مجلة الرسالة/العدد 514/خيال الرافعي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 514/خيال الرافعي

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 05 - 1943



(هدية إلى روح الرافعي في ذكرى وفاته)

للأستاذ عمر الدسوقي

إذا تحامت الأقلام القديرة النقادة تراث الرافعي حتى اليوم، ولم تحاول عرض ما فيه من نفائس وعجائب على جمهرة المتأدبين في العالم العربي؛ ليكون لهم ينبوع إشعاع يلهم ألبابهم، ويستثير عقولهم، ويستحث خيالهم، ويحكم بيانهم؛ وإذا لم يتقدم بعد الناقد الضليع، والكاتب العبقري الذي ينفذ إلى نفسه العميقة وخياله المغرب، فيحلل أدبه، ويبوئه منزلته في سفر الخلود؛ فما أظن ذلك عن تهاون بهذه الذخيرة الفذة، ولكن هيبة ورهبة وفرط إعجاب

ومعذرة إلى الإمام الرافعي إذا تطاول يراعي إلى الخوض في أدبه، فلقد طال - علم الله - تردده وإحجامه، ووقف دهشاً يملكه البهر أمام هذا النور الفياض الذي هتك الخدور عن أبكار المعاني، وهذا الذهن الثاقب الذي نفذ إلى أسرار الحقائق فتخير أطيبها عنصراً، وأكرمها جوهراً، وأجملها رواء، ثم كساها البيان الساحر أكمل حلة، فغدت فتنة المتأمل ومحراب الأديب. وإنما حفز هذا اليراع - على ضعف منته، ووهن عدته - لتسطير هذه الكلمة ذكرى ارتحال الرافعي، عليه الرحمة والرضوان، إلى جنة الخلد. وهي نفثة إعجاب ووفاء، وإن ضن على الزمن بمعرفة شخصية إلا أني مدين لروحه الكبير بالشيء الكثير

وبعد، فما أخترت الكلام عن خيال الرافعي، لأنه أبرز ما فيه، وأجمل ما خلفه؛ ولكن لأن الرافعي نشأ شاعراً ملهماً مشبوب الخيال، ذا عبقرية فنية مبدعة، وهو وإن آثر النثر فيما بعد للإفصاح عما يختلج في نفسه من فكر ومعان، فقد لازمه خيال الشاعر في أكثر ما دبجه قلمه في الأدب الإنشائي؛ فكثير من مقالاته الوصفية قصائد نادرة في عالم الشعر والخيال؛ وهو مصور قدير دقيق الحس، يعرض لك المعنى البكر في أروع صورة وكأني به عنى نفسه إذ يقول: (أما الذهن العبقري فليس له من المعاني إلا مادة عمل فلا نكاد نلابسه حتى تتحول فيه وتنمو وتتنوع وتتساقط له أشكالاً وصوراً في مثل خطرات البرق)

وخيال الأديب النابغة له مظاهر شتى يتمثل فيها: فإما أن يصور ما في الطبيعة، وينقل عنها ويحاكيها؛ وليس سر نبوغه في هذا النوع جودة المحاكاة وإتقان التصوير، ولكنه يستشف من وراء ما يحاكيه أسراراً لا تخطر إلا له، ويختار مالا يقف عنده إلا عين شاعر، أو يحس جماله إلا ذوق فنان، ثم يعرضه للناس بعد أن ينفث فيه من شخصيته وموهبته، ويسبغ عليه من خياله وبيانه ما يجعله صورة جديدة نادرة المثال

وإما أن يكون مرآة مصقولة تنطبع فيها الصورة المختارة فتعكسها وتبرزها وحدها؛ ويكون سر نبوغه في حسن ذوقه واختياره، وفي صفاء نفسه وقدرتها على إظهار الصورة خالية من الشوائب واضحة مجلوة

وإما أن يخترع مالا وجود له في الخارج، ويخلق صوراً وأشكالاً هي وليدة عقله وصنع خياله، وبمقدار ما تكون مبتكرة جميلة أخاذة يكون تفوقه ونبوغه

وإما أن يوازن بين صور الطبيعة بعضها وبعض، وينظمها في سلك، ويأتي بالمفارقات التي تبهر العقول، ولا تتأتى إلا لصاحب الخيال الشرود، ومن تحسبه قد وضع الأشكال والمعاني بين يديه يؤلف منها ما يشاء، وينتقي منها كما يشتهي

وإما أن يوضح المعنويات بالمحسوسات، ويضرب الأمثال التي تقربها إلى الأذهان؛ وإما أن يتخيل في الجماد حياة فينطقه وينسب إليه - بالاستعارة والمجاز - وأفعال الأحياء، ويرتفع بالطبيعة إلى درجة الإنسانية، وكلما كانت استعاراته ومجازاته طبيعية محبوكة طريفة برهن على سر نبوغه

والرافعي رزق من سمو الخيال، وتوقد القريحة، وإرهاف الحس، وكمال الذوق، ما مكنه أن يبتكر في كل هذه الأنواع وأن ينمي الثروة الأدبية دون أن يجري في مضمار غيره من السابقين أو يسطو على معاني سواه. وإذا حاكى غيره فشخصيته وروحه تنفحان ما يأتي به سمة خاصة ترتفع به عن التقليد

ولقد عرف الرافعي الخيال الأدبي تعريفاً دقيقاً، وألزم نفسه في جل ما كتب أن تتمثله ولا تحيد عنها فيقول: (والخيال: هو الوزن الشعري للحقيقة المرسلة، وتخيل الشاعر إنما هو إلقاء النور في طبيعة المعنى ليشف به، فهو بهذا يرفع الطبيعة درجة إنسانية، ويرفع الإنسانية درجة سماوية)

وإذا كان الخيال سامياً، والمعاني التي ينفذ إليها رائعة جديدة قيمة، كان لا بد من صيغة تناسب ذاك الخيال وهذه المعاني، ولا بد من عبارة طلية قوية تزيد المعنى روعة، والخيال جمالاً. والرافعي كان معنياً بعبارته أتم العناية، يقدها وفق المعنى، ويأتي بها رصينة جميلة منتقاة الألفاظ؛ وفي هذا يقول: (ودورة العبارة الفنية في نفس الكاتب البياني دورة خلق وتركيب، تخرج بها الألفاظ أكبر مما هي، كأنها شبت في نفسه شباباً، وأقوى مما هي كأنما كسبت من روحه قوة، وأدل مما هي كأنما زاد فيها بصناعته زيادة)

ويقول: (والكاتب الحق لا يكتب ليكتب، ولكنه أداة ي يد القوة المصورة لهذا الوجود تصور به شيئاً من أعمالها فناً من التصوير)

أقرأت مقالة (الربيع) في (وحي القلم)! ألا تحس كأن الرافعي اتحد بالطبيعة، وفهم لغتها، فجاءت إليه بأسرارها ثم جاء يترجم عنها فنقل ما لم يتح لكاتب قبله!. أسمعه يقول: (خرجت أشهد الطبيعة كيف تصبح كالمعشوق الجميل لا يقدم لعاشقه إلا أسباب حبه، وكيف تكون كالحبيب يزيد في الجسم حاسة لمس المعاني الجميلة!)

ويقول: (لاحت لي الأزهار كأنها ألفاظ حب رقيقة مغشاة باستعارات ومجازات، والنسيم حولها كثوب الحسناء على الحسناء، فيه تعبير من لابسته، وكل زهرة كابتسامة تحتها أسرار وأسرار من معاني القلب المعقدة). ويقول: (ويكون الهواء كأنه من شفاه متحابة يتنفس بعضها على بعض)

ولا يتسنى لي في هذه الكلمة الموجزة أن أحلل وأعلق وأبين مطارح الجمال في عباراته وخياله، وحسب القارئ أن يتأمل ويتذوق ويحكم. إن الرافعي تمثل الطبيعة عاشقة جميلة تترضى حبيبها، ولها من القدرة والغنى ما يمكنها من إرضائه، بل لا يظهر منها إلا ما يرضيه ويفتنه؛ وتأمل قوله: (أسباب حبه) وفسرها كما تشاء، وعلل لماذا اختار الرافعي هذه الكلمة دون سواها؛ الآن أسباب الحب شتى من عطف وجمال وزينة وإبهاج. . .

وانظر كيف رأى الأزهار (ألفاظ حب رقيقة)، وهل رأيت تشبيهاً أحلى وأرق وأوفق من هذا التشبيه؟ أو لا تراه لا يزال على خياله من أن الطبيعة حبيبة تبادله ألفاظ الحب الرقيقة على لسان أزهارها المختلفة الشكل واللون والشذى؟

ثم تأمل كيف يصور الشتاء فيقول: (وكانت الشمس في الشتاء كأنها صورة معلقة في السحاب، وكان النهار كأنه يضيء بالقمر لا بالشمس، وكان الهواء مع المطر كأنه مطر غير سائل، وكانت الحياة تضع في أشياء كثيرة معنى عبوس الجو، فلما جاء الربيع كان فرح جميع الأحياء بالشمس كفرح الأطفال رجعت أمهم من السفر!)

تالله إن هذا وصف يفسده الشرح وأولى به أن يترجم ويذاع بين أمم الأرض ليبرهن على أن الأمة العربية لم تصب بالعقم في الخيال كما يدعي المفترون، وأن فيها أمثال شكسبير، وجيته، وهوجو، وأناتول فرانس.

أقرأت مقالة (عرش الورد) في زفاف ابنته؟ ألا ترى أنه يستشف من وراء الموصوفات أسراراً لا يقف عليها إلا العباقرة الملهمون؟

أسمعه يصف تاج الورد الذي عقد حول عرش العروسين: (وتنظر إليه يسطع في النور بجماله الساحر سطوعاً يخيل إليك أن أشعة من الشمس التي ربَّت هذا الورد لا تزال عالقة به)

أو أسمعه يصف لون الكرسيين اللذين نُصَّا على العرش: (ويكسوهما طراز أخضر تلمع نضارته بشراً، حتى لتحسب أنه هو أيضاً قد نالته من هذه القلوب الفرحة لمسة من فرحها الحي)

ليت شعري! أكانت للرافعي حاسة زائدة يقف بها على هذه الأشياء فيرى أشعة الشمس لا تزال عالقة بالورد وسط الليل، ويلمس فرحة الطراز الأخضر، أم هو خياله الخصب ونشوة السرور صَّورا له ما رأى!

ويقول: (وأقبل العذارى يتخطرن في الحرير البيض كأنه من نور الصبح، ثم وقفن حافات حول العرش حاملات في أيديهن طاقات من الزنبق، تراها عطرة بيضاء ناضرة حيية كأنها عذارى مع عذارى)

وما أشبه الزنبقة بالعذارى الهيفاء في لينها، وهيفها، ونضارتها ورائحتها وطهارة قلبها!

وماذا عساي أن أقدم إليك من هذه القصيدة المثالية، وحسبي ما اقتطفت منها وعليك بالرجوع إليها والوقوف لديها ملياً؛ لتحملك على أجنحة الخيال إلى عوالم من السحر والفتنة والفن. . .

أقرأت مقال (البحر) و (الربيع الأزرق)، تأمل في قوله: (والقمر زاه رفاف من الحسن كأنه اغتسل وخرج من البحر)، وقوله: (نظرت إلى هذا البحر العظيم بعيني طفل يتخيل أن البحر قد مليء بالأمس وأن السماء كانت إناء له فانكفأ الإناء فاندفق البحر، وتسرحت مع هذا الخيال الطفلي الصغير فكأنما نالني رشاش من الإناء)

وقوله: لطف الجمال صورة أخرى من عظمة الجمال، عرفت ذلك حينما أبصرت قطرة من الماء تلمع في غصن فخيل إلى أن لها عظمة البحر لو صغر فعلق على ورقة)

وقوله: (الحياة في المدينة كشرب الماء في كوب من الخزف، والحياة في الطبيعة كشرب الماء في كوب من البلور الساطع، ذاك يحتوي الماء، وهذا يحتويه ويبدي جماله للعين. . .

هذه صور من ذياك الخيال الفريد الفياض فيها ابتكار، وفيها جمال وفيها دقة وروعة؛ وأكتفي بعرضها فهي غنية عن التوضيح، ولعلها تنبه بعض أدبائنا إلى ما عليهم من التبعة إزاء هذا الأدب الرفيع.

عمر الدسوقي