مجلة الرسالة/العدد 51/في الأدب الفرنسي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 51/في الأدب الفرنسي

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 06 - 1934


8 - الدوق دي لارشفوكو

للدكتور حسن صادق

ولكي يخفف من حدة الإنكار قال في مكان آخر من كتابه (الحسد تقضي عليه الصداقة الحقيقية) (موعظة رقم 376).

(مهما يكن الحب الصحيح نادراً، فانه أقل ندرة من الصداقة الخالصة) (موعظة رقم 473). أيأنه يؤمن بندرة الصداقة النقية ولا ينكرها إنكاراً تاماً.

وحكمه على الصدق والوفاء ليس بأقل غرابة من حكمه على الفضائل السابقة: (الصدق هو إخلاص القلب ولا يتصف به إلا عدد قليل من الناس. أما الصدق الذي يرى عادة فهو مداهنة بارعة ترمي إلى اكتساب ثقة الغير) (موعظة رقم 62) (بغض الكذب هو في الأغلب طموح دقيق غير محسوس إلى جعل أقوالنا تكسب منزلة رفيعة واحتراماً كالذي يلهمه الدين) (موعظة رقم 63) (الوفاء الذي يبدو من كثرة الناس هو حيلة ابتكرها حب الذات لاجتذاب الثقة) (موعظة رقم 247).

ولنذكر الآن ما قاله عن الحب: (لا يوجد إلا نوع واحد من الحب، ولكن منه صور زائفة لا حصر لها) (موعظة رقم 74) (الحب كالنار لا يستطيع أن يحتفظ بوجوده إلا بالحركة المستمرة. ويصيبه العفاء في اللحظة التي يكف فيها عن أن يأمل أو يخشى) (موعظة رقم 75) (مثل الحب الصحيح كمثل ظهور الأشباح، جميع الناس يتكلمون عنها، ولكن قليلاً منهم من رآها) (موعظة رقم 76) (كثير من الناس لو لم يسمعوا أحاديث الحب، لما أحبوا) (موعظة رقم 136) (الغياب يخفف من وطأة الأهواء الضعيفة ويورث نار الأهواء القوية، كالريح تطفئ الشمعة وتوقد النار) (موعظة رقم 276) (إذا اعتقد الإنسان انه يحب صاحبته فهو مخطئ) (موعظة رقم 374).

ثم قال عن الغيرة: (الغيرة تستمد غذاءها من الشك، ويمحوها اليقين) (موعظة رقم 32) (مبلغ ما في الغيرة من حب الذات، اكثر مما فيها من الحب) (موعظة رقم 324) (الغيرة أكبر الشرور، واقلها استدراراً لشفقة الذين ينسجون أسبابها) (موعظة رقم 503)

وهذا الرجل الذي كان يبجل النساء في حضرتهن، ولا يقول كلمة تؤذي شعورهن، ق عليهن في مواعظه: (تمنع النساء نوع من الزينة يضفنه إلى جمالهن) (موعظة رقم 204) (عفة النساء هي في الأغلب الحرص على سيرتهن وراحتهن) (موعظة رقم 205) (الغرور وخشية العار وعلى الأخص المزاج، تعمل في الأغلب قيمة الرجال وعفة النساء) (موعظة رقم 220) (الكثرة من النساء يبكين عشاقهن الذين يقضون نحبهم، لا لأنهن أحببن هؤلاء العشاق، ولكن ليظهرن أنهن جديرات بالحب) (موعظة رقم 362) (قليل من النساء الشريفات من لم يسأمن عفتهن) (موعظة رقم 367) (كثرة النساء الشريفات كنوز مخبأة، ليست في مأمن من العبث إلا لأن الرجال لا تبحث عنها) (موعظة رقم 368) (الخليعات يفخرن بغيرة عشاقهن ليخفين الحسد الذي يضمرنه لغيرهن من النساء) (موعظة رقم 406).

وحكمه على التواضع ليس بأقل قسوة من حكمه على العواطف والفضائل السابقة (لا يمدح الإنسان غيره عادة إلا ليمدح) (موعظة رقم 196) (قليل من الناس من يملك الحكمة التيتجعلهم يفضلون النقد الذي ينفعهم على الثناء الذي يخدعهم) (موعظة رقم 197) (رفض الإنسان المديح معناه الرغبة في ان يمدح مرتين) (موعظة رقم 199).

ويستمر لاروشفوكو في أحكامه على الأعمال والفضائل الإنسانية حتى يصل إلى هذا الحكم العام (تدخل الرذائل في تركيب الفضائل، كما تدخل السموم تركيب الدواء، التبصر يجمعها ويخفف من وطأتها ويستخدمها بنفع في مغالبة شرور الحياة وآلامها) (موعظة رقم 182).

وهو يعتقد أن الإنسان في حياته عبد لأهوائه وليست الإرادة شيئاً مذكوراً (في القلب جيل من الأهواء لا يفني، حتى أن زوال أحدها هو في الواقع طغيان هوى آخر عليه) (موعظة رقم 10). فالنضال الذي نعتقد انه قائم في دخيلتنا بين الهوى والعقل، بين الرغبة والواجب، هو سراب محض. (الحظ والشرف يحكمان العالم) (موعظة رقم 435) (مهما يفخر الناس بأعمالهم العظيمة، فإنها في كثير من الأحيان ليست نتيجة تدبير عظيم، ولكنها نتيجة المصادفة) (موعظة رقم 57) (جمع صفاتنا تقريباً تحت رحمة الظروف) (موعظة رقم 170) (يخيل إلى أن لأعمالنا نجوماً سعيدة وأخرى شقية ندين إليها بكثير من الثناء أو اللوم الذي يوجه إلينا) (موعظة رقم 58).

وإذا كانت المصلحة الذاتية تقود الفرد والجماعة، فكيف نفسر هذا الشعور المعقد الذي يتبع ارتكاب أعمال مضادة للفضيلة، وهو الندم؟ يفسر لاروشفوكو الندم الخارجي، أي الاعتراف بالزلل بقوله: (إننا نعترف بخطايانا لنصلح الفكرة السيئة التي علقت بأذهان الغير عنا) (موعظة رقم 184). ويفسر الندم الباطني بقوله: ندمنا ليس أسفاً للشر الذي فعلنا بقدر ما هو خوف شر يصيبنا من جراء ما فعلنا) (موعظة رقم 180).

وبما أن المنفعة هي غرض الإنسان الوحيد، إذن يكون الخير الوحيد هو الخير المحسوس في إغفاله. وبما ان الموت هو نهاية كل شر، إذن الموت اكبر شر: (الشمس والموت لا يستطيع الإنسان ان يحدق فيهما) (موعظة رقم 26).

وقد ظن بعض الناس أن لاروشفوكو يستعمل هذه الكلمات: في الاغلب، عادة، تقريباً، كثرة الناس، لياقة ومجاملة حتى يعتقد كل قارئ انه من المستثنين، ولكنه يستعملها على الأرجح لأنه يؤمن بوجود الفضيلة الخالصة، ولكنها نادرة. والدليل على ذلك انه لا يذكرها في بعض مواعظه. ولنضرب مثلاً: (الصدق إخلاص القلب. . . موعظة رقم 62) فهو لا ينكر وجود الصدق، ولكنه يؤمن بندرته. وهو يتعدى بطريقته إلى كشف اللثام عن الفضائل الكاذبة التي يدعيها اكثر الناس.

ومواعظ لاروشفوكو على قسوتها تنفع الإنسان لأنها تجعله يتأمل نفسه ويراقب فضائله ويطهرها من الرذائل التي تختلط بها.

ولهذه المواعظ اثر كبير في تفكير فلاسفة أوربا النابهين أمثال كانت، وشوبنهور، ونيتشه، وبنتام، وستيوارت مل، وبييربايل وهلفسيوس وغيرهم. وسنتحدث عن هذا الأثر في فرصة أخرى أن شاء الله.

تم البحث

حسن صادق