مجلة الرسالة/العدد 5/بين السوامر والصحف
مجلة الرسالة/العدد 5/بين السوامر والصحف
أسير الجهاد:
بين عشية وضحاها نزل صديقنا الأستاذ محمد توفيق دياب من قصر صاحبة الجلالة الصحافة، إلى سجن المجرمين من سلاب الأموال وقتلة الأنفس، لأنه رأى رأياً في سياسة هذا البلد عن إخلاص وعقيدة فلم يقره عليه القانون القائم، وحاولت صاحبة الجلالة أن تعصمه من أمر القضاء بالرحمة، ومن تنفيذ الحكم بالعفو، ومن قسوة التنفيذ بالرجاء، فما رجعت بطائل. وظهر أن جلالة الصحافة كجلالة الحسن: رواء في العين، ولا سلطان في اليدين!!
إنا نؤمن بعدالة القضاء كما نؤمن بحكمة القدر؛ ولكن في السجن الموحش المظلم فُرجة قد ادخرها القانون لضحايا العدل؛ فإذا لم تتسع لأمثال دياب فلمن تتسع؟ أن الكاتب الذي يحرق مخه وعصبه ليضيء الطريق لشعبه، ويغذي حيوية قومه بعصارة عقله وقلبه، ولا يبتغي من وراء جهاده غير مرضات وطنه وربه، لجدير باحتمال قسوته إذا قسا، واغتفار زلته إذا زل.
أن خطأ الاجتهاد في الرأي لا يعتبر جريمة الا في اصطلاح القانون الذي تسنه الحكومات له، فإذا ما اتسعت الصدور، أو تبدلت الأمور، عاد العمل بالقول المأثور: للمجتهد أجران إذا أصاب، وأجر إذا اخطأ. فإذا كانت جريمة الأستاذ دياب من النوع الذي يحرُم هنا ويحل هناك، ويوجب العقوبة اليوم ويقتضي المثوبة غداً، فأن شديدا على الضمير أن يعامل في سجنه معاملة الجناة والعصاة، فيعيش في غير شكله، ويشتغل في غير شغله، ثم يحرم لذة الجسم فلا يستريح، ومتعة الروح فلا يقرأ، وحق المريض فلا يعالج.
درس في الإحسان:
زار صاحبا الجلالة الإيطالية وادينا الحبيب فحلاّ في ربوعه حلول السعادة، ونزلا من أهله منزل الاجلال، وأفاضا على عاصمته وصعيده غمراً من سراوة الملك، ونبالة الخلق، ثم اختصا فقراء الإسكندرية بقرابة ألف جنيه على ما روى المقطم، فكان هذا العطف السامي موضعاً للتفسير والتأويل، ومثالا لاختلاف العقول في الاستنباط والتعليل، فمن قائل أن صاحب الجلالة أراد تعميم الإحسان في أجناس بني الإنسان، والإسكندرية شبه دولية، قائل أنه أراد تخصيصه، وكثرة الجالية الإيطالية، تنزل ربوع الإسكندرية. والأمر في كلتا الحالين مثل في شرف الغاية، لأن مبعث التعميم عاطفة الإنسانية، ومبعث التخصيص عاطفة الوطنية.
كلام طرآني:
ذكرنا في معرض الكلام عن أسلوب الأستاذ محمد بك مسعود أنه (منذ توفر على محاكاة الأستاذ وحيد في تحقيق اللغة، ومباراة شيخ العروبة في تمحيص التاريخ، بدت على أسلوبه الصحيح أعراض الغرابة التي تلازم اللغويين، والاعتداد الذي يساور العلماء).
وهذا الكلام كما ترى نزيه القصد بريء الدلالة. ولكن الأستاذ وحيدا وريث العجَّاج، وخليفة الزجَّاج قد طوع لنفسه أن يرد عليه في الأهرام بهذا الرد فقال:
(جاء في مقال للأستاذ الكبير المفضال محمد مسعود هذا اللفظ (طرآني) فقال له كاتب في صحيفة أغربت في الكلام إغراب وحيد وشيخ العروبة (يعني برهان العلم والأدب أحمد زكي باشا)
(وأني أقول للكاتب رأى القارئون عدوته (بفتح العين وإسكان الدال) ليس الطرآني من غرائب الكلام. وكفى قولي له أنك تراه من بلاغة اللغة في كتاب الزمخشري (أساس البلاغة) الذي قيل فيه: ومن خصائص هذا الكتاب تخير ما وقع في عبارات المبدعين. قال الأمام الزمخشري في أساس البلاغة: رجل طرآني، وحمام طرآني، لا يدري من أين جاء، وكلام طرآني الخ.
(اجتزئ بقولي لكاتب (ذي عدوة) ما قاله الأعرابي: ليس هذا بغريب ولكنكم في الأدب غرباء)
ونحن نقول بدورنا للأستاذ الجليل: لقد أغربتم فلم نفهم، وأفصحنا فلم تفهموا، فإذا كنا في الأدب غرباء، فأنتم في اللغة أدعياء، أليس كذلك؟
وهذا أيضاً!
أخذ صديقنا الأستاذ أحمد أمين على بعض كتابنا أنهم إذا تناظروا تخاصموا، وإذا تناقشوا تشاتموا، ونسي أن يقول كذلك أنهم إذا نقدوا تلمسوا أسباباً للنقد تدل على سوء القصد، وأحدث الأمثلة على ذلك أن الأستاذ (ع. ع) وهو أديب نابه لا يُتهم في علمه ولا في فهمه، قد كتب في البلاغ بمناسبة ضحى الإسلام يقول ما مؤداه: أن أدباءنا قد استمرءوا (مائدة العراق) فهم إذا كتبوا في الأدب كتبوا عن العراق، وإذا بحثوا في العلم بحثوا في العراق، ثم نعى على صاحب ضحى الإسلام أن يغفل مصر، وفيها أنشئ الأزهر، وإليها هاجر العلماء. ولو قرأ الأستاذ الكتاب لوجد فيه فصلا عن مدرسة الإسكندرية. بل لو قرأ المقدمة لوجد المؤلف يقول: (عنيت بضحى الإسلام المائة سنة الأولى للعصر العباسي) وفي هذه المائة سنة لم يكن أسس الأزهر ولا سقطت بغداد! ومن الغريب أن يقول الأستاذ للمؤلف: إن طول النظر مرض ذكرته الأطباء، وهو يعلم أن قصر النظر كطوله سواء بسواء!