مجلة الرسالة/العدد 50/عتاب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 50/عتاب

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 06 - 1934



بقلم محمد قدري لطفي

ليسانسييه في الآداب

كان النبي يود لو انهم اسلموا ليعتز بهم الإسلام، ويدعو الله أن يهبه من لدنه حكمة لعله يصرفهم عن الضلالة أو يجعلهم من المهتدين؛ وكان النبي حريصاً على إسلامهم ملحاً فيه، لان أشخاصهم عند قريش مهيبة، وأسماءهم عند العرب رفيعة؛ فلما دخل عليهم وقد اجتمعوا عنده، حياهم فردوا عليه تحيته، مخلصين أو غير مخلصين، ثم اخذ مكانه بينهم، فكان صمت، وكان جلال رهيب، ولم يلبث أن سرى بين الجمع صوت مهيب، فيه قوة لأنه صوت الحق، وفيه إيمان لأنه وحي القلب؛ وكان الصوت متجهاً نحو عتبة بن ربيعة وأخيه، يقول: أما آن يا عتبة أن تدخل أنت وأخوك شيبة في دين الله؟ ما دعوتكما لأمري ولا لشيء هو من عندي، ونما دعوتكما لأمر الله رب العالمين؛ وهذا كلامه بين يدي فاستمعاه وأصغيا إليه لعله تعالى يهديكما فتكونا من عبادة المسلمين. ولكن عتبة وأخاه لم يلبثا أن جادلاه فجادلها، واخذ النبي منهما وأخذا منه، حتى إذا غلبهما الرسول بمنطقه وقوة حجته، لم يلبثا أن عقد الصمت لسانهما، فالتفت النبي إلى العباس بن عبد المطلب وكان مصغياً يستمتع إلى قوله لابني ربيعة، وقال له انك يا ابن عبد المطلب لو اهتديت بهدى الإسلام وانه من صناديد قريش لاهتدى معك جميع كثير، فلا تكونن بصدك عن دين الله حائلاً بين الناس والجنة، ولا تضربن لقريش مثلاً من الغي والضلال، فتضل وتضل، وأنت حري أن يكون لهم منك هاد معين. فلم يرفع العباس رأسه ولم تتحرك له شفتان، ونما ود لو أن النبي تركه إلى الوليد بن المغيرة أو إلى أمية بن خلف، فلما شعر النبي أن العباس حائر بين عقله وعاطفته، ورآه مطرقاً إلى الأرض، لم يلبث أن تحول عنه إلى أمية بن خلف، قال: يا أمية، ما كان لسادة الناس أن يكفروا بسيد العالمين، الله الذي فضلهم على عشيرتهم وذوي قرباهم، وما كان لك أن تكون لقومك قدوة سوء، لعمر الله ليس بعد الكفر ذنب، وما ينبغي لك أن ترغب عن دعوة الله وتصد قومك عن الدين بإعراضك عنه. قال يا محمد أمهلني يوماً أو بعض يوم، فان الأمر اعسر عندي من يسره لديك. واتجه الرسول إلى أبي جهل بن هشام وكان يجلس بجوار الوليد بن المغيرة، فقال لهما وقد دنا منهما: أيحق لكما أن تسبقا الناس في الدنيا حتى إذا كانت الآخرة كنتما آخر الناس عند الله؟، الله ما لكما في آلهتكم غناء، وما كنتما لتجعلا رضى الشيطان في عصيان الله. ولكن أبا جهل لم يكن ليصبر كما صبر العباس، أو يسكت كما سكت، ونما جادل النبي في عنف، فجادله النبي في لين، وآثر أبو جهل الحدة، ولم يكن النبي ليتحد. واتجه الرسول إلى القوم جاداً في دعوتهم، ملحاً في اقناعهم، يمنعهم بالوعود يوم الدين، ويحذرهم عاقبة الكفر يوم القامة، وأخذ النبي يفيض عليهم من بيانه، ويشع على القوم قبساً من إيمانه، حتى أقبل الكل عليه يستمعون له ويصغون إليه، وبينما النبي يدعوهم فينصرف إلى الدعوة بكل إيمانه، كان يسعى إليه رجل يتوكأ على عصاه يتحسس بها الطريق إليه حتى إذا بلغ مجلس النبي لم يستمع إليه ولم يلق بالا إلى قوله، ولم يدر أن النبي يدعو صناديد قريش إلى ما دعا الله، ونما بادر النبي يسأله أن أيقرئني وعلمني مما علمك الله؛ وكان النبي عنه في شغل، وكان ضيوف النبي قد تلهوا عنه بما هم فيه، فلم يلتفت إليه أحد، ولم يرد عليه مجيب؛ فقال أقرئني وعلمني مما علمك الله، فلم يكن حظه في الثانية خيراً منه في الأولى، والرجل واقف في مكانه لا يريم، ملح في طلبه لا يسأم، فأخذ يعيده، وطفق يكرره، حتى كره النبي أن يقطع عليه الحديث، وأي حديث، أو يلقى عليه قول ولما ينتبه من قوله، فعبس في وجه الرجل وأعرض عنه، ولم يلبث النبي أن انصرف القوم من عنده، فيهم الذي أوشك أن يقتنع، وفيهم الذي مازال متبرماً بالدعوة ساخطاً، وفيهم الذي ينكر على الرسول قوله، وفيهم الذي يحب أن يتريث في الأمر فلا يقطع فيه برأي؛ وكان النبي قد ظن انه بالغ منهم في يومه ما لم يبلغه في أمسه، وانه لابد اليوم مقنعهم حتى يسلموا، فلم يدر بعد ذهابهم ماذا اخذ عليه نفسه وقد كانت معه وله؟ ولا كيف ضاق صدره وقد كان واسعاً لا يضيق بشيء ولا يتبرم بسوء؟ وشعر النبي بحرج لم يدر ما هو ولا من أين اتاه، فقد كان عند أمر ربه يؤدي الرسالة في صدق وأمانه، لم يدع سبيلاً لهداية القوم إلا سلكها، أو باباً إلى قلوبهم الغليظة إلا طرقه؛ ولم يلبث النبي إذ خلا لنفسه أن أحس بما يحس به حين يريد الله أن يبعث إليه بحديث أو ينزل عليه شيئاً من آية، وإذا الوحي له لا للمسلمين، وإذا القول له لا للمشركين، وإذا الله عاتب عليه يقول انه: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى) ويقول له (وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى، أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى) وإذا ربه يلومه ويقول في لومه (وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى، كلا إنها تذكرة). عند ذلك ذكر النبي قوم قريش وما كان بينه وبينهم من حديث، وهتف هاتف كأنه عمرو بن قيس يقول: أقرئني وعلمني مما علمك الله، وتصور النبي حال الرجل يسأل وليس من مجيب، ويقف وليس من يأذن له بالجلوس؛ ولكنه لم يكن يدري انه أساء إلى الرجل أو قصد إلى إساءته، فليس النبي من يسيء إلى أحد، وليس النبي من يصد عن الناس بله عن السائلين، ونما شغله أمر ربه فاشتغل عن عمرو واقبل على سادة قريش، فألهاه حرصه على إسلامهم وهم كفرة عمن اسلم، ونما يريد أن يقرأ وأن يستزيد من العلم. وبات النبي ليلته مسهد الجفن قلقاً، يفكر فيما سمع من ربه، وفيمن عبس بالأمس في وجهه، واعرض عنه، حتى إذا طلع الفجر كان النبي يلتمس ابن أم مكتوم يلقاه هاشاً باشاً، يسلم عليه ويشد على يده ويقول له: مرحباً بمن عاتبني فيه ربي؛ وكان النبي يلقاه بعد ذلك فيكرمه ويسأله حاجته، وكأنما أراد الله أن يصبح إعراض النبي عنه إقبالاً عليه، وان يغدو عبوس النبي في وجهه بشاشة له وارتياحاً للقائه، وإذا عمرو ابن قيس مؤذن لرسول الله ، وإذا عمرو بن قيس خليفة رسول الله على المدينة، لم يستخلفه النبي عليها مرة أو مرتين، ونما استخلفه عليها في غزواته ثلاث عشرة مرة، وإذا النبي يخرج إلى الحجة الوداع فلا يستخلف على المدينة إلا عمرو بن قيس. وكان حقاً قول المصطفى: أدبني ربي فاحسن تأديبي

محمد قدري لطفي