مجلة الرسالة/العدد 50/الخبز الأسود

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 50/الخبز الأسود

​الخبز الأسود
Les Pains noirs​
 المؤلف أناتول فرانس
ترجمةحبيب المعوشي
الخبز الأسود
ملاحظات: الخبز الأسود هي قصة قصيرة بقلم الكاتب الفرنسي أناتول فرانس. نشرت هذه الترجمة في العدد 50 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 18 يونيو 1934



لأناتول فرانس

ترجمة حبيب المعوشي

كان في مدينة فلورانسا العظيمة بتقادم عهدها، الخالدة بنفيس متاحفها، رجل وافر الثراء يقال له نقولا نزلي، وكان إذا طلعت الشمس يتزوى في مخدعه، ويلبث سحابة نهاره جالساً إلى مكتبه يخط في دفاتره أرقاماً وينقل أخرى. وكان عاهل البلاد وبابا الكثلكة مدينين له بمبالغ باهظة، ولم يكن يعامل المراوغين والمكرة وخافري الذمم محاذرة منهم، ومخافة أن يقع في حبائلهم ويعرض أمواله للضياع. وكان من اجل هذا يقظاً حذراً، وقد جمع أموالاً وافرة، وجرد مدينيه الكثيرين من أملاكهم ومتاعهم ومقتنياتهم. وكان أهالي فلورانسا يجلونه ويخصونه بالاحترام من اجل ثرائه، وكان يقطن قصراً له لا يدخله النور إلا من كوى ضيقة مستديرة، لان الحرص والحرس يحدوان الأغنياء إلى تحصين دورهم وإيصاد أبوابها ليصونوا ما حشدوه فيها من أموال وكنوز وحلي، جمعوها بالإفك والمخاتلة والخداع. ومن اجل هذا أيضاً كان قصر نقولا نزلي محاطاً بالأسوار العالية المنيعة والسلاسل الحديدية الصلبة الثقيلة.

وكان قد استقدم امهر الفنانين وأحذقهم، فرسموا على جدران القصر الداخلية صور فتيات فاتنات، يرمزن إلى أسنى الفضائل واسماها، وصور أحبار إسرائيل وأنبيائه وملوكه. وكان معلقاً على جدران بعض الغرف كثير من النسائج الموشاة بفتوحات الإسكندر وتربستيان ووقائع حروبهما العظيمة كما هي متناقلة بالتواتر ومدونة في بطون التواريخ.

وكان يطيب لنقولا نزلي هذا أن يظهر سواطع ثروته بما كان يأتيه من أعمال الخير: فأنشأ على نفقته خارج أسوار المدينة مستشفى نقشت على أفاريزه رسوم ترمز إلى امجد أعمال حياته. وقد علق الفلورانسيون رسمه في محراب المعبد الجديد المشيد على اسم العذراء مريم، عرفاناً بجميله، وتخليداً لذكرى مبالغ وافرة تبرع بها لإتمام بناء هذا المعبد. وقد مثل في هذا الرسم مضموم اليدين جاثياً على قدمي العذراء. وكان يدل عليه في صورته هذه وجهه الشاحب الكالح، وعيناه الحادتان، وقبعته الحمراء، ودثار مفري اعتاد الظهور به في المجتمعات. وكان رسم زوجه (منى يسمانتونا) معلقاً في المحراب أيضاً في الجهة المقابلة، قرب صورة العذراء، وكان الرسم يمثلها في موقف الصلاة وعلى وجهها بادية سمات الكابة والخفر والخشوع دلالة على احتفاظها بعفافها.

وقد كان نزلي فوق هذا في طليعة المواطنين الذين أسسوا الجمهورية؛ فلم يخالف يوماً شيئاً مما سن في البلاد من شرائع ووضع من نظم، ورسم من المراسيم، وفرض من قوانين. ولم يعن قط بشؤون البؤساء والمعوزين، ولم يتدخل في أمر من قضى عليهم رجال الحل والعقد بالعقاب أو التغريم أو الأبعاد، بحيث لم يفقد في أعين القضاة ورجال السلطة شيئاً مما أحرزه لديهم من مكانة ومقام، بوافر ثروته وحسن سيره وانقياده.

ففي ذات مساء من أيام الشتاء عاد إلى قصره متأخراً على غير عادته، فوجد نفراً من المتسولين نصف العراة محتشدين أمام الحديقة. فلما أبصروه احتاطوا به وبسطوا له أيديهم مستجدين. فزجرهم بعنف وانهال عليهم بالسب والشتم وأقصاهم عنه بفظ الكلام وقارسه فتفرقوا حلقات واجمين جزعين - غير أن الجوع وقد اخذ مأخذه منهم حملهم على لم شعثهم وإعادة الكرة على نزلي فرجعوا كأنهم مراجل تغلي واحتاطوا به ثانية بشكل نصف دائرة وطفقوا يضجون ويولولون ويلغطون ويصيحون صيحات تماثل عواء الذئاب الضارية واخذوا يسألونه بأصوات ملؤها التهدج والتهديد خبزاً يأكلونه فهم بالانحناء على الأرض ليلتقط حجارة يرشقهم بها، ولكنه ابصر أحد غلمانه آتيا وعلى رأسه طبق عليه أرغفة من الخبز الأسود جاء بها ليفرقها على المشتغلين في اصطبلات القصر ومطبخه وحديقته فأومأ إليه كي يدنو منه، ولما اقترب شرع نزلي يلقي بملء يديه على أولئك الجياع ذلك الخبز الأسود فهاجوا وماجوا وهجموا في هرج ومرج يدفع بعضهم بعضاً متزاحمين متسابقين على تلقف تلك الأرغفة والتقاطها، ولما خف صخبهم وسكن لغطهم وهدأت ثورتهم وحنقهم دخل نزلي في داره ونام، وفيما هو مستغرق في رقاده أصيب بضربة مخية أودت بحياته وكان موته سريعاً جداً بحيث خيل إليه انه لم يزل بعد على قيد الحياة. وبعد هنيهة شعر انه في مكان مقفر مظلم ثم ابصر ميكائيل رئيس الملائكة أتيا إليه قدماً وهو يحمل قسطاساً ذا كفتين، فلما أدركه الملك اخذ يضع في إحدى الكفتين ما كان في حيازة نزلي من حلى أرامل وأموال أيتام وقطع ذهبية وحجارة كريمة ونقود مختلفة كان أحرزها بالغش والربا الفاحش - ففهم نزلي انه قبض وانه إنما جيء به إلى ذلك المكان ليحاسب فقال للملك: أما وقد وضعت في هذه الكفة ما جمعته بالغش والحرام فمن العدل أن تجعل في الكفة الأخرى ما عملتهمن مبرات وصنعته من حسنات فأرجو منك يا سيدي أن تجعل فيها ما شدته من معاهد للبر والعبادة: ضع المستشفى العظيم الذي أقمته خارج أسوار المدينة، ضع القبة الضخمة التي أنشأتها لمعبد العذراء مريم، ضع. . . فقاطعه الملك وقال: هدئ روعك يا نقولا واخلد إلى السكينة فلن اغفل شيئاً من صالح أعمالك. قال هذا ووضع بيده اللبقة اللطيفة ذينك المستشفى والقبة في الكفة الأخرى ولكن الأولى ظلت راجحة. فقال نزلي: فتش جيداً لعلك تجد لي أعمالاً صالحة أخرى، ومع هذا أراك أهملت جرن الماء المبارك الذي قدمته لكنيسة القديس يوحنا، وغاب عنك منبر الخطابة الذي صنع على نفقتي في معبد القديس اندراوس، ونسيت بنوع خاص تمثال عماد السيد المسيح فهو عظيم جداً وقد كلفني نحته الدقيق البديع المتقن مبالغ طائلة. فجعل الملك كل هذا في الكفة أيضاً ولكن رجحان الأولى مازال عظيماً - فامتقع وجه نزلي روعة وجزعاً وغشى جبينه عرق بارد فأدرك انه هالك، وتدبران الجحيم المعد للخطاة والأشرار سيكون مصيره، ثم التفت إلى الملك وقال: أأنت واثق يا مولاي من ميزانك وصحته؟ فابتسم الملك وقال: إن قسطاسي وان خالف بشكله موازين مرابي باريس وصيارفة البندقية إلا انه في منتهى الدقة والضبط: فقال نزلي أنى يكون هذا؟ أفلا يزيد في قسطاسك وزن القبة الضخمة والمنبر الكبير والتمثال العظيم والمستشفى الفسيح العالي بكل ما فيه من أسرة وعدد ومعدات على وزن قلامة الظفر وقشة الحقل وريشة الطائر؟ فقال الملك: لست ادري ولكن الأمر كما ترى، فمساويك وآثامك لا تزال حتى الآن ترجح كثيراً على مباراتك وحسناتك. فقال نزلي: وهو يصر بأسنانه وفرائصه ترتعد وركبتاه تصطكان هلعاً ورعباً: يا لشقائي! وما عسى أن يكون مصيري؟ أأنا هالك؟ وهل إلى النار مآلي؟ فقال الملك: رويدك يا نقولا إني لم أنجز بعد عملي إذ بقى وزن هذه، مشيراً إلى أرغفة الخبز الأسود التي ألقاها نزلي مكرهاً على الفقراء المعوزين في مساء اليوم السابق، ثم جمع الملك تلك الأرغفة وضمها إلى ما في كفة الأعمال الصالحة فإذا بهذه الكفة قد تحركت وبدأت تثقل وتهوي إلى أسفل، بينا الكفة الأخرى أخذت تخف وتشيل، ولبثت حركة الكفتين تتراوح هنيهة بين هبوط وصعود حتى سكنت، فإذا الكفتان متعادلتان وزناً ومستوىً. فدهش نزلي مما رأى وكأنه لا يصدق عينيه.

فقال له الملك: انك والأمر كما ترى لا تستحق الجنة جزاء ولا تستوجب النار عقاباً، فعد إذن إلى فلورانسا، وواصل الإحسان على الفقراء عن رضىً ولو بالخبز الأسود، ولا تدع أحداً يحس بالخير الذي تصنعه، وثق بأنك إن فعلت هذا وواظبت عليه تخلص، إذ لا يكفي أن يفتح الله أبواب الجنة للص النادم وللبغي التي تحوبت بغاها وندمت عليه وبكت من اجله وتابت عنه، بل يجب أن يخلص بواسع رحمته من النار غنياً أيضاً، فكن أنت هذا الغني ووال الإحسان ولو بالخبز بعد أن تبينت مبلغ وقعه وثقله في قسطاس العدل الإلهي.

قال الملك هذا واختفى، وبعد قليل أفاق نزلي من رقدة الموت وجلس في سريره يتأمل في ما حدث ويعجب مما رأى. ثم نهض بعد أن وطد النفس على العمل بنصح الملك وموالاة المعوزين بالصدقات والحسنات لينال الخلاص - وهكذا لبث طيلة ثلاث سنوات قضاها على الأرض بعد موته الأول كثير الإشفاق على الفقراء، وافر الرحمة على البؤساء والمعوزين، مواظباً على فعل الخير مواصلاً أعمال البر والصلاح.

حبيب المعوشي