مجلة الرسالة/العدد 515/السعادة بعد الحرب
مجلة الرسالة/العدد 515/السعادة بعد الحرب
للأستاذ عباس محمود العقاد
طريقة الاستجواب في القضاء الإنجليزي معروفة يذكرها الذين حضروا المحاكم العسكرية بمصر أو قرءوا محاضرها، وهي طريقة يذهب فيها القضاة والمستجوبون مذاهب مختلفة، فيبيح بعضهم الإطالة في الجواب، ويشترط بعضهم أن يقتصر الجواب على كلمة واحدة بالإثبات أو النفي أو الامتناع: نعم أو، لا، أو، ممتنع، ولا زيادة
ويتفق كثيراً أن يتعذر الجواب بكلمة واحدة، ويشعر المحامون بذلك فيطلبون إلى المحكمة أن تأذن لموكلهم ببعض التفصيل. وأذكر من مراجعة إحدى القضايا الهامة في إنجلترا أن المحامي اعترض على توجيه سؤال إلى موكله يتعذر الجواب عليه بكلمة النفي وحدها أو بكلمة الإثبات وحدها، وذكر للقاضي أن بعض الأسئلة لا يجاب عليه بنعم ولا بلا دون تعقيب. فسأله القاضي مثلاً فأجابه المحامي: هبني سألت حضرة القاضي المحترم: ألا تزال تضرب امرأتك؟ فبماذا يجيب؟ إن كان لم يضربها قط ثم قال: (لا) ففي هذا النفي معنى الاعتراف بالضرب فيما مضى وإنكاره الآن. وإن قال: نعم فقد خالف الحقيقة. فكيف يكون الجواب بغير بيان الحقيقة بشيء من التفصيل؟
وعندي أن هذا الجواب القاطع إذا تعذر في الوقائع مرة فهو متعذر في الآراء والمعاني مرات. إذ يندر في الآراء والمعاني ذلك الفصل الجازم بين النفي والإثبات. وتكثر فيها المواضع التي تحتمل الجواب بنعم في بعض الأحيان وبلا في أحيان أخرى
ولكني سئلت منذ أيام جملة أسئلة يتقيد فيها الجواب بكلمة واحدة، ومنها: هل يصبح العالم بعد الحرب أسعد مما كان قبلها؟
فقلت: نعم. لأنه أصدق جواب في كلمة واحدة، لا لأنه أصدق جواب على الإطلاق
أما الجواب الأصدق الأوفى فهو مزيج من القولين يتراوح فيه الإثبات والنفي تارة إلى الزيادة وتارة إلى النقصان في أكثر من مكان
فالذي أعتقده أن العالم سيتقدم بعد الحرب في سبيل الحرية، وأن الحرية نعمة وتبعة في وقت واحد. فمن حيث هي نعمة فهي ولا ريب سعادة ينعم بها الإنسان؛ ومن حيث هي تبعة فهي ولا ريب باب للهموم والشواغل وقرينة للعناء الذي يغض من سعادة السعداء كل تقدم في الحياة فقياسه الأصدق الأوفى عندي زيادة التبعة لا زيادة السعادة
الرجل أقدر على التبعة من الطفل، والعالم أقدر على التبعة من الجاهل، والقوي أقدر على التبعة من الضعيف، والعظيم أقدر على التبعة من الصغير، وهكذا في كل باب من أبواب التقدم بغير اختلاف وبغير استثناء
أما مقياس السعادة فقد يختلف فيه هذا القياس أبعد اختلاف: قد يكون الطفل أسعد من الرجل، وقد يكون الجاهل أسعد من العالم، وقد يكون الضعيف أسعد من القوي، وقد يكون الصغير أسعد من العظيم؛ بل هذا على الجملة هو الأقرب إلى الواقع والمعهود
فالمرجو من عواقب الحرب أن يزداد نصيب الناس من الحرية، وأن يزداد نصيبهم إذن من التبعة، وهنا موضع المزج بين النعمة والعناء، وبين زيادة الرجاء وزيادة المخاوف والمقلقات
لكننا نحصر المسائل الكبرى التي يرجى أن يتناولها التغيير النافع بعد الحرب الحاضرة لنحصر موارد الخير والشر في المستقبل القريب جهد المستطاع
فلا نخالنا ننسى شيئاً كثيراً إذا حصرناها في ثلاث مسائل كبريات تشتمل على شتى الصغائر والفروع، وهي مسألة التجارة العالمية، ومسألة البطالة، والمسألة النفسية الأخلاقية التي يتفق كثيراً أن تجلب الشقاء لصاحبها وهو في غمرة الثروة والعمل المجيد
فمسألة التجارة العالمية كانت مورد الشر العميم من ناحية التنافس بين الدول على الأسواق وعلى الخامات
وقد نظر الأمريكيون والإنجليز في علاج هذه المشكلة فخرجوا منها بطريقتين لا يصعب التوفيق بينهما على ما بينهما من خلاف:
طريقة الأمريكيين، وهي تقوم على فتح الأسواق بغير تمييز بين الأمم، وعلى تثبيت العملة العالمية بضمان من الذهب والمعادن النفيسة تشترك فيه كل أمة بالمقدار الذي يناسب طاقتها التجارية
وطريقة الإنجليز، وهي تقوم على تعاون الأمم المشتركة في المصالح، وعلى تثبيت العملة العالمية بإنشاء مكتب دولي يتولى الموازنة بين الصادرات والواردات، أو بين المبيعات والمشتريات، على حسب الطاقة الاقتصادية التي تحتمل المراجعة والتعديل من حين إلى حين
وبين هاتين الطريقتين فرق في التنفيذ وإن كانتا في الجوهر أدنى إلى الاتفاق. ولكن المعول هنا على الضرورات العالمية التي لن تحكمها إرادة الأمم والحكومات. فإذا جاء دور التنفيذ فالمصلحة العالمية لها من القوة والرجحان ما يكفل لها الظهور والغلبة على كل إرادة، وهي خليقة أن تزيل الفروق وتقارب بين المسافات
أما مسألة البطالة فالتأمين الاجتماعي الذي تتسابق الحكومات المتحالفة في استنباط مشروعاته كفيل بتخفيف أعبائها عن كواهل الصناع والفقراء على الإجمال. وعلاج هذه المسألة ضرورة قومية في كل أمة لا محيص عن الاهتمام العاجل بها بعد تسريح الجنود واستئناف الصناعة الإنشائية للتعمير والترميم. وهذه الضرورة القومية وحدها هي التي تلجئ الدولة قسراً إلى علاج مشكلة التجارة العالمية؛ لأن المصانع لن تدار بغير تنظيم الخامات والأسواق، ومسألة البطالة والتأمين الاجتماعي لن تحل بغير إدارة المصانع وإعادتها إلى الإنشاء والتعمير، وهذه الضرورة العاجلة هي إحدى الضرورات التي قلنا إنها كفيلة بتنظيم التجارة بين الأسواق العالمية، وإنها أقوى وأقدر على الغلبة والظهور من إرادة الساسة والحكومات
أما المسألة النفسية أو المسألة الأخلاقية فهي في اعتقادنا أعضل هذه المسائل وادعاها إلى التفكير والتدبير
ومن بواعثها الكثيرة اختلال الأعصاب الذي ابتلى به ألوف الألوف من الجنود المشتركين في القتال، وابتلى به ألوف الألوف من السكان المروعين بالغارات وفقد الأعزاء
ومن بواعثها الكثيرة اختلال التوازن بين عدد الفتيان والرجال، وعدد الفتيات والنساء، واضطرار الملايين من النساء العاطلات إلى المغامرة في سوق العمل أو المغامرة في سوق الشهوات
ومن بواعثها الكثيرة فقد البيوت آباءها وعائليها وأركان التربية والخياطة فيها
ومن بواعثها الكثيرة ضغائن المغلوبين وآلام المستضعفين الذين داستهم القوة وفرّج عنهم النصر وهم لا يملكون منه إلا التشيع والاغتباط
ومن بواعثها الكثيرة خلو النفوس من المذاهب والعقائد التي تبددت في الحرب الحاضرة وعجزت عن إمداد النفوس بالثقة والعزاء
وأصعب ما في علاج هذه البواعث أنها لا تعالج بالقمع لأن كبت الأهواء هو الدال العضال لمن يصابون بمثل هذا المصاب؛ ولا تعالج بالإباحة لأن (المعاصي) كما قال الأباصيري تقوي شهوة النهم ولا تشبع الشهوات
إنما تعالج هذه الآفة بالإيمان و (إحياء الروح) التي تعصم نوازع الفساد في الأجساد
وإنما يتوطد هذا الإيمان بالإقبال على العمل المفيد، وإقناع كل من خامره الشك في مصير العالم بأن العالم يسعى إلى غاية مقصودة وغاية مستطاعة ولو في مرحلة منها بعد مرحلة، وأن الحرب لم تذهب عبثاً ولم يرجع الناس بعدها إلى مثل ما كانوا عليه قبل فناء ما فني وخراب ما خرّب وضياع ما ضاع وهو كثير لحد كثير. فإذا وجد الناس أنفسهم بعد الحرب عاملين مجتهدين، ووجدوا أن عملهم واجتهادهم عوض صالح لما فقدوه وأصيبوا به من الخسائر والقلق والعذاب، وأيقنوا أن الطامة الكبرى لم تذهب عبثاً في غير مغنم وفي غير صلاح وإصلاح، وأن داء الإنسانية ليس بالداء العضال الميئوس منه أبد الزمان، ففي هذا وأشباهه من دواعي الإيمان والعقيدة ما يبعث العزاء ويشحذ الهمم ويعصم الأرواح من مزالق الشهوات
وهنا تدور الحلقة المفرغة التي لا يُدرى أين طرفاها. فإذا عولجت مسألة التجارة العالمية عولجت مسألة البطالة والتأمين الاجتماعي. وإذا عولجت هاتان المسألتان ثابت النفوس إلى التفاؤل بمصير العالم وتهيأت القلوب للتصديق بغاية شريفة في الحياة، وظفر المصلحون النفسانيون ببلسم الجراح وأكسير الأمل وعنصر العقيدة التي تؤيدها المشاهدات العيانية ومطامح الآمال
ولك أن تقول إن النفوس إذا صدقت عملت وانشرحت لعملها، وإذا عملت وانشرحت لعملها لم تتعاظمها المصاعب ولم يعسر عليها تفريج الأزمات وفض المشكلات
فهما قولان متقاربان
وليس من الضروري أن نعرف أين الابتداء وأين الانتهاء في هذه الحلقة المفرغة. فإن النفس الإنسانية لن تعيش أبداً في طور من الأطوار خلواً من المزيج الذي تتلاقى فيه دواعي العمل ودواعي العقيدة، وبأيها ابتدأت فأنت واصل إلى نهاية تستحق عناء الوصول إليها
سيصبح العالم بعد الحرب أسعد مما كان قبلها، فإن شككت في ذلك فالذي لا أشك فيه أنه سيتقدم في سبيل الحرية والتبعة وهو غنم جليل يساوي خسارته في الحروب. ورجائي الذي يرجوه معي من يحبون الحياة ألا تقضي سعادة العالم بعد الحرب على أسباب شكواه، لأن القضاء على أسباب الشكوى قضاء على أسباب الحركة وأسباب التجديد وأسباب الطموح إلى المثل الأعلى.
عباس محمود العقاد