مجلة الرسالة/العدد 501/الحضارات القديمة في القرآن الكريم
مجلة الرسالة/العدد 501/الحضارات القديمة في القرآن الكريم
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 4 -
الحضارة اليهودية
ينسب اليهود إلى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. وقد أقام أجدادهم في مصر من عهد يوسف بن يعقوب إلى عهد موسى بن عمران، وهم قلة تدين بالتوحيد الذي دعا إليه إبراهيم أبو الأنبياء، وكانت الوثنية في ذلك العهد غالبة على الأرض، ولها دول قوية في مصر وغيرها من الأقطار. وقد لقي اليهود ما لقوا في مصر من الذل والهوان في سبيل دينهم، إلى أن أراد الله تعالى إظهار دين التوحيد في الأرض، وإقامة حضارة جديدة تقوم على ذلك الأساس الذي يرفع من شأن الإنسانية، وينقذها من الجهالات التي كانت تتردى فيها على عهد الوثنية. وقد بشر الله تعالى بهذه الحضارة قبل أن تظهر على الأرض بقرون، تعظيماً لشأنها، وتفضيلاً لها على الحضارات الوثنية التي سبقتها، لأنها ورثت محاسن تلك الحضارات، وخلت من الطغيان والجهل الذي كان يشوه تلك المحاسن، وقد جاء ذلك التبشير في أواخر أيام بني إسرائيل بمصر، فقال تعالى في الآيات: 4، 5، 6 من سورة القصص (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين، ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون)
فالذين استضعفوا في الأرض هم اليهود، القرآن الكريم حين يرثى لاستضعافهم في الأرض، ولما لقوه من الذل والهوان في مصر، وحين يبشر بأن الله يريد أن يمن عليهم ويجعلهم الوارثين في الأرض، لا يحدث عنهم في ذلك بعنوان أنهم يهود، لأن مثل هذا لا يَعْني القرآن الكريم بشيء، وكل الناس عنده سَوَاسِيةٌ من هذه الجهة، وإنما يحدث عنهم بعنوان أنهم شعب موحد، يريد الله أن يجزيهم خيراً على ما لقوه من الاستضعاف في سبيل توحيدهم، وأن يمن على الموحدين من اليهود وغيرهم بأن يجعلهم الوارثين في الأرض، فتقوم لهم دول تغلب عليها، وتظهر لهم حضارات لا تذكر الحضارات التي سبقتها بجانبها. وقد صدق الله تعالى وعده، فأخذ التوحيد يقوي شيئاً فشيئاً من عهد قيام دولة اليهود في فلسطين، وجعل يناضل الوثنية ويغزوها في معاقلها، وقد رفع لواءه في ذلك النضال الوثنية ويغزوها في معاقلها، وقد رفع لواءه في ذلك النضال أولئك الأئمة الذين اختارهم الله تعالى لهداية البشر، وكان أعظمهم في ذلك الجهاد الشاق ثلاثة لا تزال آثارهم فيه باقية إلى عصرنا، وهم: موسى صاحب الشريعة اليهودية، وعيسى صاحب الشريعة النصرانية، ومحمد صاحب الشريعة الإسلامية، وأتباع هذه الشرائع هم الظاهرون الآن في الأرض، وحضارتهم هي الحضارة العليا، وهي المثل الأعلى في عصرنا
وقد بلغت الحضارة اليهودية أوج مجدها في عهد داود وسليمان عليهما السلام، فارتقت فيها العلوم والآداب وتقدمت الصناعة تقدماً عظيماً، ونهضت التجارة نهوضاً كبيراً. وكان لسليمان عليه السلام أساطيل عظيمة تمخر عباب البحار، حتى وصلت غرباً إلى بلاد الأندلس، وجنوباً إلى بلاد اليمن وجنوب أفريقية. وقد لمعت سماء فلسطين في عهده بما أقامه فيها من المدن العظيمة، وبما شيده فيها من بيوت العبادة، وبما رفعه فيها من الصروح والقصور الجميلة، وهو مع هذا رسول من رسل الله الكرام، وإمام من أولئك الأئمة الذين بشر الله بهم في أواخر أيام بني إسرائيل بمصر
ولاشك في أن ظهور هذا كله في عهد سليمان أعظم رد على أعداء التوحيد، لأنه يبين خطأهم في ظنهم أن التوحيد يجافي الحضارة وينأى عن مظاهر الجمال التي تمتاز بها عن البداوة، ولا يتسع لها صدره، كما يتسع لها صدر الوثنية
وفيه أيضاً أعظم رد على ألئك المتنطعين في الدين، وهم الذين ينفقون في ذلك الظن الخاطئ مع أعداء التوحيد، فيظنون أن الدين ليس إلا خشونة وتقشفاً، وأن المثل الأعلى فيه هو الزهد في زينة الحياة الدنيا، لا يفرقون في ذلك بين الزينة التي أحلها الله تعالى وبين الزينة التي حرمها على عباده
وقد نوه القرآن الكريم بمظاهر الحضارة التي تمت في عهد داود وسليمان في آيات كثيرة منه، فمن ذلك قوله تعالى في الآيات (10، 11، 12، 13) من سورة سبأ (ولقد أتينا داود منا فضلاً، يا جبال أوبي معه والطير، وألنا له الحديد، أن عمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحاً إني بما تعملون بصير. ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين الفطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير، ويعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور)
ومن ذلك ما ورد في شأن بَلْقِيس ملكة سبأ، وفي شأن الصرح العجيب الذي بناه لها، وذلك في الآيات (41، 42، 43، 44) من سورة النمل (قال نكروا لها عرشها نظر أنهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون. فلما جاءت قيل أهكذا عرشك؟ قالت كأنه هو! وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين. وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين. قيل لها ادخلي الصرح، فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها، قال إنه صرح ممرد من قوارير، قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان الله رب العالمين)
وكان هذا الصرح العجيب آية في فن البناء. ذكر المفسرون أنه كان قصرا من الزجاج الأبيض كالماء، وقد أقامه على ماء يجري تحته، وألقي فيه السمك والضفادع وغيرهما من دواب البحر، ثم وضع سريره في صدر المجلس عليه، فلما جاءت بلقيس قال لها: ادخلي الصرح، فحينئذ حسبته لجة عظيمة من الماء، وكشفت عن ساقيها لتخوضها إليه، فقال لها: إنه صرح ممرد من قوارير، فحينئذ سترت ساقيها، وآمنت بعظمة ملك سليمان عليه السلام
ولكن اليهود أدركهم في حضارتهم من الغرور ما أردك غيرهم، حتى زعموا أن ما وصلوا إليه فيها كان إيثاراً من الله لهم فركنوا إلى ذلك الغرور حتى سلبهم الله ما كانوا فيه من العز، وسلط عليهم غيرهم من الأمم، وإلى هذا بشير الله تعالى في الآية (18) من سورة المائدة (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه، قل فلم يعذبكم بذنوبكم، بل أنتم بشر ممن خلق، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير)
وقد أضافوا إلى ذلك الغرور القاتل الاستكانة للرؤساء حتى اتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله فسار قادتهم وراء أهوائهم، ولم يكن لهم من أمتهم رقيب عليهم، وكان لهذا أثره أيضاً في القضاء على حضارتهم
(يتبع) عبد المتعال الصعيدي