مجلة الرسالة/العدد 521/الحديث ذو شجون
مجلة الرسالة/العدد 521/الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
نفحة اليمن - مكانة مصر بين الأمم العربية - محاسبة النفس - معادن الأرواح والعيون
نفحة اليمن
منذ أعوام لا أدري كيف مضت وانقضت كان في الديار المصرية كتابٌ اسمُه (نفحة اليَمن، فيما يزول به الشَّجَن)، وهو كتاب في المواعظ كان له في نفسي تأثير. ولو شئت لقلت إن إحدى المواعظ التي وردت فيه كانت دستوراً لحياتي في البيت، ولأسلوبي في معاملة الأهل. فأين من ينشر هذا الكتاب من جديد، عساه يؤدي خدمة يحتاج إليها الناس في هذا الجيل؟
ومنذ أعوام لا أدري كيف مضت وانقضت كان اسم (حَسان اليماني) هو اسم الحكيم الذي ألهمته الغيوب مصاير الناس في أواخر الزمان، وكانت أحكامه المنظومة تُنشَد على (الربابة) في سهرات الريف
ومنذ أعوام لا أدري كيف مضت وانقضت كانت رحلة مُعاذ بن جبل إلى اليمن مما يتداوله أكثر الناس، وكانت فيها عظات قليلة الأمثال
واليوم تلقيت نفحة جديدة من نفحات اليمن جاد بها أحد أعضاء (نادي الإصلاح العربي) في عَدَن وهو السيد محمد بركات، فهل تصل مجلة الرسالة إلى عدن كما تصل إلى السيد عثمان شبيكة في ملكال بالسودان؟
كانت أخطار الحرب أوهمتنا أن الصلة انقطعت بيننا وبين اليمن والهند، وأن التخاطب مع سكان تلك البلاد لن يتيسر إلا بعد حين أو أحايين
فيا فرحة القلب لخطاب يصل من عدن بعد أن قيل إن وسائط النقل البري والبحري والجوي قُصِرتْ قصراً على معدات الحرب!
لليمن تاريخ في العمران يجهله أكثر الناس، فلنفصله في كلمات:
أهل اليمن هم أول أمة في التاريخ نظّمت الرّي، بفضل ما عملوا في سَد مارِب
ومن أبناء اليمن كان من نظموا الريّ في الأندلس، والأوربيون يعترفون بأن تنظيم الريّ في بلادهم منقول عن عرب الأندلس وأول من فكر في إقامة خزان أسوان هو الحسن بن الهيثم، وهو عربيٌّ وَفَد على مصر من العراق منذ نحو عشرة قرون، ولعلهُ يمنيُّ الأصل
واليمنيون هم أقطاب الفاتحين لجُزر البحر الهندي، ولهم أيادٍ في مد لغة العرب إلى الهند والصين
والظاهر أن التنافس بين أبناء الجزيرة كان له صدىً في العالم القديم، فكان أبناء الشمال وهم الفينيقيون يهتمون بتحضير أوربا الشرقية، وكان أبناء الجنوب وهم الحضرميون يهتمون بتحضير آسيا الغربية، ومن هذا الجهاد وذاك رسخ السلطان الحضري لعرب ذلك الزمان
والمفهوم أن قصة السندباد البحري هي أغرب قصة روتها السياحات البحرية، ولعلها أظرف وألطف من بعض قصص الإغريق، فهل تكون إلا من إنشاء حضرمي مفطور على مقارعة الأمواج فوق ألواح هي بالنسبة إلى بواخر اليوم خيوط من العنكبوت؟
وهنا لطيفة من اللطائف لم يتحدث بها متحدث، وهي ديباجة الشعر في مصر لآخر أيام العهد الفاطمي وأوائل العصر الأيوبي، وهي ديباجة أذاعها الشاعر عُمارة اليمني، وعن هذا الشاعر أخذ شاعرنا أحمد شوقي عبارة أو صورة سأذكرها يوم يجيء مكانها في هذه الأحاديث
ثم ماذا؟ ثم كان اليمن يد مصر في التعرف إلى الشرق البعيد، فبفضله وصلت السفائن المصرية إلى آفاق لا نعرف مداها اليوم إلا بأجنحة الخيال
ثم ماذا؟ ثم أعتذر لأستاذنا أحمد زكي باشا، فقد عبت عليه أن يقول في محاضراته بالجامعة المصرية إن صنعاء كانت في قوة باريس أو برلين
وهل حفظنا حق اليمن في التاريخ؟
قيل وقيل إن سقوط بغداد بأيدي المغول أوجب رحلات علماء العراق إلى مصر فكانت النهضات العلمية والأدبية بالديار المصرية
فأين من يذكر أن سقوط سد مارب أوجب رحلات العلماء من الجنوب إلى الشمال فكانت النهضات الأدبية والعلمية بالديار العدنانية؟
أجمع مؤرخو الأدب على أن امرأ القيس هو فاتحة الشعر العربي في العهد الجاهلي، ونصُّوا على أنه يمنيّ العِرق، فأين من يذكر أنه من كِنْدة؟ وأين من يذكر أن كندة كان لها محلة بالكوفة نُسِب إليها المتنبي فكان الكِندي؟
لنا في اليمن كلام يضيق عنه هذا المجال، وسنرجع إليه بتفصيل وتفاصيل
مكانة مصر بين الأمم العربية
في جرائد سورية وفلسطين ولبنان والعراق كلام كثير عن مكانة مصر بين الأمم العربية، وجرائد تلك البلاد تذكر بالخير مؤازرة مصر لفكرة الحِلف العربي
ويجب أن نذكر جميعاً أن ما يدور حول الوحدة العربية ليس إلا تمهيدات، ولا يعرف أحد متى تتحقق تلك الوحدة على الوجه المنشود
محاسبة النفس
بدأت أشعر بضجر في هذه الأيام، وأخذت أشعر بانقباض الصدر من حين إلى حين، فما سبب هذه الحال؟ وما هو الدواء؟
يخيل إلي - ولعل هذا هو الواقع - أني لا أؤدي حقوق القلم كما يجب، فأنا أتحامى شؤوناً كثيرة، وأسكت عن آراء لو دونتها لكان لها في عالم الفكر مكان
ويزيد في الضجر أن لحياتي ألواناً جديرة بأن تقدم أثمن الغذاء لقلمي، فكيف يفوتني أن أنتفع بتلك الألوان؟
قد يقال أن ظروف الحرب لها دخلٌ في الحدّ من الحرية القلمية، لأنها تقهرنا على مراعاة أمور لم يكن من الحتم أن نراعيها في أيام السلام
وهذا عذر غير مقبول، لأن الشؤون التي تمس الحرب ليست كل ما يعتلج في صدور الرجال، فهنالك معضلات إنسانية تساور العقول والقلوب في كل زمان، وهي معضلات لا تهادن الناس ولو كانوا في ميادين القتال
وربما قيل إن الشؤون التي تعفيها ظروف الحرب لا تعفيها ظروف المجتمع، فقد تكون الرقابة التي يفرضها الجمهور على الأقلام أقسى من الرقابة التي تفرضها الحكومات في أيام الحروب
وهذا أيضاً عذر غير مقبول، ففي مقدور المفكر أن يعالج شؤون المجتمع بأسلوب يخلق الحب ويبعد العِداء
يظهر أن الآفة هي في طريقة الطب للمجتمع، الطريقة التي تلبس ثوب السيطرة بأقلام الناصحين، ونحن في الأغلب ننسى أن في فطرة الناس ميلاً إلى الدفاع عما يتورطون فيه من ضروب الانحراف، ونجهل أن العنف في النصح قد يخلق للعيوب أنصاراً يجعلون سيئاتها حسنات
أنا موقن بأن سياسة القلم تعوزنا في أكثر ما نكتب، وسياسة القلم معنًى لم نلتفت إليه. ألا ترى كيف نقضي العمر في شقاق مع القراء؟
أين الذي حاول أن يقدم النصيحة المرة في كلمة مغلفة بمجاج النحل؟
وأين الذي واجه الجمهور بأسلوب منزه عن الاستعلاء؟
هذه الحال تشبه أن تكون مرضاً من الأمراض القلمية، وللأقلام أمراض
وأعترف بأن تحرير القلم من الآفات النفسية يحتاج إلى رياضات لا نقدر عليها في جميع الأحايين، لأن الرجل قد يقدر على محاسبة الجمهور ثم يعجز عن محاسبة النفس
وهنالك آفة أخطر وأفظع، وهي آفة المبالغة في تصوير الكمال الذي ننشده للإنسانية، كأن ننتظر أن يعيش الناس بلا أحلام ولا أوهام، وكأن نرجو أن يسلموا جميعاً من طغيان الأهواء، كأن الناصحين سلموا جميعاً من طغيان الأهواء!
أيكون من الخير أن ندعو إلى تجفيف البحار والأنهار ليأمن الناس الغَرَق؟
أم يكون من الخير أن نعلِّم الناس السباحة ونسكت عَن تجفيف البحار والأنهار؟
هنا مَناط المعضلة الأخلاقية، المعضلة التي حيَّرت كرائم الألباب
الشخصية اُلخلقية هي الشخصية المزوَّدة بموجبات الجذب والدفع، وهي الشخصية السليمة من الضعف، ولن تكون كذلك إلا حين تحارب في ميدان من ميادين الأهواء
ولهذه الفكرة شروح سنعود إليها يوم نستطيع محاسبة النفس على التهيب والترقب، ويوم يكون الصدق هو أشرف ما نسمو إليه في عالم البيان
معادن الأرواح والعيون
لكل روح معدن أو جوهر أو عنصر، إلى آخر الألفاظ التي تعبر عن الأصول
والأرواح توحي بأساليب لا تعرفها العيون، وهل كانت العيون إلا وسائل الأرواح في الإيحاء؟ أستغفر الحب، فقد قلت من قبل إن للعين وجوداً ذاتياً يستقل عن الروح بعض الاستقلال في بعض الأحيان
وما سِرُّ العيون على التحقيق؟
هل يعرف أحد كيف كُوِّنت تلك الخلائق اللطيفة بهذا الوضع اللطيف؟
الوجود كله مدين للعيون، فهي التي شهدت بما فيه من جمال وجلال، وهي التي قالت إنه وجود
وما هذا الصُّنع العجيب، صنع الله في إبداع العيون؟
ينقضي الدهر ولا ينقضي العجب من القدرة المطوية في سريرة مخلوق رقيق اسمه العين؛ وستمر أزمان وأزمان قبل أن يُعرف سر هذه الجارحة الظَّلوم
وما قدرة الطب في تعليل هذه القوة الصمدانية؟
هل يعرف كيف تنظر حتى يعرف كيف توحي، وهي أعجوبة الأعاجيب في النظر والإيحاء؟
ومع هذا فقدرة الأرواح أعجب وأغرب، فهي ترسل السهام من إقليم إلى إقليم، وقد تصادق وتعادي وأصحابها أموات في عرف الناس
ذلك المفكر الذي يعبر الآفاق لغزو العقول بعد أن تمر على موته آلاف السنين. ما سر قوته الروحية؟ ما سرُّه وقد اجتاز أسوار روما بعد ألفي سنة ليقتل أحد تلاميذي بالقاهرة؟
وذلك الشاعر الذي قال:
إذا نُشرَتْ ذَوائبُه عليه ... حسبتَ الماَء رفَّ عليه ظلُّ
هل كان يتوهم أن المطربة فتحية أحمد ستنقل خياله بالمذياع إلى جميع الأقطار العربية بعد أن نسيه القاهريون؟
سمعت هذا البيت مع الأستاذ سعد كامل فعجبنا من قدرة الأرواح على اختراق الأزمان
وقال الشريف الرضي:
سهم أصاب وراميه بذي سَلَم ... من بالعراق لقد أبعدت مرماكِ
فهل كان يخطر في بال الشريف أن هذا المعنى سيكون حقيقة لا مجازاً فيما سيخلف عصره بأجيال طوال؟ وقال شاعرٌ قديم:
غَنَّتْ سُلَيمى بالحجا ... زِ فأطربتْ من في العراق
فهل كان ينتظر ذلك الشاعر أن تصح نبوءته فأسمع من القاهرة صوتاً يغزو روحي وأنا في سهرة بمدينة النجف؟
لقد قضى ذلك الصوت بأن تكون ليلتي ليلاء، وأن أعود إلى بغداد وأنا مفطور الفؤاد
وما معنى قول البهاء زهير شاعر الفطرة المصرية:
إن حالي لعجيبٌ ... ما يُرى أعجب منه
كلُّ أرض لي فيها ... غائبٌ أسألُ عنه
أليس شاهداً على استبداد الأرواح بالقلوب، وإن تباعدت البلاد؟
أما بعد فهذه الكلمة تحية للروح التي يئست من وفائي، الروح التي ضَنَنتُ عليها بإعلان حبي، لتعيش في أمان من سفاهة الرقباء
يا مصدر الوحي، على رغم البعد واليأس، ويا روحاً هي الروح، ويا تحفة فنية صاغها الفنان المعبود، ويا من لا أسمِّي ولو سُئلتُ يوم الحساب في حضرة صاحب الجبروت، سلام عليك وألف سلام
أنت أمامي حيثما توجهت، وغضبك عليَّ أعذب من الرضوان يا مهاة لا تخطر إلا في البال
ثم أما بعد فأنا مؤمن باختلاف المعادن في الأرواح والقلوب، وروحك يا شقية هي الروح، وسبحان من لو شاء لجعلني من عينيك في أمان!
متى نلتقي على الشط، بالرمل، لأقول مع الشريف:
ولو قال لي الغادون ما أنت مشتهٍ ... غداة جزَعنا (الرمل) قلت أعود
قال بديع الزمان في المقامات على لسان أبي الفتح الإسكندري:
إسكندرية داري ... لو قرَّ فيها قراري
ويرى الأستاذ إسعاف النشاشيبي أنها إسكندرية مصر في مقال نشره بالرسالة وهو يحيي الشواربي باشا. ويرى الشيخ محمد عبده في شرح مقامات البديع أنها بلد بالأندلس، ورأيت بعيني وقلبي أن إسكندرية أبي الفتح بلد بالعراق فمتى نلتقي في إحدى الإسكندريات الثلاث، بغض النظر عن اختلاف الأقوال؟
إن رمل الإسكندرية هو (الرمل) الذي عناه الشريف، وسنلتقي هناك بعد أسابيع.
زكي مبارك