مجلة الرسالة/العدد 510/مصر والوحدة العربية
مجلة الرسالة/العدد 510/مصر والوحدة العربية
قلنا في افتتاحية السنة الحادية عشرة من حياة الرسالة:
إن الاتحاد العربي على أي صورة يوشك أن يكون مقصداً من مقاصد الحكم في هذا العهد. ولقد قام في سبيل هذا المقصد ما قام منذ تصدع شمل الأمة العربية، من بواثق الاستعباد وعوائق الاستعمار وما تجره سياسة الغزاة من انقطاع الأسباب بين الأخوة، وتشعُّب الآراء بين القادة. فلما تعارضت منافع الأمم المستعمرة، ووثبت النازية تريد استعباد الأمم لأنها بطبيعة عنصرها على زعمها سيدة، وزحفت الفاشية من ورائها تبغي استغلال البلاد لأنها بطبيعة أرضها فقيرة، رأت الديمقراطية التي تجاهد في سبيل السلام والحرية والمدنية بجانب جهادها في سبيل نفسها، أن تستعين فيما تستعينُ على هذا الطغيان الكافر المسلح بقوى العرب المتفرقة؛ فأعلن وزير الخارجية البريطانية في مجلس العموم البريطاني: (أن حكومته تنظر بعين العطف إلى كل حركة بين العرب لتعزيز وحدتهم الاقتصادية أو الثقافية أو السياسية؛ ولكن من الجلي أن الخطوة لتحقيق هذا المشروع يجب أن تكون من العرب أنفسهم. والذي أعرفه أنه لم يوضع إلى الآن هذا المشروع الذي سينال استحساناً عاماً)
وبهذا التصريح الرسمي العلني زالت الحوائل السياسية التي كانت فيما مضى تجعل الكلام في الوحدة العربية حُلماً يُرى وشعراً يقال، فإذا تنفس الصبح بالحلم تبدد، وإذا انتهى الشعر إلى الفعل كذب. وكان من غير المعقول أن يرى العالم العربي الخطوب تتواثب على جوانبه، والنوازل تتفاقم في أحشائه، ثم تظل كل دولة من دوله سادرة في مشاعب هواها دون أن تعالج ضعفها بما تعالج به الطبيعة ضعف النمل والنحل من التجمع والتعاون؛ فما هو إلا أن غامت الآفاق العربية بخطوب الحرب حتى شعرت كل دولة عربية بما تشعر به الشاة الشاردة عن القطيع، فتضاموا من الخوف ليتقي بعضهم ببعض سوء المصير؛ وهبَّ الزعماء المخلصون يقوون ما وهن من صلة الدم ونسب الروح، فسهلوا تزاور الأقرباء، وشجعوا تبادل الآراء، وقرروا توحيد الثقافة. ثم كان من توفيق الله لهذه الوزارة القائمة أن تخطو في سبيل الوحدة العربية هذه الخطوة التي كان ينتظرها وزير الخارجية البريطانية، وأن يسجل صاحب المقام الرفيع رئيسها هذه الخطوة المباركة في مجلس الشيوخ بقوله: (. . . منذ أعلن المستر إيدن تصريحه فكرت فيه طويلاً. ولقد رأيت أن الطريقة المثلى الت يمكن أن توصل إلى غاية مرضية، هي أن تتناول الحكومات العربية هذا الموضوع. وانتهيت من دراستي إلى أنه يحسن بالحكومة المصرية أن تبادر باتخاذ خطوات رسمية في هذا السبيل، فتبدأ باستطلاع آراء الحكومات العربية المختلفة فيما ترمي إليه من آمال، كل منها على حدة؛ ثم تبذل الحكومة المصرية جهودها في التوفيق والتقريب بين آرائها ما استطاعت السبيل إلى ذلك؛ ثم تدعوها جميعاً إلى مصر في اجتماع ودّي لهذا الغرض، حتى يبدأ المسعى للوحدة العربية من وجهة متحدة بالفعل. فإذا ما تم التفاهم أو كاد، وجب أن يعقد في مصر مؤتمر برياسة رئيس الحكومة المصرية لإكمال بحث الموضوع واتخاذ ما يراه من القرارات محققاً للأغراض التي تنشدها الأمم العربية.
(. . . وقد أخذتُ أنفذ هذه الخطة، فوجهت بالفعل إلى رئيس حكومة العراق دعوة رسمية. . . حتى إذا ما وافق فخامته على هذه الخطوات بحثنا رأي العراق في هذا الموضوع من جهاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وسأوجه بعد ذلك الدعوة تلو الدعوة إلى الحكومات العربية وأستقصي من مندوبيها واحداً بعد واحد رأيها في الموضوع نفسه. فإذا ما انتهيت من هذه المباحثات التمهيدية ورأيت منها ما يبشر بالنجاح كما أرجو، دعت الحكومة المصرية إلى عقد المؤتمر في مصر. . .)
وبهذا التصريح الرسمي الآخر أصبح السعي للوحدة العربية حقيقة من حقائق السياسة لا خيالاً من أخيلة الشعر، وعملاً رسمياً من أعمال الحكومات لا أملاً وهميَّا من آمال الأفراد.
وظنُّ العروبة بحكامها وأعلامها أن يخلصوا لها السعي والرأي في هذه المحنة العالمية التي عبثت الشياطين فيها بأنظمة الكون، فاختل التوازن، واضطرب العيش، وذل الحق، وأفلس المنطق. ولا جرم أن سلامة العروبة وحريتها في أن تكون يوم يجتمع الناس للصلح القريب أو البعيد، وحدةً سياسية تنتظم دولها جمعاء من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي، وجملتها لا تقل عن ثمانين مليون نفس. ذلك لأن الدويلات الضعيفة كان لها فيما مضى من الزمن السعيد حارس من سلطان الدين وحكم القانون وعرف السياسة. فكانت تعيش في ظلال الخلق الإنساني العام حرة آمنة، لا تجد من جاراتها الكبرى إلا ما يجده الصغير من عطف الكبير، والفقير من عون الغني. فلما نُكس بعض أمم الحضارة وعاودها داء الهمجية الأولى فتحلبت أشداقها على حدود هذه الدول الصغيرة، لم يعد لها عاصم من عدوانها إلا أن ينضم بعضها إلى بعض، ويتقوى بعضها ببعض.
أما نوع هذا الاتحاد فقد كنا اقترحنا في عدد مضى من الرسالة أن يكون على مثال الاتحاد الأمريكي؛ ولكن تحقيق ذلك الاقتراح يقتضي من الوقت والجهد والاستعداد والمرونة ما لا يحتمله الزمن المضطرب ولا تسعه الفرصة العجلى. إذن فلتكن بداية هذا الأمر مثلاً أن تؤلف عصبة من الدول العربية في القاهرة على نحو ما كانت عصبة الأمم في (جنيف) لتقرب المصالح الخاصة، وتوحد المآرب العامة، وتوجه السياسة المشتركة، ثم تستعد للصلح المقبل، وتمهد للاتحاد التام.
على أن في المؤتمر الذي اقترحته مصر ودعت إليه مطالعةً لحال العرب: تُستشف فيه الدخائل، وتُكشف به الحوائل، وتُستنبط له الوسائل؛ فلندع مواضعة الرأي لأولئك الذين ادخرهم الله لهذا المسعى الخطير الذي لم يُتح لأحد بعد محمد؛ ثم لنقف نحن بجانب التاريخ نرصد وننقد ونسجل.
احمد حسن الزيات