مجلة الرسالة/العدد 509/على هامش (أحلام شهرزاد)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 509/على هامش (أحلام شهرزاد)

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 04 - 1943


2 - قضية اليوم

للأستاذ دريني خشبة

قالت فاتنة: (أكتب يا صاحبي. . . أكتب. . . أكتب ولا تظنن أن الذي تكتب سيغضب صاحب شهرزاد أو المعجبين بصاحب شهرزاد وما أظنك إلا كنت واحداً منهم، إن لم تكن ما تزال واحداً منهم. . . ثق يا صاحبي أن مبدع شهرزاد لا يخرجه نقد ما أبدع لأنه أخذ على نفسه عهداً بأن يُنفِّذ فيها أحكام الزمان، قاضية في (القصر المسحور). وهل نسي القراء بعد ذلك الحكم الذي أصدره الزمان - القاضي العادل - على مبدع شهرزاد، في الفصل الأخير من القصر المسحور؟ إن كانوا قد نسوا هذا الحكم فاكتبه هنا لهم عساه أن ينفعهم فيما نحن بسبيله اليوم من أمر تلك القضية التي أحدث ضجتها الخرّاصون وأرجف بها المرجفون. . .

حكم الزمان: (والآن وقد سمعنا ادعاء المدعين ودفاع المتهم الأول، ولاحظنا اعتزال من اعتزل وعدول من عدل عن الاتهام، نقرر أن من حق الأديب أن ينشئ أشخاصه كما يريد هو لا كما يريدون هم، بل إن من الحق على الأديب أن يتلقى أشخاصه كما يؤديهم إليه فنه، لا يغير من صورهم التي تلقاهم عليها ولا يبدل، ولو حاول ذلك لما استطاعه ولما وجد إليه سبيلاً.

ولمن شاء أن ينكر عليه أو على فنه هذه الصورة كلها أو بعضها، وأن يعيب عليه أو على فنه ما يكون فيها من ضعف أو نقص أو تشويه، وما ينبغي لهذه الأشخاص نفسها أن تثور بمنشئها أو تمكر به أو تكيد له أو تتألب عليه، أو تبغي له سوءاً أو تستنزل عليه عقاباً؛ فإن فعلت فهي طاغية يجب أن ترد عن طغيانها، وباغية يجب أن تصد عن بغيها، وجامحة يجب أن يكبح جماحها، ومنشئها وحده هو القادر على ذلك. وسبيله إليه ترقية فنه وتجديده واصطناع الأناة والدقة والإتقان في التصوير والتعبير جميعاً. ولما كان المتهم نفسه قد أعلن تواضعه واعترف بقصوره وسلم بأنه في حاجة إلى أن يسعى ويطيل السعي، وإلى أن يجد ويمعن في الجد، لا ليبلغ الكمال، بل ليدنو منه.

ولما كنا نقدر للمتهم تواضعه وطموحه إلى الكمال، واعترافه ببعد الأمد أمامه؛ ولما كن نحرص على أن نمنحه المعونة على ما يريد من الرقي الفني فقد قضينا أولاً بإسقاط دعوى المدعين، وتبرئة المتهم مما وجه إليه ثانياً. . . بنفيه عن سالتش الخ. . .)

وحسب القراء يا صاحبي هذا القدر من حكم الزمان الذي ارتضاه صاحب (شهرزاد) ورضي أن ينشر في قصة (القصر المسحور) التي اشترك في إبداعها مع صاحب (أحلام شهرزاد) وليس القراء في حاجة إلى أن نذكرهم بأن هذا الحكم الذي أصدره الزمان القاضي العادل، هو حكم أملاه على الزمان صاحب (أحلام شهرزاد) وكان حريصاً فيه على أن يرسم لشريكه السبيل إلى (ترقية فنه وتحديده واصطناع الأناة والدقة والإتقان في التصوير والتعبير جميعاً)، وكان جميلاً من صاحب (أحلام شهرزاد) أن يسجل على شريكه: (تواضعه واعترافه بقصوره وتسليمه بأنه في حاجة إلى أن يسعى ويطيل السعي، وإلى أن يجد ويمعن في الجد. . . لا ليبلغ الكمال. . . بل. . . ليدنو منه) وأن يقدر له تواضعه وطموحه إلى الكمال، واعترافه ببعد الأمد أمامه). وحرصه على أن يمنحه (المعونة على ما يريد من الرقي الفني)

فهل تخشى بعد ذلك يا صاحبي أن يغضب صاحب شهرزاد إذا كتبت في قضية (أحلام شهرزاد) كلمة ترد بها الحق إلى نصابه؟ وماذا يغضب صاحب شهرزاد كما يخرص الخراصون ويرجف بالباطل المرجفون، وقد اشترك في نشر هذا الحكم الذي ذاع من أبراج القصر المسحور ولم يشترك في نشره إلا بعد أن قبله ورضي ما جاء به، ولم يعقب عليه بكلمة؟ الحق أن صاحب شهرزاد أعظم من أن توغر صدره الكريم نفثات المبطلين المصدورين. . . بل واجبه أن يصفع بالحقائق التي وردت في ذلك الحكم أقفيتهم؛ لأنه عرفها قبل أن يعرفها أحد قبله، وأذعن لها قبل أن تذيع في الناس.

وبعد فقد كان هذا الحكم تعقيباً على قصته - أو مسرحيته الرومانتيكية - شهرزاد، فهل كان فن هذه المسرحية ناقصاً؟ وهل كان في حاجة إلى التجديد واصطناع الأناة والدقة والإتقان في التصوير والتعبير جميعاً؟ وهل نحن الذين يطلب إليهم أن يجيبوا على ذلك؟ وكيف وقد اعترف صاحب شهرزاد بقصوره وسلم بأنه في حاجة إلى أن يسعى ويطيل السعي، وإلى أن يجد ويمعن في الجد. . . لا ليبلغ الكمال، بل ليدنو منه. . . إلى آخر ما جاء في عقابيل هذا الحكم من ألفاظ التواضع وبعد الأمد وحاجته إلى معونة ثابتة من الخارج على ما يريد من الرقي الفني. . . الخ.

هل نجيب أو لا نجيب؟ وهل يقف ما اعترف به صاحب شهرزاد بيننا وبين ما نريد أن نقول؟ وهل من حقنا أن نقول شيئاً بعد هذا؟ وهل نستطيع أن نخالف عن أمر الزمان وأن نثور بأحكامه؟

أجل، نحن نستطيع أن نفعل ذلك، فقد جاء في هذا الحكم الإذنُ (لمن شاء أن ينكر عليه (على الأديب) أو على فنه هذه الصورة كلها أو بعضها، وأن يعيب عليه أو على فنه ما يكون فيها من ضعف أو نقص أو تشويه). . . وعلى هذا فلنا أن نتناول نقد شهرزاد بما نشاء من كل ضروب النقد، ضامنين ألا يغضب مبدعها كما يحاول المرجفون المبطلون أن يحملوه على الغضب، بما يوهمونه من السطو على بضاعته، وادعاء ما هو حق خالص له.

ولكن. . . هل كان فن (شهرزاد) ناقصاً؟ وهل كان في حاجة إلى التجديد واصطناع الأناة والدقة والإتقان في التصوير والتعبير جميعاً؟ وكيف اعترف صاحب شهرزاد بذلك، واعترف معه بقصوره وبأنه في حاجة إلى أن يسعى ويطيل السعي، وإلى أن يجد ويطيل الجد. . . لا ليبلغ الكمال. . . بل. . . ليدنو منه؟! أما نحن فنخالف صاحبي (القصر المسحور) في كثير من ذلك، ونوافقهما في بعضه. . . إذ نشهد أن (شهرزاد) قطعة فنية رائعة من حيث الفن الأدبي الخالص لوجه الفن، لا لوجه الحياة. . . ومن حيث أنها تصور مذهباً في الأدب يأخذ به كاتبها نفسه، ويتحمس له، ولا يرى أن يحيد عنه. . . أليس قد اشترك مع عميد الأدب العربي في (القصر المسحور) فأبى إلا أن تكون له شخصيته المستقلة البارزة إلى جانب شخصية العميد التي تختلف بأسلوبها وتتفرَّد بسردها وتتخذ إلى قلوب القراء طرائقها المألوفة المعروفة. . . وعندنا أن شهرزاد من حيث الفن ليست في حاجة إلى ترقية ولا إلى تجديد. . . فقد بلغت من ذلك الكمال. وهذا حق لا ريب فيه. أما الذي نثور من أجله على (شهرزاد) وعلى مذهب صاحبها كله في الأدب، فهو هذا التحقير الشنيع للمرأة، واعتبارها متاعاً رخيصاً لا يصح أن يناط به الشرف، أو اعتقاد الحفاظ فيه، أو نسبة العفاف إليه. ثم هذه الحماسة التي يبديها صاحب هذا المذهب في التمسك برأيه والفخر من أجله بأنه (عدو المرأة) ومن القول المعاد أن نلخص للقراء فكرة العبقري الأول الذي ابتدع فكرة قصص (ألف ليلة وليلة) والذي ابتدع من أجلها شخصية شهرزاد الرائعة، تلك الفتاة النابغة التي استطاعت أن تطفئ جذوة الحقد على النساء في نفس شهريار، وأن تنسيه مأساة زوجته التي أزهق بسبب خيانتها أرواح هذه الجمهرة من فتيات مملكته، والتي استطاعت مع ذاك أن تكسب حب هذا الملك المنقبض النفس، المكظوم الفؤاد، وأن تبادله ذلك الحب، وأن تجزيه عليه الوفاء والصفاء والإخلاص، كما استطاعت أن تردَّ عليه ثقته بالمرأة التي كرهها، ومحبته لها بعد البرم بها، وافتتانه بحديثها بعد انصرافه عن كل كلمة تنبس بها، فيكون له منها أبناء بررة، وأسرة مجموعة الشمل، فتتغير حاله خضوعاً لقانون الظروف، ونزولاً على مقتضيات الأحوال الجديدة. . .

هذه هي شهرزاد البسيطة غير المعقدة. هذه هي المرأة التي تعتبر، ويجب أن تعتبر، محور الحياة ومناط الفضيلة، ورحمة الله التي تذهب الأحزان، وابتسامة السماء التي تشرق في القلوب المكروبة فتغمرها بالسعادة وتفعمها بالرضى. . . المرأة التي تروض الطباع الجافية فتجعلها رخاء، وتحتال للغرائز الوحشية فتحيلها إلى اللين واليسر والصفاء.

أما شهرزاد الأخرى. . . تلك الهولة التي رمز بها صاحبها إلى المرأة في كل زمان ومكان. . . فهي لا تمثل إلا نفسها. . . إنها تمثل حلماً مريضاً يملأ خيالاً مريضاً. . . لقد تصورها صاحبها امرأة احتالت على الملك - على شهريار - بقصصها البارع لتنقذ نفسها قبل أن تنقذ جنسها (ص40) كما صرحت بذلك للوزير وهي تحاوره وتداوره - هذه هي شهرزاد الأنانية الأثرة التي لا يصح أن تمثل إلا نفسها - أما شهرزاد التي تتشهى العبيد السود في المنظر الخامس، ولا تريد أن تشبع منهم، وتخون الملك من أجلهم، فمن من بنات حواء تمثل؟ مَن مِن جمهور بنات الإنسانية وأخواتها وأمهاتها تمثل هذه المرأة الساقطة الهلوك؟! هل تمثل إلا نفسها تلك المرأة التي تغازل الوزير في المنظر الثاني، ويستطيع حبها الدنس أن يعصف بنفسه - وهو الوزير المخلص - في المنظر السادس، وتكون نتيجة هذا الحب أن يقتل الوزير نفسه في المنظر الأخير حينما يكتشف أن شهرزاد لم تكن تتشهاه وحده، بل كانت تعبد (جسم) العبد أكثر مما كانت تعبد جسمه (ص138) ما هذا؟ ما تلك الصورة الشاحبة التي يخبئها صاحب شهرزاد للمرأة في مخيلته؟ لقد مسخ الصورة الساذجة غير المعقدة، الصورة العلوية الفردوسية التي ابتدعها الرجل العبقري الأول الذي ابتكر فكرة ألف ليلة وليلة فجعلها صورة شائهة قبيحة فاجرة لا يمكن أن تمثل مرأة المواخير التي تتجر بعرضها كما تتجر بأعراض الناس. يريد أن يقول المبتدع الأخير للعبقري الأول: إنك يا صاحبي رجل سليم النية طيب القلب ساذج التفكير، تنظر للمرأة تلك النظرة العالية المبرَّأة فتتهمها بالذكاء الصالح، وتنفي عنها الدهاء الطالح، حين تضع بين يديها شخصية مستوحشة مثل شخصية شهريار الذي قتل زوجه الملكة وقتل العبد الذي خانته فيه، ثم راح يقتل العذارى نقمة منه على جنس المرأة حتى رزقه الله هذه الفتاة الألمعية (شهرزاد) التي تسلمته كما يتسلم المروضون السباع والضواري فما يزالون بها حتى يسلس لهم قيادها وينقاد لهم عاصيها، وتخضع كما تخضع الثعابين في الهند للموسيقى وتسكن سكون الطفل إذ يلتقم ثدي أمه. . . أما أنا - لا جعلت فداك - فعلى النقيض منك، إذ أني قليل الإيمان - بل لا إيمان لي على الإطلاق - بالمرأة. . . المرأة التي تمثلها شهرزاد في كل زمان ومكان. . . إني عدوها!!. . . إنها مخلوق أناني صلف غادر. . . إنها كائن غويّ بغيّ فاجر. . . إنها أصل كل بلاء، وجالبة كل شقاء. . . إنها كما جاء في هذا البيت المضحك الذي دسه عليك بعض القصاص المتأخرين فيما دسوه عليك من سخف. . . هذا البيت الواهي المتهالك الذي لا يستقيم له وزن:

إذا رأيت أموراً منها الفؤاد تفتت ... فانظر تجدها من النساء تأتت!!

بالضبط يا عزيزي العبقري الأول، ولو أنك أنت كنت رويت هذا البيت، وثقفته لراقك أن يكون مذهبك في المرأة كما أصبح مذهبي، ولدنت به كما أدين أنا - في آخر الزمان - به فقد تناولت شهرزاد الحصيفة العفيفة الظريفة اللطيفة التي قتلت الشيطان بين جنبي شهريار، وأبادت الظلام الذي جثم على قلبه، وأعادت إلى روحه السلام والطمأنينة، وغيرت مجرى تفكيره في الحياة حين أنجبت له أبناء وخلقت له (بيتاً)، شهرزاد التي لم تزل بالملك المتبرم بكل شيء، الناقم على كل الوجود، حتى على نفسه فردته إلى الرضى، وغسلت قلبه بالثلج والبرد، واشتركت وإياه في شئون الملك، فاستقامت له الرعية، وازدهرت في فيض عدالته الدولة. . . تناولت أنا شهرزادك هذه فمسختها. . . ولا تؤاخذني يا عزيزي العبقري الأول فهذا رأيي في المرأة. . . وجعلتها أنانية أثرة لا تجهد إلا أن تبقي على نفسها وإن هلك نساء العالم. ثم جعلتها تخدع الملك وتصر على الانتقام منه فتخونه كأسفل ما خانته زوجته الملكة الأولى، وتؤوي إلى فراشه العبيد الأقوياء السود فلا تشبع منهم، وتحرص على أن يكونوا سوداً غلاظاً (فالزهرة البيضاء الرقيقة تنبت من الطين الأسود الغليظ)، وتحرص أن يكون عبدها (وضيع الأصل قبيح الصورة، لأن هذه هي صفاته الخالدة التي تحبها). . . فإذا أنبأها العبد أن (تلك هي صفات الشهوة!) قالت له: (أقترب) فإذا قال العبد: (يخيل إليَّ أنك امرأة لا ككل النساء. أنت لا يمكن أن تعشقي أحداً) قالت له (لا شأن لك بقلبي!) فإذا قال: (أنت إنما تلعبين بي. إني أخافك) قالت: (أنت واهم) فيقول، ويا مصيبة ما يقول: (وزوجك!) فتقول: (ما شأنك به؟) فهل رأيت إلى يا عزيزي العبقري الأول كيف أشعت الفجور في نفس شهرزادك؛ وإن غضبت. فشهرزادي! وماذا يغضبك وللأديب أن يضع أشخاصه في الصورة التي يحب كما جاء في حكم الزمان في آخر قصة القصر المسحور؟ لقد أشعت الفجور في نفس شهرزاد وفي نفس العبد وفي نفس قمر وفي نفس الجلاد وفي نفس أبي ميسور، وفي نفس الملك. إي والله في نفس شهريار الذي ما فتئ يقتل النساء. لقد جردته حتى من نخوة الرجولة وفحولتها وجعلتها ضعفاً وخناً وفسولة. لأنه يرى العبد يخرج من مخبئه في مخدعها، فلا يبرم ولا يثور ولا يأمر جلاده بشيء. . . ولا بالبصق في وجهه. ولماذا يفعل وقد اشتد إيمانه بأن هذه هي طبيعة المرأة التي لا سبيل إلى تقويم معوجها؟

أرأيت إليّ يا عزيزي العبقري الأول؟! هذا مذهبي في المرأة. . . روّأت له هذا الترويء، وموّهت به على قرائي ذاك التمويه، وأذعته عليهم في كتاب وجد من حرية الرأي ورحابة الصدر، وحسن الالتفات، في مصر والشرق، ما وجد، فشاع وذاع وملأ النفوس والأسماع. . . وغلب القنّت - الذي ورد ذكره في كتابي - على صفاته الغوالي، ومزاياه الكبار.

قالت فاتنة: (وحسبك هذا القدر اليوم يا صاحبي، وقبل أن آذن لك فتضع هنا اسمك، نبه الناس إلى أن صاحب أحلام شهرزاد لم يسرق من هذا الفجور شيئاً، بل هو قد عالجه العلاج الذي كان ينبغي له منذ أعوام. وإلى اللقاء في الأسبوع المقبل)

دريني خشبة