مجلة الرسالة/العدد 508/من الأستاذ محمد كامل سليم إلى الأستاذ توفيق
مجلة الرسالة/العدد 508/من الأستاذ محمد كامل سليم إلى الأستاذ توفيق
الحكيم
(الأستاذ محمد كامل سليم بك أديب مبدع ومحدث مقنع، وله
في الأدبين العربي والإنجليزي مكانة سامية. ولعل هذا من
الأسرار التي حدت بزعيم مصر سعد زغلول أن يختار الشاب
كامل سليم سكرتيراً خاصاً له أيام الجهاد برغم صغر سنة
وعظم المركز وجلاله؛ فزاده ذلك صقالاً على صقال. وقد
أهدى إليه صديقه الأستاذ توفيق الحكيم كتابه (عصفور من
الشرق) فأرسل إليه هذا الخطاب)
عبد الرحمن
صديقي توفيق الحكيم
تفضلت فأهديت إلى كتابك (عصفور من الشرق) وقد فرغت من مطالعته أمس في متعة وأنس للعقل والنفس. ذلك لأنك أقمته على دعامتين: الأولى عاطفة قوية جارفة، لا يعادل اختلاجها وسذاجتها إلا صدقها وشدة وطأتها. والثانية: عقل مفكر ساخط يتضور من عالم الحقيقة، ويفزع إلى عالم الخيال، في ألم يزيده الشك تعقيداً، وفي أمل يزيده اليقين تجديداً
وإن كتابك هذا لحقيق بأن يحرك في نفس القارئ العليم بحقائق الأمور عواطف وخواطر شتى: من إشفاق ضاحك على العصفور الحساس الشاعر، إلى عطف باسم على قلبه الخفاق الثائر، إلى رثاء ظريف لحاله المضطرب الحائر، إلى غبطة تثير الذكرى لما لقي من حب مدوخ فائر، أشعله جمال فتان ساحر؛ حتى أصبح هذا المخلوق البريء ريشة في مهب الأجواء، تلعب بها الأهواء، فلا تستقر على حال، ولا يهدأ لها بال؛ وأمسى وهو لا يرى ولا يسمع نصح الناصحين ولا إرشاد المرشدين: وما تبصر العينان في موضع الهوى ... ولا تسمع الأذنان إلا من القلب
وأخيراً هذا المفكر البائس (إيفان) يتشكى ويتسخط، ويتفلسف ويتورط، ويسمع الإنسان في صوته رنيناً من الحق، وأنيناً من الأسى، ويشهد في أقواله طغيان الفكرة وقوة الإيمان بفساد الغرب وصلاح الشرق، وبما في المادة من شقاء وضلال، وبما في الروح من أنس وجلال؛ فلا يسع الإنسان - سواء أقره أم خالفه - إلا أن يشعر نحوه بعطف كله إشفاق، ورحمة تضاعفها لوعة، ولوعة يخالطها ألم.
وبعد، مرة ثانية: هل تريد أن أكشف اللثام عنك في ضوء هذا الكتاب الذي وصفت فيه حالات المحب واختلاجاته، ونزوات الحب ونزعاته، حركاته وسكناته، خطراته وخفقاته؟
إذن فاسمع يا صديقي، لقد جاء وصفك لهذا كله وصف العارف المجرب. وما ينبئك مثل خبير؛ فلست أنت عدو المرأة كما يزعم الزاعمون ويتصور الواهمون، وإنما أنت عاشقها المتيم الهائم، وعابدها في محراب العزلة والجمال.
ولقد وددت بعد فراغي من مطالعة كتابك لو امتد بك الصبر فأطلت فيما أوجزت، وأسهبت فيما سردت، وبسطت طرفاً آخر من تجارب الحياة. وتبسطت في ذكر حوادث أخرى أو مغامرات. . . إذن لكان صاحبك مثلاً فذاً للمفكرين ولكان عصفورك مثلاً حياً لعصافير المصريين.
فوا رحمتاه للعصافير السمراء، حين تحب الحمائم الجميلة البيضاء! ويا لها من نشوة دونها كل نشوة، فيها عذوبة وفيها عذاب؛ ولكنها حياة لا تعدلها حياة.
قد يسأل سائل: أليس من العجيب أن يحب العصفور الآدمي الصغير الحمامة الآدمية الجميلة؟ أليس بينهما تفاوت قائم وتباين؟ فكيف يتم بينهما توافق دائم ووئام؟ بلى إنه لعجيب؛ ولكنه عجيب في حكم العقل والمنطق وحدهما؛ ولكنه في حكم الطبيعة والعاطفة مفهوم ولا يفهم سواه. والحب لغز من الألغاز تجري في دائرته المرنة عملية الجذب والانجذاب، فلا ملام ولا عتاب.
على أني كثيراً ما تمنيت لو أن كل عصفور من الشرق أو الغرب أدرك حكمة الأيام في كل زمان ومكان وهي أن المرأة إذا استقوتك استعطفتك ببكائها، وإذا استضعفتك قتلتك بكبريائها. إذن لكان نصيبه من متع الحياة أعظم وأكمل، ولكانت شقوته بها أقل وأضأل.
ولكن كيف يدرك العصفور، حكمة الدهور، قبل أن ينتقل بين الزهور؟
إليك يا صديقي خالص التهنئة على ما أدركت من توفيق ظاهر في كتابك الخفيف الظريف. وإليك كذلك خالص الشكر على الهدية وعاطر الثناء على كرم الإهداء والسلام.
10 مارس سنة 1943
(محمد كامل سليم)