مجلة الرسالة/العدد 499/الحضارات القديمة في القرآن الكريم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 499/الحضارات القديمة في القرآن الكريم

مجلة الرسالة - العدد 499
الحضارات القديمة في القرآن الكريم
ملاحظات: بتاريخ: 25 - 01 - 1943



للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

- 2 -

الحضارة المصرية القديمة

كان لقدماء المصريين حضارة رائعة يعتز بها الآن أبناء مصر، ويفد السائحون من سائر الأقطار لمشاهدة آثارها الباقية، والتمتع برؤية عجائبها التي تملأ النفس روعة، وتفعم القلب إعجاباً. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحضارة العظيمة فيما قصه من أخبار فرعون وموسى عليه السلام، ولكنه لم يمدح منها إلا ما يستحق المدح، ولم يطر منها إلا ما يستحق الإطراء، وذلك ما كان منها متجهاً إلى مصلحة الرعية، نم شق الأنهار، وتعمير الأرض، والعناية بتوفير خيراتها للناس، حتى تنمو بذلك ثروتهم، وتسعد به حياتهم، فلا يتمتع الملك وحده بالحياة السعيدة، بينما تعيش الرعية بجانبه في الذل والشقاء. وقد كان للحضارة المصرية عيوب بجانب هذه المحاسن فأشار القرآن الكريم إليها، وندد أشد تنديد بها، وذكر أنها هي التي قوضت بنيان هذه الحضارة، وجعلتها تنتقل إلى قوم آخرين، ساروا في الأرض سيرة صالحة، وأقاموا فيها موازين العدل، وتلك سنة الله في الخلق، كما قال تعالى في الآية - 150 - من سورة الأنبياء: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) فالمراد بذلك الصالحون لعمارتها، وإقامة بنيان الحضارة فيها، وهذا هو الذي يشهد به التاريخ القديم والحديث، فأنا نرى فيه أن الحضارة الإنسانية لم تكن وقفاً على أمة من الأمم، ولم يستأثر بها شعب من الشعوب، وكم من شعوب ظهرت بهم الحضارة فأبطرتهم، وأخذوا ينظرون إلى أنفسهم نظرة إعجاب وإكبار، وينظرون إلى غيرهم نظرة استهزاء واحتقار، ويرون أنهم أوثروا بالتقدم على غيرهم إيثاراً، وقد بلغ من بعضهم أن زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، فلم تكن إلا عشية وضحاها حتى سلبهم الله عزهم، وأورثه ثوماً آخرين صالحين متواضعين، ديدنهم العمل، ولا يأخذهم شيء من الغرور والكسل

وهذه هي الآيات التي وردت فيما يستحق المدح والإطراء من الحضارة المصرية القديمة، وهي تصف ما تركه فرعون من آثار هذه الحضارة في مصر، حين غرق هو وجنوده في البحر، ففي هذا يقول الله تعالى في الآيات: 24، 25، 26، 27، 28، 29 - من سورة الدخان: (واترك البحر رهواً إنهم جند مغرقون، كم تركوا من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم، ونعمة كانوا فيها فاكهين، كذلك وأورثناها قوماً آخرين، فما بكت عليهم السماء وما كانوا منظرين)

ويقول أيضاً في الآيات - 57، 58، 59، 60 - من سورة الشعراء (فأخرجناهم من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم، كذلك وأورثناها بني إسرائيل، فأتبعوهم مشرقين)

ولاشك أن القرآن بهذا المدح والإطراء لما كان في مصر على ذلك العهد، يتفق مع الغاية التي قلنا إن الإسلام جاء من أجلها، وينادي بأنه ليس ديناً يدعو إلى إقامة نساك وعباد في الأرض لا غير، ويزهد الناس في تعميرها بشق الأنهار، وإقامة الزروع والبساتين، وغير ذلك من معالم الحضارة، ووسائل السعادة في هذه الحياة، بل يدعو مع العبادة والنسك إلى ذلك كله، ويرى أنه لا تتم سعادة الآخرة، إلا بسعادة الدنيا

وقد ذكر المفسرون في تلك الجنات والعيون أن البساتين كانت ممتدة في حافتي النيل فيها عيون وأنهار جارية، وذكروا في ذلك المقام الكريم أنه أراد به مجالس الأمراء والرؤساء التي كانت لهم، وقيل إن فرعون كان إذا قعد على سريره وضع بين يديه ثلثماثة كرسي من ذهب، يجلس عليها الأمراء والأشراف من قومه، وعليهم أقبية الديباج مخوصة بالذهب

ولا يفوتنا هنا أن ننبه إلى خطأ المفسرين فيما ذكر الله من إرث بني إسرائيل في تلك الآيات، فقد ذكروا أن الله عز وجل رد بني إسرائيل إلى مصر بعد هلاك فرعون وقومه فأعطاهم جميع ما كان لفرعون وقومه من الأموال والأماكن الحسنة. ولاشك أن من يدرس تاريخ بني إسرائيل من عهد موسى إلى ظهور الإسلام، وكذلك تاريخ مصر في ذلك العهد، لا يجد شيئاً فيهما يثبت أن بني إسرائيل قام لهم فيه ملك في مصر، أو أنهم ردوا إليها فأعطوا ما كان لفرعون وقومه من الأموال والأماكن الحسنة. والحق أن الله تعالى يشير بذلك إلى بساتين وعيون كانت لبني إسرائيل في فلسطين، وذلك بعد أن قامت لهم فيها تلك الدولة العظيمة، وبلغت أوج عظمتها في عهد داود وسليمان عليهما السلام. فالضمير في (أورثناها) يعود إلى مطلق الجنات والعيون وما ذكر معها، ولا يعود إلى خصوص ما كان منها في مصر على ذلك العهد، وهذا من أسلوب الاستخدام المألوف في لغة العرب، ويعتمد في بيان المراد منه على السياق وقرائن الأحوال

وأما الآيات الواردة فيما يستحق الذم من الحضارة المصرية القديمة، فهي التي وردت في قيام الحكم فيها على التفريق بين الشعوب، واستخدام الشعوب الضعيفة في مصلحة الشعوب القوية، وذلك قوله تعالى في الآيات - 4، 5، 6 - من سورة القصص، (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفدسين، ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون)، وقد ذم القرآن الكريم من ذلك ما يستحق الذم، لأن الحكم الصالح يجب أن يقوم على التسوية بين الشعوب، وعلى الأخذ بيد الشعب الضعيف حتى يصل إلى ما وصل إليه الشعب القوي، فلا يرهق شعب في العمل لسعادة شعب أقوى منه، ولا يرى شعب أن يستأثر بأسباب السعادة لنفسه، لأن هذا مما يثير الأحقاد بين الشعوب ويعوقها عن التعاون في العمل لسعادة البشر في هذه الحياة، بما يقوم بينها من المنازعات والحروب، ولا سعادة لها إلا بالسلام، ولا سلام لها إلا بالعدل والمساواة.

(يتبع)

عبد المتعال الصعيدي