مجلة الرسالة/العدد 522/ألف ليلة. . .
مجلة الرسالة/العدد 522/ألف ليلة. . .
للأستاذ دريني خشبة
كلما تعبت الإنسانية أو جثمت على صدرها الهموم والآلام، لجأت إليك يا ألف ليلة الحبيب تخدر بك أعصابها المنهوكة، وتحسو من نهر أحلامك تلك الجرعة السحرية العجيبة، فتستسلم للأحلام. . .
أنت أيها الأغنية الخالدة التي تترقرق في أرواح المحزونين ما أبدع شاديك وما أملأ بالفتنة ناديك!
لله حورياتك التي تثب كالقطا نحو أبواب الشرق بعد إذ فتحت أكمام الورد، وغسلت بالندى أحداق النرجس، ووسوست في صدر العرائس، وأيقظت الحياة في القرية الحالمة، وداعبت كل أم بالأماني، وجمشت الديكة فأطلقت حناجرها للريح تتأذن للشمس أن تشرق، وللبدر أن يغيب، وللأنجم الظالمة أن تغرق في فيض الضوء الذي يفتر عنه فم الصباح!
لله عذاراك يا ألف ليلة الحبيب! إن في عيونهن كحل الشرق، وفي وجوههن صباحته التي لا تعرف الدمام! إنهن يسبحن فوق السحاب الموشى بأجنحة من ذهب لا ثقل له. . . لأنه ذهب مما تصب سبائكه أخيلة الشعراء والحالمين والظامئين، تلك الأخيلة التي تصنع الطوبى، وتنبت الجنان، وترسل الألحان الصامتة، وتنحت التماثيل الحية، وتفرش أديم الأرض الطيبة بأوراق الورد والبنفسج، وتفجر فيها أنهار المعرفة، وتعطر نسيمها بعبق الزنبق، وتملأ أرجائها بألسن الموسيقا، وتبنى فيها القصور للعشاق والمحبين من البلور واللؤلؤ المنثور. . .
أملأ كأسك السحرية يا ألف ليلة الحبيب لتشرب الإنسانية المتعبة نخب أحلامك. . . إنها تود أن تنام فلا تصحو. . . إن الأشباح الكريهة الشائهة قد ملأت عليها عالم الحقيقة، وهجمت عليها فجأةً من الغابة المظلمة الفاحمة أفاعي الأحقاد. . . هاهي ذي الضباع الجائعة التي أصابها السعار تنوشها من كل فج، وتتلقفها في كل مكان. . . في البحر. . . في البحر. . . في الهواء. . . تحت الماء. . . في المخابئ. . . في الخنادق. . . في البروج المشيدة. . . في البيداء. . . في القرية. . . في المدينة. . . في كل مكان يا ألف ليلة الحبيب تجد الإنسانية الأشباح ذات الظفر والناب. . . أشباح السباع والضباع وعفاريت الجن والسحراء والأفاعي والرخاخ الهائلة التي تحمل فراخها الفيلة، والتنانين الطائرة التي تنزع الأشجار وتحطم المدن وتجعل العامر يباباً داثرا
لشد ما تفزع الإنسانية يا ألف ليلة الحبيب بهذه الرؤى التي زحمت حولها عالم الحقيقة، فهبها كأسك السحرية مترعة لترسل بها إلى وادي أحلامك. . . وادي البدور والحور والعطور والبخور. . . وادي الأشجار والأزهار والأثمار والأطيار. . . الوادي الجميل الذي لا لغوب فيه ولا كروب ولا حروب. . . الوادي الأخضر السندسي الذي يستطيع كل شئ فيه أن يبتسم وأن يغني وأن يتكلم بلغة الموسيقا. . . لأن كل شئ فيه يستطيع أن يحب. . .
الوادي الذي تبتسم شطئانه، وتبغم غزلانه، وتغازل الأرواح ألوانه، وثلج الصدور ريعانه. . . نضر ريان، حلو فينان؛ حينما تدخله الإنسانية الباكية تطرح أشجانها، وتنسى عند بابه أحزانها، فتمشي فيه بقدميها الورديتين، اللتين أرهقهما المشي في تلك الطريق الجافة الجافية المضرجة بالدماء، تبكي أطفالها، وتضحك من رجالها. . . ولا من يرثي لحالها.
حينما يداعب الحب قلوب العشاق، لا يقنع إلا أن يترك فيها ندوباً يجري منها الدم. فتارة يلون هذا الدم خدود العذارى وثغورهن، إن كن رقيقات رحيمات. . . أما إن كن قاسيات عاتيات، لا قلوب لهن، فإنهن يتركن الدم الشهيد المسكين يسقط ليروي الأرض. وقد يمشين فيه ويتلاعبن فيه حتى يخضب أقدامهن وبنانهن، فيخيل للمخدوعين أنها وردية
ومن حسانك يا ألف ليلة الحبيب من يملأن دنياك مباهج ومسرة. إنهن أرأف بالمدنفين من النسيم الغزل بالزهرة الظامئة؛ حين يبل صداها بالرذاذ النحيل الذي تحمله أجنحته ذات الزغب فيطبعه كالقبل فوق أوراقها التي ترتعش
أولئك المحصنات المحسنات المحسنات يا ألف ليلة، اللائي يمهدون للإنسانية طريق الخير، ويبتن فيها الورود والرياحين وأفواف الزهر
ومن حسانك يا ألف ليلة من يشببن حرب الحياة جذعة. هن جميلات ذاك الجمال الفائز المتأجج الذي كل من مسه يحترق وجميع من دخل تيهه يضل، ولا بد لمن يضرب في بيدائه من التعاويذ والطلسمات والرقي. . . تلك البيداء المسبعة المحواة التي تعزف جنباتها الجن، وتفح الأفاعي، وتعربد الغيلان والسعالي. . .
الجمال الخطر المتبرج الذي صنعته يد الشيطان، وباركه إبليس الأكبر، فقصر من ذيله، وحسر عن ساقه، وأرسل شعره كالزوابع الهوج تعصف بالقلوب الرطبة، وتزيغ العيون الجائعة، وتحرق العواطف المحرومة. ثم جعله سائباً طليقاً في الطرقات ليهدم ما تبنيه الآداب والأديان والمدارس وليثير غرائز الحيوان فيعود بالإنسانية إلى الغابة
هات يا ألف ليلة الحبيب من جرعتك السحرية فقد طال الانتظار بمعروف المسكين الإسكاف!
لقد ضاق بالشدتين: صنعته وزوجه، فابعث إليه بهذا العفريت من الجن يحمله إلى بلاد الصين، حيث يتزوج من ابنة الملك! وحيث يحمل علاء الدين مصباحك السحري إلى أمه فيرد بأساءها رخاء، ومتربتها هناء وفقرها غني. . . ويطلب إليها أن تخطب عليه ابنة الملك! بالضبط كما تتهيأ الفرصة لمعروف الإسكافي. ولكل بائس محروم يفكر في الناحية الأخرى المقابلة، حيث الفرج والسخاء والرضا، حيث طاقية الإخفاء وخاتم الملك والعصا السحرية ومصباح علاء الدين، حيث الأرض الطيبة، وجنة الأحلام، والطوبى السعيدة الخالية من الآلام. ألا ما أحوج الإنسانية إلى طاقيتك اليوم يا ألف ليلة الحبيب! ما أبدع أن تلبسها لتستخفي من الطائرات والغواصات والطرابيد ومدافع الهاون ومدافع الميدان والمدافع الرشاشة والقنابل اليدوية وقنابل الثمانية آلاف رطل!
إنك إن تفضلت بها اليوم فحملتها على رأسها الذي يضطرب داخله ذلك البركان الأحمق، فإنك تريحها من أبنائها الحمقى، وأطفالها السكارى العرابيد!
إنها تستطيع إذن أن تتخلص من مارس المتوحش الدموي وعماله المتوحشين الدمويين، ومن تلك المجزرة المجنونة التي صنعت في معمل الأبالسة، وأُعدت في جب الشياطين! اخلع عليها تلك الطاقية يا ألف ليلة وليلة لتصل إلى خزائن الأسرار الحربية، فتريحنا من اختراعات الأبالسة، ولتضع مكانها أشباح تيمورلنك وجنكيز خان وهولاكو وأتالاكي تصيح في أوجه الجبارين: (مكانكم، ما هذا الدمار وما ذاك التخريب؟ لقد دمرنا من قبل، وخربنا من قبل، وحرقنا المدائن والقرى. . . ثم دمرنا الزمان وأحرقنا التاريخ، فلم نك شيئاً)
اخلع عليها طاقيتك يا ألف ليلة الرحيم لتصل إلى خزائن البخلاء والمنهومين ومختزني الأرزاق والأقوات، أولئك الذين تركوها تتضور جوعاً وترتعد عرياً،. . . وتذوب من الاستحياء والتعفف لا لشيء. . . إلا لتمتلئ بطونهم بنار الذهب الوهاج. . . ليقتنوا الدور ويشيدوا القصور. . . وليضاعفوا بعد من آلامها. . . تلك الآلام التي يشربونها في كؤوسهم خمراً لذة، وسلافة مزة، وشرباً لا بارداً ولا طهوراً!
لقد طال بكاء معروف ومسغبته يا ألف ليلة، فامنحه طاقيتك ليستخفي بها قليلاً من عصا زوجه وثقلها. . . فما جنى شيئاً؛ ولكن جنت عليه تلك الحرب التي لم يشعل نارها وهو يصلى بأوارها
أين الخاتم يا ألف ليلة؟ خاتم الملك العجيب الذي يملك الدنيا من ملكه؟ أين خادمه الجبار لينقل الإنسانية إلى كوكب غير هذا. . . كوكب بعيد قصي. . . كوكب غير قريب من المريخ فلا يراها مارس وأعوانه المردة الذين لا ري لهم إلا من دماء الأبرياء، ولا شبع إلا. . . بأكباد الأمهات والأيامى والمساكين وقلوب اليتامى والحزانى
أين خبأت هذا الخاتم يا ألف ليلة؟ لماذا تبخل به علي إصبع الإنسانية المرفوع إلى السماء، والدم يقطر من بنانها؟ من به عليها لتكتم أنفاس المدافع، ولتوزع على الجائعين أرغفة بدل هذه القنابل والمنشورات التي تلقيها عليهم الطائرات؟
لقد ضلت الإنسانية سبيلها في تلك المفازة، فألق إليهم بالخاتم يا ألف ليلة. . . ولقد اشتد الظلام الذي تضرب فيه على غير هدى؛ فأشعل لها مصباح علاء الدين لحظات حتى تتبين سبيل الرشد، وحتى تفئ إلى الحق، وحتى تعود لها نعمة الحياة التي يعدها المردة من سخافات الماضي
(لماذا هذا الحديث الطويل عن الدم والآلام والحلبة؟
أليس في الدنيا ركن أختبي فيه بهذا الناي الذي في يميني، وذاك القرطاس الذي في شمالي، حيث أخلو إلى أناشيدي التي أملأ بها أسماع الرياح وآذان الآرام؟
لماذا يعوزني التحدث إلى الإنسانية ذات الأسمال، وها هو ذا الورد يصغي إلى ألحاني، ويعطر الحديقة الضاحكة بعبير بياني؟)
هكذا وقفت شهر زادك تسأل نفسها يا ألف ليلة:
(سأمشي على ثبج هذا البحر بقدمي الجميلتين، فنهرع إلى جنياته وعرائسه. . وسأسبح على رؤوس الآكام في الهواء فتثب إلى بنات الغاب وعذارى الخمائل. . . ثم أسبح فوق السحاب. . . في صميم الأثير، فتقبل إلى ملكات العلالي. . . أما جنيات البحر وعرائسه فتقبل قدمي وتتلقى أوامري. . . فوجمالي ومفاتني لا يأذن لغواصة أن تلج فيه ولا لبارجة أو ملقية طوربيد أو نحوها. . . ولتمخر فيه الجواري المنشئات كدأبها من قديم آمنات مطمئنات
وأما بنات الغاب وعذارى (الخمائل) فتقبل بناني، ثم لا يأذن لمدفع أو دبابة أن يشوه جمال دنياي الخالدة. . . لن تصعد الآهات المكروبة من خرائب المدن الباكية بعد اليوم. . . ولن تكون هناك أطلال تذكر بتلك المجزرة المجنونة
وأما ملكات العلالي فتقبل يدي، وتنثر على الأرض المتعبة لآلئ الحكمة، وتنشر في الهواء لواء السلام، وترد إليها المحبة والإخاء)
ما أجمل ما تغني شهر زاد يا ألف ليلة الحبيب؟!
شهر زاد! روايتك الخالدة! مخترعة الطاقية والخاتم ومصباح علاء الدين والعصا السحرية. . . مسخرة الجن، وصانعة التعاويذ والطلسمات والرقى
شهر زاد! حلم الإنسانية الجميل!
متى تصحو شهر زاد يا ألف ليلة الحبيب؟!
دريني خشبة