مجلة الرسالة/العدد 498/الطيران بين أسلحة الحرب
مجلة الرسالة/العدد 498/الطيران بين أسلحة الحرب
للملازم الأول حسين ذو الفقار صبري
لم تعد الحرب في مختلف نواحيها بقادرة على الاستغناء عن سلاحها الجديد: (الطيران)، الذي لم يكن بالأمس إلا بدعة طارئة، وأصبح اليوم ضرورة أُقحمت على كل فكر وكل رأي، حتى ذهب الكثيرون، ممن قنعوا بعابر الملاحظة دون عميق البحث، إلى القطع بأن أهميته تفوق غيره من الأسلحة، فهو منها المحورُ والدولاب، وله عليها العرش والسلطان؛ وتمادوا في إغضاء الطرف عن نقائصه، مُعْلين من شأنه، رافعين من ذكره، حتى وُصف بما لا قدرة عليه، ونعت بما لا طاقة له به.
جاب الإنسان الأرض شرقها وغربها، وشمالها وجنوبها، وسبح في الماء وارتقى الجبال، وحاول ثم حاول محاكاة الطيور بالتحليق في الفضاء، ولكنه هنا فشل مرراً، وارتد عن أحلامه تكراراً، حتى ظن أن التصاقه بالأرض قانون لا يُخْرق، وأن تحليقه في الهواء أمنية لن تُحقّق. فلما حلّق أول من حلق، انبهر البشر وتلمسوا طريق التأويل والتعليل، فرموا الطائرة بصفات تخيلوها، وحبوها بأحوال ليست لها. وقد انساقوا في ذلك السبيل وراء ما أحرزه الطيران من تقدم حثيث ملموس، نتيجة طبيعية لما زامل زمانه من اطراد مستمر في شؤون الآلات والكهرباء وصناعة المعادن، مما خف وزنه واشتدت صلابته. كل تلك الأشياء وغيرها تضافرت فأغدقت على الطيران من عندها، ودفعت به إلى الأمام عدة مرات؛ ولكنا إذا تأملنا الأمر قليلاً وجدنا الطائرة جسماً كسائر الأجسام، يخضع لقوانين الطبيعة كل الخضوع. هي جسم ساير تلك القوانين، وتحايل عليها واسترضاها فانقادت له تساعده وتحابيه وتزينه للناظرين
سرُّ الطائرة في استخدامها فراغاً لا نراه ولا نلمسه، سرُّها في استمدادها القوة من انضغاط هواء تحت سطح جناح انطلق انطلاق الشهاب، سرها في التفاتها إلى عنصر أحاط بنا منذ الأزل فألفناه، حتى انقلبت الألفة إلى عدم اهتمام بل إلى إهمال
استمدت الطائرة قدرتها على الارتفاع من الهواء المضغوط تحت الجناح، فغالبت جاذبية الأرض وقهرتها، قهرت تلك القوة التي ألصقتنا بالأرض دواماً، والتي لم نتفهمها جيداً حتى ترجم العلم مفعولها إلى لغة قريبة من مداركنا، لغة الكتل والأثقال والأوزان. الجاذ مقدارها ثابت لا يتغير، أما جسم الطائرة - أو بالأحرى ثقلها - فهو العامل المتقلب، المتزايد أو المتناقص. هو الخصم الذي يهاجمه المهندس على أوراقه أولاً، وفي المصانع ثانياً، ليستخلص من عنصر الهواء أكبر غنم، ويستخلص لطائراته أنْفَذَ الخواص، ولصفاتها أعلى منسوب.
تتباين خواص الطائرات المختلفة تبعاً لتباين طرق توزيع وزنها على مختلف أجزائها. وطائرات الحرب أغراضها كثيرة متنافرة: هذه تحتاج لسرعة فائقة، وتلك لسعة في النقل عظيمة، وهذا يطالب بطائرة مدافعها فتاكة، وذلك بأخرى قنابلها كثيرة. هذه الأمور وغيرها تعرض للمهندس فيوازن بينه، ويقارن ويعادل، حتى يصل آخر الأمر - بعد مجهود طويل وتجاريب عديدة - إلى أحسن الحلول، أو على الأقل إلى أقرب من الغرض المطلوب
يتكون ثقل الطائرة من وزن أشياء شتى: أهمها المحرك. والهيكل بما فيه الأجنحة، والوقود، والمدافع، وذخيرتها، والقنابل وصفائح الفولاذ الواقية. يختص المحرك منها بأكبر نصيب، كيف لا وهو القوة الدافعة، تزيد سرعة الطائرة بزيادته، وتنمو مقدرتها التسلقية بنموه
ولكن هذه المهارة في المناورة، يلزمها علاوة على القوة الدافعة أجنحة سميكة، معدنها متين، أقدر من غيرها على احتمال الضغط العنيف، الطارئ من حركات انقلاب حادة فجائية. ومدى التسلق يحتاج، علاوة على المحرك القوي، إلى أجنحة طويلة عريضة تعترف من الهواء كثيراً. أما السرعة، فهي وحدها التي تقنع بتركيز الوزن كله في المحرك
ويا ليت الأمر يقف بالمحرك عند هذا الحد، فهو لا يكتفي باستحواذه على نصيب الأسد، بل يتطاول أيضاً إلى ما بقى من ثقل يحتجز منه لملحقاته. الزيت والوقود؛ تلك السوائل الثقيلة الوزن التي لا غنى له عنها، تغذيه بحيويتها، وتخلق منه قلباً نابضاً لجسم كان هامداً. لم يبق إذن من ثقل الطائرة إلا جزء ضئيل تتنازعه المدافع وذخيرتها، والقنابل وأدوات تصويبها، والدروع الواقية لأرواح الطيارين. تنازع عظيم لا يفصل فيه المهندسون ولا يبتون فيه بقرار، إلا على ضوء نسب مخصوصة ترتفع وتنخفض تبعاً لما تقوم به الطائرة من واجبات سواء أكانت متعددة النوع أم محدودة
فإذا تأملنا المقاتلات مثلاً وجدناها تحتاج إلى سرعة فائقة تلاحق بها ما تتخطى الحدود من قاذفات، أي أنها - بلغة النسب - تحتاج لضآلة في الجسم إزاء قوة المحرك؛ ولكنها ضآلة تقف عند حده، إذ ما قيمة تلك الطائرة دون مدافع عديدة وكمية من الذخيرة كبير: مدافع قد تبلغ الثمانية عداً، وذخيرة قد يتعدى معدل إطلاقها الخمسة آلاف رصاصة في الدقيقة الواحدة. هذه الضآلة إذن يجب أن تتسع لتلك المدافع وهذا الرصاص، ولمقدار ضخم من الوقود فرضه علينا محرك قوي، مقدرته على الالتهام عظيمة
هذه أخيراً طائراتنا، توصلنا إلى اصطناعها سريعة ما وسعنا الاصطناع، وأوجزنا من طول أجنحتها ما أوجزنا، وضمَّرنا من خصرها حتى ضمرت ما وسعها الضمور. ولكن تلك السرعة اللعينة تعلق بها علوقاً حتى عند الهبوط، فترى الطائرة تنهب الأرض نهباً، ولا تستطيع الوقوف إلا إذا انفسح لها المجال في المطارات. والمطارات الفسيحة لا تتسع لها كل أرض، ولا تتسع لتكاليفها حتى الميزانيات، فنضطر إلى إلحاق بعض القلابات بسطوح الأجنحة السفلى لتحد من سرعة الطائرة عند الهبوط. وهذه القلابات تعني زيادة في الحجم، وزيادة في الوزن
وأحياناً لا نشعر بالقاذفات إلا وهي قريبة منا على أهبة الهجوم، فنطلق المقاتلات من معاقلها. ولكن هذه الطائرات القصيرة الأجنحة، السريعة كل السرعة في الاتجاه الأفقي، تعجز عن الارتفاع إليها في مدى الزمن المطلوب، فنعود إلى المهندسين يطيلون أجنحتها، ويزيدون من مساحتها، ليعينوها على التسلق العاجل، مضطرين إلى التنازل عن قليل من سرعة الانطلاق، مقابل بعض الربح في سرعة التصاعد
وإذا انتقلنا إلى القاذفات، وهي أداة التحطيم الاستراتيكي وجدناها في حاجة إلى كثير من الوقود، وكثير من القنابل، وبعض الرشاشات تذود عنها فتك المقاتلات، كما هي طائرات كبيرة الحجم ضخمة الجسم، وهذا يحد من سرعتها كثيراً، ورشاشاتها تلك لا تحميها كل الحماية، فتعمد إلى تغليف مواطنها الحساسة بالصفائح السميكة، وهذا أيضاً عبء كبير يزيد تباطؤها أن لم نعوضه بالتقتير عليها في إحدى وديعتها الأساسيتين: أو القنابل. فإن شح وقودها عجزت القاذفة عن إدراك بعيد الأهداف ولزمت دائرة القريب منها، وإن ضُنَّ عليها بالقنابل قنعت بإغارة ضعيفة عجفاء على الأهداف القاصية. وقد تتدرج الحالات من هذه إلى تلك. على أن يظل مجموع ما حمِّلت به الطائرة من أثقال داخل النطاق المسموح.
ولكنا أحياناً نواجه ضرورات قاسية تحتم علينا تحطيم بعض مرافق العدو النائية تحطيماً فعالاً. فنود لو تمكنا من الارتفاع بالزاخر من الوقود والوافر من القنابل، فلا تسعفنا عندئذ إلا (القلاع الطائرة) البطيئة الحركة، المعرضة كل التعرض لهجمات المقاتلات، نراوغ هذه إما بالتسلسل تحت جنح الظلام، وإما بالتصاعد إلى طبقات عليا: هبط فيها ضغط الهواء إلى ما تحت الحدود اللازمة لاستيفاء أسباب الحياة. نتحايل على تلك الحال بإحكام منافذ غلاف الطائرة على جوف اصطنع فيه ضغط جوي يقارب الضغط العادي، بواسطة آلات ضخمة تعجز طائرات المطاردة الخفيفة الوزن عن حملها والصعود بها إلى هذه السموات البعاد
(البقية في العدد القادم)
حسين ذو الفقار صبري