يثبت فيها أن المرأة غير رجل، وأن بينهما اختلافاً سحيقاً في الطبيعة؛ وسمع الغفل من الرجال يزدرون المرأة ويعتبرونها مسبة أن يشبه الرجل المرأة في شيء، فلم ير سبيلاً للمهاترة خيراً من أن يرد إحساسي إلى المرأة والى ذوي الأمزجة الخاصة
وأنا أحب أن يعلم الأستاذ قطب، وأن ينقل إلى الأستاذ الكبير العقاد أن الحياة البشرية ليست من البساطة بحيث يظنان؛ وليس بصحيح أن بين الرجل والمرأة اختلافاً في الطبيعة. وقديماً زعم اليونان - وزعمهم الحق - أن الآلهة عند خلقها للبشر لم تخلق الرجل والمرأة دفعة واحدة، بل خلقت أعضاء مختلفة ثم جمعت بين تلك الأعضاء لتسوي الرجل والمرأة، وهي لسوء الحظ أو حسنه لم تحرص على نقاء الرجل من عنصر المرأة أو نقاء المرأة من عنصر الرجل. ولهذه الخرافة الرمزية دلالتها، فليست هناك امرأة كاملة الأنوثة، وليس هناك رجل كامل الرجولة، ومن يدعي غير ذلك إنما يصدر عن عقل باطن أمرضته سخافات العقلية الاجتماعية التي نحيا بينها
واليونان لا ريب كانوا في خرافتهم هذه أنبه مني ومن العقاد، وطبعاً من الأستاذ قطب. وإنه لمن الحمق أن نحاول تنقص الرجل برد إحدى أحاسيسه إلى المرأة، والشعوب المتحضرة ترى على العكس من ذلك أن في إحساس الرجل كالمرأة موضع فخار لكبار رجال الفن والأدب. ولعل الأستاذ قطب قد سمع من العقاد أن رينان قد وصف بأعظم الصفات كفنان عندما قيل عنه (أنه كان يفكر كرجل، ويحس كامرأة، ويتصرف كطفل)
الفتات
وأما فتات الحياة (التي يعرف كبار الأدباء كيف يلتقطونها بأنامل ورعة) فالظاهر أن الأستاذ قطب لم يدرك ما أردته منها. وهاأنا أبسط القول. والأستاذ قطب لابد قد فهم عن الأستاذ الكبير العقاد أن كل فن اختيار للتفاصيل الدالة. فالمصور يختار من الألوان والأضواء وتفاصيل المنظر أقدر الجزئيات على الإيحاء، وكلما سما الفنان في فنه ورهف في وسائله عرف كيف يختار تلك الجزئيات الصغيرة، وليس ثمة علاقة بين (فتات الحياة) التي يختارها (وضخامة الإحساس) الذي يريد أن يثيره، فالإحساس من الواجب طبعاً أن يكون قوياً؛ وموضع الإعجاز هو أن يثير الفنان هذا الإحساس القوي (بالفتات) التي لن يدركها الأستاذ قطب؛ بل أن جميع المثقفين في حقائق الفن والأدب ليعلمون لخبرتهم الطويلة بكافة الفنون في العالم المتمدن أن إثارة الاحساسات القوية لا يمكن أن تكون بغير فتات الحياة الأليفة الوثيقة الصلة بالبشر؛ وأما الطنطنة وأما تضخيم التوافه وأما عجيج الألفاظ وأما التبجح بالقوة الجوفاء فهذه وسائل العجز والادعاء والجهل
أضرب للأستاذ قطب مثلاً بسيطاً أختاره من السينما لنبعد عن الأدب العسير الفهم
في أحد الأفلام أراد مؤلف القصة أن يحمل المشاهدين على إدراك ضيق بطل الرواية لطول انتظاره أمراً يهمه فلم ينطقه بخطبة، ولم يعبث بملامحه، ولم يحمله على تمزيق ملابسه أو شد شعره، ولا حمله على الصياح في أجواز الفضاء، بل عرض على الشاشة بطلنا وأمامه منفضة سجاير خالية، ثم غير المنظر وعرض الرجل في نفس الجلسة، وأمامه المنفضة وقد امتلأت بأعقاب السجاير حتى فاضت. هذه المنفضة المليئة بأعقاب السجاير لا شك من فتات الحياة بل من هيناتها، ولكن أو ما يرى الأستاذ قطب أنها وسيلة قوية من وسائل الأداء وأنها قد حملتنا على إدراك نفسية البطل إدراكاً لن تبلغه قصيدة طويلة من قصائد الأستاذ قطب أو قصائد غيره؟
هذه هي (فتات الحياة) التي يجب أن نعرف قدرها في الفن؛ ولكننا قوم فطريون نظن الفن ألواناً فاقعة وضجيجاً خاوياً. نعم يا أستاذ قطب أنا أوثر (الأطياف الباهتة) لأنها نسيج كل فن رفيع؛ وأما (الأطياف الزاهية) فلا تسر غير البدائيين من الناس. أو لا ترى إلى زنوج أفريقيا كيف يستهويهم الأحمر القاني والأصفر الكركم؟
وأعود فأكرر أننا في سبيل الحديث عن طرق الأداء في الفن؛ وأما قوة الإحساس المثار فلا دخل له بالفتات إلا أن تكون هذه الفتات مبعث ذلك الإحساس القوي
وأما أنني أستطيع أن أستقل بالمشاعر الضخمة وبالفحولة والجهارة أو لا أستطيع فهذه دعوى لا أحب أن أناقشها لأنها صغيرة، ولسنا في مجال مبارزة أنحدر إليها ورحم الله من قال:
(أسرع الناس إلى القتال أقلهم حياء من الفرار). ونحن نناقش مسائل فنية يدور حولها الأستاذ قطب. يدور من الخارج.
مختارات الأستاذ قطب
قلت: إنني أحب المتنبي وأرى فيه شاعراً كبيراً ويأبى الأستاذ قطب إلا أن يقول ويكرر أنني لا أحبه؛ وهو يقرن العقاد إلى المتنبي، وفي هذا ظلم للمتنبي وللعقاد، فالمتنبي شاعر والعقاد لا شأن له بالشعر، ولا أدل على ذلك من مختارات الأستاذ قطب نفسها لقد أتى الأستاذ قطب بنموذج للنثر المصري الجيد رثاء أحد الشبان لأمه؛ والشاب صاحب الرثاء هو الأستاذ قطب نفسه؛ واحتجاج الإنسان بنثره الخاص شيء سمج؛ وأمعن في السماجة أن يتحدث المرء عن نفسه في مناقشة الغير فيدعي أن في نثره (معاني كبيرة وأحاسيس عميقة) هذا الأسلوب ليس من آداب المناقشة، ولهذا أهمل نثر الأستاذ قطب كله وأترك له مهمة الحديث عن نفسه
وأما مختاراته الشعرية فهي أولاً لشاعر مصري كبير، وثانياً لشاعر من شعراء الشباب المصريين. فأما شاعر الشباب فهو أيضاً الأستاذ قطب ولهذا أهمله وأهمل شعره لأنني لا أطيق هذه الصفاقة، ثم أنني لا أرى من اللياقة أن أناقش أشعار التلميذ بينما لدي أشعار الأستاذ نفسه، لدي أشعار الشاعر المصري الكبير العقاد فالشعر له والأستاذ قطب في ركابه
ولنأخذ من الصور الشعرية التي أوردها الأستاذ قطب للشاعر الكبير العقاد قصيدته (الكون الجميل) (رسالة عدد 520). قال الشاعر:
صفحة الجو على الزر ... قاء كالخد الصقيل
لمعة الشمس كعين ... لمعت نحو خليل
رجفة الزهر كجسم ... هزه الشوق الدخيل
حيث يممت مروج ... وعلى البعد نخيل
قل ولا تحفل بشيء ... إنما الكون جميل
وقال الأستاذ قطب معلقاً على جمال هذه الأبيات أن فيها ألفة وأنه يكاد يلمح الشاعر (متسع الحدق مغفور الفم وهو ينشق بل يلتهم ما في الطبيعة) وأنا لا أدري أي ذوق أدبي ذلك الذي يحمل الناقد على تصوير الشاعر (متسع الحدق مغفور الفم)، وهل يستطيع القارئ أن يتصور هذه الصورة القبيحة دون أن يملكه الاشمئزاز والضحك. تصور شاعراً مفتوح العينين فاغر الفم. هذه صورة أبله لا صورة شاعر
ثم أين الجمال في هذه الأبيات؟
يا لله! ما هذه الصفحة؟ أهي السحب؟ أهي الأثير؟ وهل هذه الصفحة غير الزرقاء؟ وهبها كانت غيرها أهي كالخد هذا الفضاء الرحب، الفضاء المترامي الذي تسبح فيه الروح فلا تنتهي إلى غاية. هذا الفضاء خد. وكيف تصقل الأثير، الأثير اللين الشفاف الخفيف؟ لمعة الشمس كعين ... لمعت نحو خليل
هل يرى القارئ عين الحبيب وهي تلمع نحو الخليل فتشبه لمعة الشمس؟ لابد أنها عين حمراء تقدح الشرر وترسل اللهيب
رجفة الزهر كجسم ... هزه الشوق الدخيل
أنا أعلم أن الدخيل معناه الطفيلي فما هذا الشوق الطفيلي؟ أهو الشوق الداخلي؟ وهل ترى الجسم يهتز كرجفة الزهر؟ لو أن كانت في القلب لقلت شاعر يشارك الطبيعة بإحساسها ولكنه الجسم كله. يخيل إلي أنني أرى فيلاً يهتز بجوار وردة تتمايل على غصنها
حيث يممت مروج ... وعلى البعد نخيل
مروج ونخيل لا تخصيص فيها ولا اختيار. أين الفن في يممت نحو المروج وعلى البعد نخيل. هذا نثر لا روح فيه
وأما غاية العجب فتأخذك من قوله:
قل ولا تحفل بشيء ... إنما الكون جميل
تسمع قل ولا تحفل بشيء، فتتنبه حواسك، ويستيقظ إحساسك، ويصحو عقلك لهذا التحدي القوي وتلك الشجاعة النادرة، وتحسب أن الشاعر سيخرج على قانون من قوانين الوجود أو على حقيقة من الحقائق الإنسانية الثابتة، ثم تنظر فإذا به لا يأتيك بغير هذه الجملة المبتذلة (إنما الكون جميل). وأنت تتساءل عن سر هذا القصر وذلك التأكيد فلا تهتدي إلى شيء.
هذا هو شعر الشاعر الكبير فما بالك بشعر الشاعر الصغير؟
محمد مندور