مجلة الرسالة/العدد 500/الفنون الجميلة
مجلة الرسالة/العدد 500/الفنون الجميلة
الفن ترتيب أجزاء متفرقة ترتيباً اختيارياً حسب فكرة معينة لتؤدي إلى غاية معلومة، هي أن يُخلق من تلك الأجزاء كلاً واحداً، أو حلقاً جديداً يثير في النفس عاطفة الجمال. فهو إذن إنتاج حر للجمال، لا الجمال الواقعي فحسب، بل مزيج من الجمال الواقعي والجمال المثالي. فلابد من أن توجد فكرة مثالية عن الفنان يحققها ويعبر عنها بمساعدة الواقع. ويتخذ الفن في تعبيراته عن تلك الفكرة أشكالاً مختلفة هي ما نسميه بالفنون الجميلة - فالنون الجميلة إذن، هي مختلف حالات الانفعالات الجمالية التي ينفعل بها الفنان إزاء أشياء معينة، فيحاول أن يعكسها ويعبر عنها، لكي يتذوقها غيره، فينفعل بها كما انفعل هو
والفن في تعبيره عن هذه الفكرة يخاطب الحواس، لا الحواس كلها، بل هو في الواقع يخاطب حاستين منها فقط هما: السمع والبصر؛ وعلى ذلك تنقسم الفنون الجميلة إلى مجموعتين:
(ا) ما يخاطب السمع وهي: الموسيقى: (سواء أكانت موسيقى صامتة، أم يصاحبها غناء مفرداً وجوقة) والشعر
(ب) ما يخاطب البصر وهي: النحت والعمارة والنقش ولكن، هل الفنون جميعها على درجة واحدة من السمو والرفعة؟ أو بمعنى آخر: هل هناك فنون أرقى وأرفع من غيرها؟ وإن كان الأمر كذلك، فعلى أي أساس يمكن تصنيفها وترتيبها إلى فنون راقية رفيعة، وأخرى أقل منه؟
لقد رأينا أن الفن هو الإنتاج الحر للجمال، ورأينا أيضاً أنه لابد من التعبير عن فكرةٍ ما في الفن؛ فقانون التعبير هو أهم قانون عام مشترك بين كل الفنون، وعليه يجب أن يقوم التصنيف. فالفن الذي يكون أكثر تعبيراً وأغنى في وسائل تعبيره من غيره يكون هو الأرقى. وليست الفنون على درجة واحدة من تلك الحرية في التعبير، فنحن نجد مثلاً أن حرية التعبير أقل ما تكون في فن العمارة، والفنان المعماري مقيد إلى أبعد حد؛ بينما تتمتع الفنون الأخرى بحرية في التعبير أوسع من ذلك، مع تفاوت فيما بينها. كذلك تختلف قوة تعبير كل فن عن الآخر إزاء شيء واحد بالذات؛ فالموسيقى مثلاً يمكنها أن تصور لنا منظر عاصفة عنيفة تصويراً أبلغ وأعمق مما يصوره لنا النقش مثلاً، فهي تعبر عنها أحسن تعبير منه، وتثير فينا من العواطف والوجدانات ما لا يثيره هو فينا إن تعرض للتعبير عن ذلك المنظر. كذلك يعجز النقش عن أن يساوي الشعر في قوة تعبيره وعمق تصويره، فهناك آثار شعرية عظيمة نعجب بها كل الإعجاب، وتثير فينا العاطفة الجمالية كأقوى ما تكون، ولكن النقش - أو غيره - يعجز عن تصويرها في مثل روعة تصوير الشعر لها. فمثلاً صور لنا فرجيل في قصيدته (صورة رمزية لمسخ عظيم هائل، له مائة عين ومائة فم؛ تمس قدماه الأرض، ويبلغ رأسه عنان السماء) فأبدع في تصويره كل الإبداع، وأثار إعجاب كل من قرأها. هذه الصورة الرمزية ماذا تثير فينا لو فرض أن حاول المنقش أن يحققها ويعبر عنها؟ وأغلب الظن أنه سيخرجها لنا صورة غريبة تثير فينا الضحك وتبعث على الهزؤ والسخرية.
وقد أجمعت الآراء على القول بأن الشعر هو أرقى الفنون الجميلة، فهو يحتل المكان الأول بين سلسلة الفنون لأنه أقواها على إلهاب النفس، وتحرير المخيلة، والصعود بالإنسان إلى أرقى الأفكار وأسماها. ولا يكتفي الشعر بالتعبير عن الصور الحسية وعن العواطف الجياشة وتصويرها كما تفعل سائر الفنون الأخرى، بل يمتاز عنها بميزة أخرى هي، أنه يمكن أن يعبر عن المعاني المجردة، مثل فكرة (الله) وفكرة (الوطن) وغيرها مما يعجز عنه باقي الفنون، وذلك لأن أداة الشعر الكلام، ويمكن أن يؤدي الإنسان بالكلام ما لا يؤديه بغيره. فكلمة (الله) أو (الوطن) وحدها تحمل من المعاني، وتثير من العواطف والانفعالات والخواطر ما يقصر عن حمله وإثارته أي أداة أخرى من أدوات التعبير في الفن
ويأخذ (هجل) على الشعر أنه لا يعرض علينا كل الخطوط والملامح الجمالية المختلفة التي يصفها بحيث نرها كلها لأول وهلة بعضها بجانب بعض مثلما نرى في النقش مثلاً، إذ يكفي أن ننظر إلى لوحة من اللوحات فنرى كل الملاح المعبر عنها دفعة واحدة. فالشعر يعرض علينا الشيء الذي يصوره شيئاً فشيئاً على دفعات، وهذا ناتج من طبيعة أداة الكلام. ففي كل بيت مثلاً يعرض علينا جزءاً من تلك الملامح، ولا تكمل الصورة إلا بكمال القصيدة. فهو من هذه الناحية إذن أقل منزلة من النقش. ولئن كان هذا عيباً في الشعر فإنه من جهة أخرى ميزة يمتاز بها على غيره، وذلك حين يعرض لبعض المشاهد التي لابد فيها من التسلسل والتتابع حتى تستكمل ظهورها. فالنقش في الحقيقة يمثل حالة معينة وفي وقت بالذات ولا يمكن أن يعرض للحالات التي تتغير وتتابع. فمثلاً يمكن للشعر أن يعرض لوصف عاصفة هوجاء عنيفة فيصور أولاً منظر البحر قبل العاصفة وقد هدأت المياه وصفا الجو وسطعت الشمس، وقد أخذت سفينة صغيرة تتهادى في رفق على صفحة الماء، ثم إذا بالجو يتلبد بالغيوم فجأة وتهيج الأمواج وتضطرب وتصفر الرياح وتتقاذف السفينة حتى تغلبها على أمرها وتدفع بها إلى صخرة عظيمة فتنفتح في جانب السفينة ثغرة كبيرة تدخل منها المياه، وتأخذ السفينة في الغوص والركاب يصرخون ويجرون هنا وهناك وقد تملكهم اليأس والفزع، ثم طغى البحر على السفينة فابتعلها بمن عليها. كل ذلك يصوره لنا الشعر بسهولة في قصيدة واحدة ولكن يعجز عنه النقش في لوحة واحدة، فهو لا يمكنه إلا أن يعبر عن حالة واحدة فقط من تلك الحالات المتباينة
وهناك فن آخر لا يقل عن الشعر رفعة وسمواً وهو الموسيقى فهي من أقوى الفنون تأثيراً في النفوس وإيقاظاً للعواطف وإلهاباً للوجدان، ويمكنها أن تحمل الروح وتتجاوز بها العالم الواقعي إلى اللانهاية. فعنصر اللانهاية واضح جداً فيها، ولعلها في ذلك تسبق الشعر، وقد كادت تفوقه لولا ما فيها من غموض وإبهام؛ فتعبيراتها غير محددة تمام التحديد، كما نرى في النحت مثلاً، فهو على العكس منها تماماً يحدد موضوع تعبيره بخطوط واضحة لا يمكن أن تخطئها، مما جعله لا يبعث على الخيال ولا يحمل الروح إلى اللانهاية. فجمال الموسيقى، وميزتها الكبرى تتجلى في قدرتها على العبور بالروح إلى اللانهاية، مما جعل الناس يقرنها بالدين لأنهما يخاطبان القلب والعواطف ويسموان بالروح عن عالم الواقع. ولعل هذا هو السر في أن المسيحيين يصبحون صلواتهم الكنيسية بالموسيقى. وتأثير الموسيقى في الحقيقة أقوى من تأثير الشعر، فهناك صلة وثيقة بين أنغام الموسيقى والقلب، بحيث يمكن للموسيقي البارع أن يلعب بأفئدة الناس كيفما شاء، إن شاء أضحكهم وإن شاء أبكاهم. وعلى العموم فهناك صلة كبيرة بين الشعر والموسيقى. فالشعر يدخل في الموسيقى على صورة غناء، فيحدد من تعبيراتها وتصوراتها، وهو بذلك يقتل ما فيها من لا نهاية. كذلك الشعر موسيقى الألفاظ، يحس الإنسان فيه بأنغام موسيقية غير خافية، قد تتولد الأكثر من تكرار بعض حروف معينة وتلازمها
والخلاصة من كل ما سبق أنه ما دامت حرية التعبير وقوته وعمقه وغناؤه هي أساس ترتيب درجات سمو الفنون ورقيها، فإنه يمكن تبعاً لذلك، اعتبار الشعر أرقى أنواع الفنون الجميلة، وتليه في ذلك الموسيقى، وهي خليقة بأن تسمو عليه لولا غموضها وإبهامها، وإن كان ذلك يجعلها تمتاز عن غيرها باللانهاية. ويلي الموسيقى النقش، فهو يكاد يجمع بين قوة تأثير الموسيقى من ناحية وبين تحديد النحت من ناحية أخرى، فهو أكثر تحديداً وإيضاحاً من الموسيقى، وأكثر تأثيراً من النحت. ويلي ذلك النحت وهو لا يكاد يبعث على التخيل بشدة ما فيه من التحديد؛ وأخيراً العمارة وهي أقل الفنون جميعاً في حرية التعبير وعمقه
أحمد أبو زيد
كلية الآداب - جامعة فاروق الأول