مجلة الرسالة/العدد 515/على هامش النقد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 515/على هامش النقد

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 05 - 1943



الأدب (المهموس)

والأدب الصادق

للأستاذ سيد قطب

حكاية أن (الأدب تعبير عن الحياة) حكاية معروفة من معاد القول الحديث عنها. وإن كان تفسيرها وتطبيقها لا يزالان موضع اختلاف عند استعراض النماذج. والنموذج في الفن أبلغ دائماً في بيان المذهب من النظريات العامة.

وقد تحدث الأستاذ (محمد مندور) في مقالات ثلاث بالثقافة عن (الشعر المهموس) ثم تحدث في العدد الماضي عن (النثر المهموس) وأعاد قصة (الشعر المهموس)

وفي جميع هذه الكلمات كان مندفعاً لأن يثبت أن أدباء المهجر هم (شعراء اللغة العربية) وأن (بين شعرهم وشعر الكثير من شعراء مصر قرونا) وكذلك نثرهم الشعري

وليس يسوءني ولا يسوء أدباء مصر أن يكون الأمر كذلك حقيقة، فالتعصب هنا لا محل له؛ ولكن الذي يهمني ويهم أدباء مصر ويهم الأدب في ذاته، أن (النماذج) التي جاء بها والدعوة التي يدعو بها إلى هذه النماذج هي توجيه مؤذٍ في فهم الأدب وفهم الحياة!

وأنا أفهم مثلا أن يحب الأستاذ مندور أو سواه لوناً خاصاً من ألوان الأدب، فتلك مسألة مزاج؛ ولكن الذي لا أفهمه أن يصبح هذا اللون الواحد دون سواه هو الأدب الصحيح الراقي المتقدم، وأن يكون ما عداه من الألوان مرة (سخيفاً) كما يقول عن شاعر كبير معاصر، وطوراً خطابياً كما يقول عن شاعر كبير قديم. . . فذلك ضيق في الإحساس، يجوز أن يقنع به قارئ يتذوق ويلذ له لون واحد من الغذاء الروحي؛ ولكنه لا يصلح لمن يتصدى للنقد والتوجيه

وما اللون المفضل الذي يدعو إليه الأستاذ؟

من جميع النماذج التي اختارها حتى الآن - والنموذج كما قلت أكثر دلالة من الشرح العام - أستطيع أن أسمي هذا اللون باللون (الحنيّن) حسب تعبير أولاد البلد من القاهريين!

الذي تحس فيه (بالحنيّة) أو بالهمس والوداعة الأليفة حسب تعبيره هو! وهذا الأدب الحنيّن قد يكون فيه الصادق السليم، وقد يكون فيه الكاذب المريض. ولكنه على كل حال لون واحد من ألوان الأدب، يعبر عن مزاج واحد من الأمزجة، في حالة شعورية واحدة من حالات الشعور

فإذا نحن جعلنا همنا أن نهمس فقط، وأن نكون وديعين أليفين فقط، وأن تكون الحنية هي طابعنا فقط؛ فأين نذهب بالأنماط التي لا تعد من حالات الشعور وحالات النفوس وحالات الأمزجة، في هذه الحياة الحافلة بشتى الأنماط؟

يسمي الأستاذ شعر المتنبي شعراً خطابياً، ويعني أن المتنبي لا يهمس ولا يلقي إلينا تعبيره في دعة وفي حنيّة أو في همس كما يقول مثلا ميخائيل نعيمة

أخي إن عاد بعد الحرب جندي لأوطانه

وألقى جسمه المنهوك في أحضان خلانه

. . . إلى الآخر

وإن الأستاذ مندور ليقف معجباً أمام صورة هذا الجندي المنهوك الذي يلقى بجسمه في أحضان خلانه، وهي صورة وديعة منهوكة قد تكون جميلة في مكانها؛ ولكن أي خطأ ينتظرنا حين نطالب المتنبي العارم الطبع، الصائل الرجولة، بأن يحدثنا في وداعة كوداعة ميخائيل نعيمة؟

أنا لا أحاول (مؤقتاً) المفاضلة بين الطبيعتين، ولكني أحاول فقط أن أقول: إن الصدق هو الذي يجب أن ننظر إليه حين نقف أمام عمل الشاعر أو الفنان بوجه عام. وإن المتنبي لصادق أجمل الصدق، وهو يجلجل ويصلصل في شعوره وفي أدائه، لأنه هو هكذا من الداخل. وتلك صورة لنفسه ولمزاجه، وإنها لنفس صادقة، وإنه لمزاج أصيل

يجب أن نوسع آفاقنا ولا سيما حين نقف موقف النقاد - فلا نحكم مزاجنا الخاص، الذي قد لا يكون أصدق الأمزجة، بل الذي قد يكون ثمرة (عقدة نفسية) أو حادثة عارضة من حوادث حياتنا الشخصية

وإنه ليستلفت نظري أن جميع النماذج التي استعرضها الأستاذ مندور هي من اللون الذي يشيع فيه الأسى المتهالك المنهوك. فهل أفهم أن هذه عناصر محببة إليه وحدها، وأن الشاعر لا يكون شاعراً حتى تشيع هذه العناصر في شعره؟ أعرض هنا تعبيراً أفلت منه، وله دلالة خاصة على هذا المزاج. ففي قصيدة (لنسيب عريضة) ساق الحديث هكذا:

يا نفس مالك والأنين؟ ... تتألمين وتؤلمين؟

عذبت قلبي بالحنين ... وكتمته. ما تقصدين؟

(وهانحن منذ المقطوعة الأولى في جو الشعر (فالنفس تئن)!

إذن كانت النغمة التي استرعت سمعه وجعلته يحس بأنه دخل في جو الشعر هي أن (النفس تئن). ولهذا دلالته، وهي الدلالة التي تنطق بها جميع مختاراته حتى الآن. وهو (مزاج) خاص له أن يتذوق ما يحبه من الألوان، ولكن ليس له أن يتولى مهمة النقد والتوجيه كما قدمت

وأريد أن أسأل: ألا ندخل في جو الشعر إلا إذا سمعنا هذا الأنين؟ و (الهمس) بالسرور والفرح والانطلاق؟ ألا يكون شعراً على هذا الأساس؟

إن الأستاذ مندور لم يقل هذا بالضبط، ولكن النماذج التي جاء بها جميعاً تكاد تنطق فذلك إذن توجيه مؤذ، يكاد الدافع إليه يكون دافعاً (مرضياً) وهو ما يدعو إلى الحذر الشديد!

ولا أحب أن أقف من الشعر المهموس والنثر المهموس موقف العداء المطلق كما وقف الأستاذ مندور من جميع ألوان الشعر الأخرى. وكذلك لا أريد (مؤقتاً) أن أفاضل بين هذا اللون وبين الألوان الأخرى.

ولكن هذا لا يمنعني أن أقول إنه كان موفقاً في اختيار بعض النماذج، وغير موفق في اختيار بعضها. فقصيدة (يا أخي) لميخائيل نعيمة وقصيدة (ترنيمة سرير) لنسيب عريضة يعدان نموذجاً طيباً لهذا اللون الذي يحبه. وأقول نموذجاً طيباً لهذا اللون بذلك القيد. ولكن ما عداها من مختاراته كان نماذج رديئة للشعر عامة ولهذا اللون من الشعر كذلك، لا في الأداء وحده، ولكن في حقيقة الشعور

والفرق بعيد والمسافة طويلة بين هذين النموذجين وبين سواهما. ولكن الذي يجمع بينه هو مجرد (الحنية) ومجرد الأسى المنهوك. ويهمني أن أبرز هذا المعنى إبرازاً خاصاً؛ فهو دليل عندي على هذه (الحالة الخاصة) التي أكاد أعزو إليها ولعه بهذا اللون، فهذه الحالة هي التي تجعله يستجيد كل ما ينطوي على هذه العناصر جيدة ورديئة على السواء. وهذا ما يدعوني للشك العميق في أن (مزاج) الأستاذ الخاص هو الذي يملى عليه آراءه لا ذوقه الفني

إن المسألة ليست مسألة ضيق في أفق الذوق الفني فقط، ولكنها (حالة مزاجية) خاصة تتحكم في هذا الأفق الضيق بطبيعته. وأخشى أن تكون حادثة ما أو عدة حوادث كامنة في ماضي الأستاذ مندور تتحكم في نفسه دون شعور. وهذا ما يدعو إلى الحذر الشديد في تقبل هذه الآراء!

وقصة (النثر المهموس)؟ إنها كقصة (الشعر المهموس). وأريد أن أقول للأستاذ مندور إن الفقرات الأخيرة من قطعة (يا أمي) لأمين مشرق هي فقرات طيبة في إحساسها وفي أدائها، ولكن الفقرات الأولى (تقليدية) من أدب (القوالب) المحفوظة. وكناقد كان يستطيع أن يفرق بين هذا وذاك؛ ولكنه كصاحب مزاج خاص لم يستطع التفرقة. ففيها جميعاً تشيع روح (الأسى المنهوك) وهذا يكفي!

وإذ انتهيت إلى هذا الحد أحب أن أعرض على الأستاذ مندور وعلى القراء ألواناً من الشعور البسيط الأليف الذي لا تفقده بساطته وألفته قوته وسلامته وصحته. وهو من عمل أدباء مصريين من أولئك المتخلفين قروناً في نظره

وهذا النموذج الأول لأديب شاب من رثاء لأمه: (وقد اخترتها لمناسبة قطعة أمين مشرق):

(من نحن اليوم يا أماه؟ بل ما نحن اليوم عند الناس وعند أنفسنا؟ ما عنواننا الذي نحمله في الحياة ونعرف به؟

(إننا لم نعد بعد أسرة، ولم يعد الناس حين يتحدثون عنا يقولون: هذه أسرة فلان. بل أصبحوا يقولون: هذا فلان. وهذا أخوه. وهاتان أختاه!

(اليوم فقط مات أبي؛ واليوم فقط أصبحنا شتيتاً منثوراً. وإني لأضم اليوم إلى صدري ابنكما وابنتيكما. أضمهم بشدة لأستوثق من الوحدة، وأشعرهم بالرعاية. ولكن هيهات هيهات. فأنا وهم بعدك أيتام يا أماه!

(لقد شعرت اليوم فقط بثقل العبء. وعلمت أنني لم أكن أنهض به وحدي، وأنني كنت أرعاهم وأرعاك معهم، لأنني قويٌّ بك. أما اليوم فالعبء فادح، والحمل ثقيل، وأنا وحدي ضعيف هزيل! (إن الشوط لطويل. وإني لوحدي في الطريق، وأخي وحده كذلك، وأختاي وحدهما أيضاً، وإن كنا نقطعه جميعاً!

والعش الذي خلفته ستظل فراخه زغباً مهما امتد بها الزمن، لأن يدك الرفيقة لا تمسح ريشها وتباركه، وكفك الناعمة لا تدرب أجنحتها على التحليق، وروحك الحنون لا تكلؤها في أجواز الفضاء!

نحن اليوم غرباء يا أماه

لقد كنا - وأنت معنا - نستشعر في القاهرة معنى الغربة في بعض اللحظات، وكنا نشبه أنفسنا بالشجرة التي نقلت من تربتها، والتي ينبغي لها أن تكثر من فروعها لتتقي الاندثار في غربتها!

أما نحن اليوم فغرباء في الحياة كلها. نحن الأفرع القليلة ذوى غصنها، بعد اغترابها من تربتها. وهيهات أن تثبت أغصان في التربة الغريبة. . . بلا أم!

(أماه. . .

من ذا الذي يقص عليّ أقاصيص طفولتي كأنها حادث الأمس القريب، ويصور لي أيامي الأولى فيعيد إليها الحياة، ويبعثها كرة أخرى في الوجود؟

لقد كنت تصورينني لنفسي كأنها نسيج فريد منذ ما كنت في المهد صبياً! وكنت تحدثينني عن آمالك التي شهد مولدها مولدي، فينسرب في خاطري أنني عظيم، وأنني مطالب بتكاليف هذه العظمة التي هي من نسيج خيالك ووحي جنانك! فمن ذا يوسوس إلي بعد اليوم بهذه الخيالات الساحرة؟ ومن ذا يوحي إليّ بعد اليوم بتلك الحوافز القاهرة؟

لمن أصعد درج الحياة بعدك يا أماه؟ ومن الذي يفرح بي ويفرح لي وأنا أصعد الدرج، ويمتلئ زهواً وإعجاباً وأنا في طريقي إلى القمة؟

قد يفرح لي الكثيرون. وقد يحبني الكثيرون. ولكن فرحك أنت فريد، لأنه فرح الزارع الماهر يرى ثمرة غرسه وجهده. . . وحبك أنت عجيب، لأنه حب مزدوج: حبك لي، وحب نفسك في نفسي. . .!

أماه. . .

عندي لك أنباء كثيرة. كثيرة جداً ومتزاحمة. تواكبت جميعها في خاطري على قصر العهد بغيبتك. وإنه ليخيّل إليّ في لحظات ذاهلة: أنني أترقب عودتك لأسمعك هذه الأنباء، وأحدثك بما جد في غيبتك من أحداث؛ وأنك ستسرين ببعضها وتهتمين ببعضها. . . وهي مدخرة لك في نفسي يا أماه. ولن تدب فيها إلا حين أقصها على سمعك. . . ولكن هيهات فسيدركها الفناء، وستغدو إلى العدم المطلق، لأنك لن تنصتي إليها مرة أخرى. . .

أماه. أماه. أماه. . .)

وموعدنا العدد التالي لتقديم نماذج أخرى من الشعر المصري (المتخلف قرونا)

سيد قطب