مجلة الرسالة/العدد 505/أظرف يوم!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 505/أظرف يوم!

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 03 - 1943


للدكتور زكي مبارك

انتظر أبنائي سيارة الليسيه خمسين دقيقة أو تزيد. انتظروها على باب البيت، بين المطر المنهمر والريح العصوف

وحين أشفقت أمهم فدعتهم إلى الدخول أجابوا ضاحكين: هذا أظرف يوم!

ثم جاءت السيارة فأقلتهم برفق إلى معهدهم المحبوب، ولعلهم لم يحبوا معهدهم بأكثر ما أحبوه في هذا اليوم، فلن تكون الروس غير حكايات وأقاصيص، ولن يكون المدرسون غير أطفال كبار يفرحون بمنظر المطر الهتان!

وبقيت في البيت أسأل نفسي عما أصنع، فما يجوز أن أخرج في مثل هذا اليوم، وهو لا يصلح لغير اقتناص الأوابد من الذكريات

لم يكن المطر غريبا عليّ، فقد تمتعت به أعواما في الديار الفرنسية. ولن أنسى فضله يوم دخلت مدينة الهافر أول مرة في سنة 1927، فقد أتاح الفرصة لمحادثة ريحانة مطولة على غير ميعاد. . . نظرت إليها بعين الغريب الحائر وقلت: , - ' ?

وبين السؤال والجواب تلاقى روحان، وكان المطر سبب التلاقي

وفكرت في (المطرية) التي نسيتها على سلم البيت المحبوب في باريس، يوم فارقتها آخر مرة في صيف سنة 1933

وعلى محطة ليون تذكرت تلك (المطرية)، وجاءت فلانة لتوديعي، فلانة التي كانت قالت: ,

يومئذ أوصيت فلانة بأن ترجع إلى البيت المحبوب لتأخذ المطرية التي نسيتها هناك

تذكرت وتذكرت

تذكرت أني حين رجعت إلى بغداد في صيف سنة 1939 مع (وفد مصر) للاشتراك في تأبين الملك غازي رأيت في شارع الرشيد إنسانة تشبه تلك الفلانة، فطوفت حولها مرات إلى أن صرخت:

فقلت: لا غرابة في أن لا تعرفني، فشمس بغداد تزيغ عيون الباريسيات

كان أمر هذه الفلانة عجبا من العجب، كانت فتاة غريبة الروح، وقد تركت دينها لتعتنق ديني، بعد مصاولات روحية يضيق عن شرحها هذا الحديث

وما السبيل إلى قضاء لحظات أعرف بها كيف تحدرت هذه الموجة إلى بغداد؟

- ندخل هذا الفندق؟

- لا، فهو فندق مطروق!

- وهذا الفندق؟

- هو فندق حوله شبهات!

- والى أين نتجه يا شيطانة، وقد عرفت من خفايا بغداد أضعاف ما أعرف؟

- إلى فندق مود

وكان فندق مود هو الفندق الذي نزل به (وفد مصر)، وكان اجتماعي بها فيه يعد فضيحة في أنظار المصريين والعراقيين

قال حمد باشا الباسل: ما تلك بيمينك يا دكتور مبارك؟

فأجبت: هي حية هديتها إلى الإسلام يوم كنت في باريس!

ثم دارت بيني وبينها كؤوس من الشراب الحلال

وهممت بدفع ثمن الكؤوس فاعترض الأستاذ عبد المسيح وزير، وتلطف حمد باشا فقال: لو رأيتكما بمصر لجعلت (قصر الباسل) مقركما إلى آخر الزمان!

ثم دعاني حمد باشا إليه في جانب من بهو الفندق ليسر في أذني كلمات

- ما هذا الذي تصنعه بنفسك يا دكتور مبارك؟

- وماذا أصنع بنفسي يا باشا؟

- ما قدومك علينا بهذه المخلوقة المتبرجة؟

- هي التي قدمت علي من باريس

- أنت عرفت هذه الفتاة في باريس؟

- وهديتها إلى الإسلام

- أنت تهدي إلى الإسلام؟

- أسألها تخبرك!

ثم نظرت إلى حمد باشا وقلت: - هل تعرف (الحلوبة)؟

- وما الحلوبة؟

- هي أمطار عنيفة مزلزلة تفاجئ العراق في بعض أيام الشتاء

- فهمت فهمت!

- ماذا فهمت يا باشا؟

- فهمت أن هذه الحلوبة تقع على قلبك في الصيف لا في الشتاء

- نعم، وبهذا تتم المعجزة في الحياة العراقية!

ثم عاد حمد باشا فقال:

- أيطول هذا المجلس؟

- أي مجلس؟

- المجلس الذي يدور فيه الغزل بطريق العلانية!

ثم التفت فرأيت الجارم بك يوغل في التنكيت، ورأيت الدكتور عزام يروي أشعاراً، فأخذت بذراع الفلانة وانصرفت

ولكن إلى أين؟

إلى الفندق الذي تقيم به مع خطيبها العراقي، وكانت حدثته عني أحاديث شوقته إلى أن يراني

- دكتور، أنت الذي سميت هذه الفتاة ليلى؟

- وأنا الذي علمتها كيف تكتب أسمها بحروف عربية

- وترى أن أقترن بها؟

- وأرى أن (تتطوق) بها؟

- ايش لون؟

- تلك عبارة مصرية، ستفهمها بعد حين

ولم أدر ما جد في الدنيا بعد ذلك اليوم، وإنما أذكر أني تلقيت خطاباً من (ليلى المريضة في باريس) تقول فيه: قتل السيد رستم حيدر، وكان النصير الأوحد لخطيبي، فما الذي ترى في مصيره ومصيري؟ في تلك اللحظة تذكرت سعادة الأستاذ طه الراوي، وهو غاية في كرم النفس وشرف الروح

. . . هل أكتب إليه بخبر فلانة وفلان؟

وأسرعت الدنيا فأثارت الحرب، وأمست أحاديث المحبين عبثاً في عبث، ومجوناً في مجون!

كانت الحرب هي (الحلوبة) الدنيوية لا العراقية، والعراق مظلوم في اتهامه بالشقاق، فتأريخه في أسوأ أحواله اهدأ من تأريخ الأمم التي تدعي الشوق إلى السلام والقرار والاطمئنان

حلوب العراق لا تدوم غير ساعات، أما حلوبة الغرب فلا تنقضي إلا بعد سنين

ما هذا الذي أرى؟ ما هذا؟ ما هذا؟

هذه أمطار وبرق ورعود!

لم يبق من تقليد مصر للغرب إلا أن تتشبه بجوه في هذا الهذر الممقوت!

وانظر فأرى صدري ينقبض حين يخف المطر لحظة أو لحظتين، وكان المظنون أن افرح بميل الجو إلى الاعتدال

ما السر في هذه النزعة الغربية؟ ما السر في الفرح بهطول الأمطار في بلاد أغناها النيل عن الغيث؟

لعل ذلك يرجع إلى أن (الإنسان الأول) يحتل صدورنا من حيث لا نعرف، وإلا فكيف جاز لأبنائي أن يقولوا إن هذا اليوم هو اظرف يوم؟

كان الماء من أسباب الوقاية عند القدماء، الوقاية من غارات السباع والوحوش، وكانت المياه سببا في انتصار المصريين في اعظم معركة من معارك الحروب الصليبية، وهي المعركة التي اشترك فيها النيل، فقد أحاط بالأعداء من كل جانب، وقضى عليهم بالخذلان.

وهنا أذكر حواراً دار فوق منبر الأزهر في أيام الثورة المصرية سنة 1919:

حضر الخطيب محمد بك أبو شادي ذات ليلة ليحدثنا عن الأخطار المخوفة من سيطرة الإنجليز على السودان، فقال فيما قال إن تلك السيطرة قد تكون سبباً في منع مياه النيل عن الأراضي المصرية

عند ذلك علت المنبر وقلت ينبغي أن نبحث عن أسباب منطقية لاحتفاظ مصر بالسودان.

وأنا أرى أن مسالة المياه قليلة الأهمية، لأن حياة السودان في تحدر مياه النيل إلى الأراضي المصرية. ولو وجد السودان من يساعده على احتكار مياه النيل لتعرض لآفات من الحميات لا يعلم أذاها غير علام الغيوب ثم ماذا؟

ثم طافت بالقلب خواطر حول شعور المصريين بظواهر الوجود وأقول بصراحة أن الذين ينظمون الأغاني يخطئون أبشع الخطأ في الإكثار من التغني بالرياض والبساتين

إن المصريين لا يفهمون هذه الاشياء، ولن يذوقوها لو فهموها، لأن مصر خضراء في جميع الفصول، وهي من أجل هذا لا تشعر بقدوم الربيع، لأن دهرها كله ربيع

الروض كلمة غير مفهومة، أو كلمة لا تذاق في الديار المصرية على نحو ما يفهمها ويذوقها شعراء العرب في البلاد التي تتأذى بالشتاء

المصري لا يدرك تقلبات الجو إلا في أندر الاحوال، وهل في مصر جو يتقلب؟

دخلت على المسيو دي كومنين وأنا محزون في يومٍ مطير فقال:

, ' ,

ولكن المطر لم ينتظر إلى الغد، فقد صفت السماء قبل أن ينتهي الحديث

والمسيو دي كومنين يلازم سرير المرض منذ أسابيع ولم أفكر في عيادته لأني اكره رؤية الاساد وهي مراض

سمعت أيضاً أن الأستاذ محمد الههياوي مريض، وان أطباء مستشفى الدمرداش قد احتجزوه عامين بعد الشفاء، لأنهم علموا أن أحد أبنائه مات، وليس من المصلحة لمريض في دور النقاهة أن يدخل بيتا شعاره السواد

هل يعرف أبناء هذا الجيل أن الههياوي كان اخطر مفنِّد لمشروع (ملنر) في السنين الخوالي؟

عند الله جزاؤك يا صديقي، لا عند الوطن، فقد كدت أؤمن بأن الوطن المصري لا يحفظ الجميل

الههياوي مريض، وسيعافى بأذن الله حين يقرأ هذه الكلمات، فلعل دواءه في أن يجد صديقا يذكره بالخير وهو عليل

ما هذا الجو العبوس؟ وما هذا المطر الهتون؟ وما شقائي بمرض الأستاذ محمد الههياوي ومرض المسيو دي كومنين؟

واين الأستاذ محمد عوض جبريل؟

أين أخوان عرفتهم يوم كانت الدنيا تسمح بأن يأنس صديق إلى صديق؟

إن الأستاذ أسعد داغر مريض منذ شهرين، وهو صوره من صور الوداد الصحيح، فأين من توجع لعلته بقصيدة في جريدة الاهرام، وهي تنشر قصائد التوجع لمرضى الروس واليونان؟

ثم ماذا؟

ثم أنتهز هذه الفرصة لتوضيح حقيقة غفل عنها أكثر الباحثين فأقول:

ليس في مصر أحزاب بالمعنى الذي يفهمه الأوربيون، لان جو مصر لا يوحي بالاختلاف كما يوحي بالائتلاف

وأذن يكون النجاح الحزبي في مصر مقصورا على الجماعات التي تعرف كيف تأتلف، وهذا هو الواقع بالفعل، فما فازت جماعة في مصر إلا بمراعاة ما في الجو المصري من الثبات والفرد كالجماعة في مصر، ففي مقدور كل فرد أن ينجح إذا مشى في طريق واحد إلى آخر الشوط، أما التنقل من حال إلى أحوال فهو نذير الانحلال

الإنسان ابن جوه، وجو مصر لا يعرف التقلب، ولو راجعنا تواريخ الفائزين في معترك الحياة المصرية لرأيناهم جميعا من أهل الثبات في الأفكار والآراء

إن المصري يتكلف ويتصنع حين يرائي، لان جو مصر لا يساعد على الرياء

والحقد الأسود في مصر لا يقع إلا من رجل نسبه في مصر مدخول. وبكلمة واحدة تصفى ما بينك وبين خصمك من أبناء هذه البلاد، لان فطرة المصري منقولة عن جوه، وهو غاية في الصفاء

ولكن ما هذا اليوم (الملخبط)؟

أني أخشى أن يجعل مقالي هذا (لخبطة في لخبطة)!

هو ذلك، فقد انتقلت من حديث إلى أحاديث بلا نظام ولا ترتيب.

سيصفو الجو، سيصفو بعد ساعات، لا بعد أيام

الإنسان ابن جوه؟ كذلك قلت، فما بالي أعاني شجوناً تحترب في جميع الاحايين؟

ما حالي في دنياي؟ وما نصيبي من الجو المفطور على الصفاء؟

لا بأس، فبحرف أو نصف حرف أبدد ما حولي من المصاعب حين أريد، ولن أريد، لان الصراحة في الخصومة معنى نقلته عن وطني، وأنا لوطني أوفى الأوفياء

أعظم عيب في مصر هو أنها لا ترضى عن التفاوت في المواهب فهي لا تلتفت أبداً إلى الأوساط من الرجال في أي ميدان

وهذا العيب فضيلة عبقرية، ونحو به فرحون

لن نترك فرصة تمر بلا برهان على صحة البنوّة لهذه السماء وما صحت في غير مصر سماء، فتقشعي أيتها الغيوم الدخيلة على سماء هذه البلاد

هذا أظرف يوم؟

نعم، هو أظرف يوم، لأني أسلمت فيه العنان للقلم الجموح

زكي مبارك