مجلة الرسالة/العدد 498/أطوار الوحدة العربية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 498/أطوار الوحدة العربية

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 01 - 1943



المفوضات بين العرب والحلفاء

للأستاذ نسيب سعيد

قلت لك في حديثي الماضي أن الحالة بلغت أشدها من التوتر والجفاء بين العرب والترك، ما ينذر بشر مستطير، بل بثورة عربية كبرى، وغضبة مضربة جبارة. . . وأقول لك اليوم إن البريطانيين ما كانوا غافلين عن كل ذلك، وعما هنالك أيضاً من نضال داخلي، ومشادة سرية بين (الحسين) و (الاتحاديين) ذاع خبرها واشتهر أمرها

وكان اللورد (كتشنر) معتمد بريطانيا العظمى في مصر قبيل الحرب الماضية، ووزير حربيتها في أبانها، أول سياسي بريطاني عمل للتقرب بين العرب والحلفاء، وخاصة بين (آل الحسين) والإنجليز، وسعى لإنشاء صلات ودية منهم وبين حكومته، أملا في اجتذابهم واكتسابهم بعد ما اكتسب الألمان الترك

ففي أواخر شهر سبتمبر (أيلول) عام 1914 وصل إلى مكة تاجر مصري من حي الجمالية اسمه علي أفندي أصفر يحمل إلى الشريف عبد الله (أمير شرق الأردن اليوم) من المستر (ستورس) السكرتير الشرقي لدار الحماية كتاباً خاصاً عن الصداقة العربية - البريطانية، فلم يطلع الأمير عبد الله والده (الحسين) على الكتاب بل أكرم الضيف المصري وصرفه بسلام. غير أن الرسول عاد بعد أسبوعين يحمل كتاباً آخر من المستر (ستورس) نفسه كله وصداقة وإخلاص، فاطلع الأمير حينئذ والده على الكتابين، وبحثا في الأمر مليا

وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1914 عاد السيد علي المصري إلى الحجاز يحمل كتاباً ثالثاً من المستر (ستورس) كان السبب في ابتداء المفاوضات والمكاتبات بين العرب والحلفاء بصورة عامة، وبين الحسين والإنجليز بصورة خاصة

وفي شهر أكتوبر 0تشرين الأول) عام 1915 عقد (مؤتمر الطائف) بين الحسين وأنجاله، وفيه قرروا إعلان الثورة العربية بالاتفاق مع البريطانيين على أساس استقلال العرب وتحريرهم ووحدتهم. ومما قرروه في هذا المؤتمر أيضاً أن يعود الأمير فيصل (ملك العراق بعد ذلك رحمه الله) إلى الشام فيتصل برجال العرب فيها، وكانوا يفكرون في أن تبدأ الثورة هنا في ديار الشام فيدرس التدابير ويضع الخطط لتكون عامة تشمل الحجاز والشام والعراق، وأن يسافر الأمير علي إلى المدينة ويقيم فيها تحت ستار قيادة المتطوعين، فيتفق مع شيوخ القبائل وينظم أمرهم استعداداً ليوم الثورة، وأن يتولى الأمير عبد الله تنظيم قبائل الطائف والقبائل المجاورة لمكة، ويعد معدات العمل، وأن يشترك كذلك مع والده في المكاتبات والمفاوضات التي تدور مع البريطانيين. ولما رجعوا من الطائف انصرف كل منهم إلى إتمام ما اختص به من المهمات

وبينما كانت المفاوضات والمكاتبات السرية تدور بين دار الحماية البريطانية بمصر وشريف مكة بالحجاز، كان المستر (ستورس) يتصل بأقطاب حزب اللامركزية العربي في القاهرة، ويباحثهم في (القضية العربية)، ويدعوهم إلى زيارته في قصر الدوبارة ويسألهم عن خططهم وبرامجهم فيما لو دخلت تركيا الحرب، وماذا يكون موقفهم لو عمل الحلفاء على استقلال بلاد العرب، وهل يستطيع أبناء العروبة مؤازرتهم والنهوض بأعباء استقلالهم، فأجابوه:

(إن العرب يتمون استقلال وطنهم وإعادة غابر مجدهم وعزهم إذا كان لابد من انهيار دولة الترك. وهم على استعداد تام لتأييد كل سانحة وبارقة ترمى إلى استقلال العربي مهما كان شأنها. . .)

ولقد دارت مكاتبات سرية يومئذ بين الشريف حسين باسم العرب، والسر هنري مكماهون نائب جلالة الملك بمصر باسم بريطانيا العظمى لأجل إعلان الثورة أدت إلى الاتفاق على البنود الخمسة التالية التي تمت الموافقة عليها في الشهر الأول مع عام 1916 وهي:

أولاً: تتعهد بريطانيا العظمى بتشكيل حكومة عربية مستقلة بكل معاني الاستقلال في داخليتها وخارجيتها، حدودها شرقاً: خليج فارس، وغرباً: بحر القلزم والحدود المصرية والبحر الأبيض، وشمالاً حدود ولاية حلب والموصل الشمالية إلى نهر الفرات ومجتمعه مع الدجلة إلى مصبهما في خليج فارس ما عدا مستعمرة عدن فإنها خارجة عن هذه الحدود. وتتعهد هذه الحكومة برعاية المعاهدات والمقاولات التي أجرتها بريطانيا العظمى مع أي شخص كان من العرب في داخل هذه الحدود بأنها تحل محلها في رعاية وصيانة حقوق تلك الاتفاقيات مع أربابها أمراء كانوا أو من الأفراد

ثانياً: تتعهد بريطانيا العظمى بالمحافظة على هذه الحكومة وصيانتها من أي تدخل كان وبأي صورة كانت في داخليتها، وبسلامة حدودها البرية والبحرية من كل تعد كان أياً كان الشكل، حتى ولو وقعت فتنة داخلية من دسائس الأعداد أو من حسد بعض الأمراء، تساعد الحكومة المذكورة مادة ومعنى على دفع تل الفتنة، وهذه المساعدة في الفتن والثورات الداخلية تكون مدتها محدودة أي إلى حين تتم للحكومة العربية تنظيماتها المادية

ثالثاً: تكون ولاية البصرة تحت مشارفة بريطانيا العظمى إلى أن تتم للحكومة الجديدة المذكورة تنظيماتها المادية. ويعين من جانب بريطانيا العظمى في مقابل تلك المشارفة مبلغ من المال يراعى فيه حالة الحكومة العربية

رابعاً: تتعهد بريطانيا العظمى بالقيام بكل ما تحتاج إليه ربيبتها الحكومة العربية من الأسلحة والذخائر والمال مدة الحرب

خامساً: تتعهد بريطانيا العظمى بقطع الخط من مرسين أو من نقطة مناسبة في تلك المنطقة لتخفيف وطأة الحرب عن بلاد ليست مستعدة لها)

وظل الشريف حسين حتى بعد هذا الاتفاق الذي تم في شهر يناير (كانون الثاني) من سنة 1916 يعد ويسوف البريطانيين، وبعد العدة سراً للعمل الخطير، ويتأهب للوثوب. . .

وكان قد كتب إلى المندوب السامي في مصر كتاباً يعلمه بذلك فأجابه السر (أرثور مكماهون) في كتاب مؤرخ في 10 مارس (آذار) عام 1916 (6 جمادى الأولى سنة 1334) يقول فيه: (قد تلقينا رقيمكم المؤرخ في 14 ربيع الآخر 1334 عن يد رسولكم الأمين. وسررنا لوقوفنا على التدابير الفعلية التي تنوون اتخاذها وترونها موافقة للأحوال الحاضرة. إن حكومة جلالة ملك بريطانية العظمى تجيزها. ويسرني أن أخبركم بأن حكومة جلالة الملك وافقت على جميع مطالبكم، وإن كل شيء رغبتُّم بالإسراع فيه وفي إرساله هو مرسل مع رسولكم حامل هذا. وستحضر الأشياء الباقية بكل سرعة ممكنة. فتبقى في بور سودان تحت أمركم إلى حين ابتداء الحركة وإعلامنا رسمياً بها. وقد انتهت إلينا إشاعات مؤداها أن أعداءنا باذلون الجهد في أعمال السفن ليبثوا بواسطتها الألغام في البحر الأحمر، لإلحاق الضرر بمصالحنا هناك. فنرجوكم أن تسرعوا بإخبارنا إذا تحقق ذلك لديكم)

ومرت أربعة أشهر على هذا الاتفاق العربي - البريطاني قبل أن يطلق الشريف حسين بندقية من قصر الأمارة بمكة. وكان الحجاز كما قلنا يعاني من شدة الحرب وأهوالها أكثر من سواه من الأقطار العربية. فسدت أبواب البحر، وانقطع الحجيج، ونفذ القليل مما كان في البلاد من زاد، فضجت الناس، وهلك مئات من الجوع، وقد قال (الحسين) إنه ظل هو وأهل منزله سنتين يأكلون الدخن

مرت الأربعة أشهر وكان قد أصبح الأمير فيصل في مأمن من الأعداء، ولديه فوق ذلك من مالهم وسلاحهم ما لا يستهان به. وكانت الذخائر والسلاح والمال بدأت ترد عن طريق (بور سودان) من المصدر الذي أشار إليه المندوب السامي البريطاني في كتابه

فتوكل الشريف حسين علي الله، ونهض في صباح اليوم التاسع من شعبان سنة 1324 2يونيو (حزيران) عام 1916 قبل الفجر وبيده بندقية أطلقها طلقة واحدة كان لدويها صدى في جدة والطائف والمدينة، بل في سائر أنحاء العالم العربي

فأعلنت الثورة في مكة وجدة في اليوم الأول، وفي الطائف والمدينة في اليوم الثاني، وكان ما لدى العرب من القوات العسكرية موزعة متأهبة كلها، فحاصر الأمير زيد بجنوده قلعة (اجياد) بمكة وهجم الأمير عبد الله على الطائف، وكان الشريف محسن قائداً في جدة، والأميران علي وفيصل، وقد خرجا من المدينة يجمعان العربان ليحاصرا الترك فيها

وقد برهن أبناء الشريف على بسالة فيهم أظهرها القتال والصراع، وعززها الجلد في النضال والكفاح. ولم يمر شهر على حصار قلعة (أجياد) التي كانت تصب نارها على مكة، وخصوصاً على قصر الأمارة فيها، والشريف حسين في غرفته الخاصة في ذلك القصر يدير الحركة ولا يبالي بشظايا القنابل التي كانت تخترق السقوف والجدران؛ فلم يمر شهر كما قلنا حتى كلل الحصار بالنصر؛ فسلمت اجياد في 4 رمضان ثم استولى الأمير عبد الله على الطائف في 26 ي الحجة من تلك السنة

وفي 2 محرم عام 1335 الموافق يوم 16 نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1916 بويع الشريف حسين بالملك. وفي الشهر التالي اعترفت به دول الحلفاء الكبرى أي بريطانيا وفرنسا ملكاً على الحجاز، وجاء الأسطولان الإنجليزي والفرنسي إلى جدة يحملان إلى جلالة الملك تهاني تلك الدول، فخطب في حضرته أميرال الأسطول الفرنسي ودعاه بأعظم أمراء العرب ونختم حديثنا اليوم بكتاب صغير وجهّه إلى الشريف (حسين) خلف السر (أرثور مكماهون) في مصر المندوب السامي السر (ردجنلد ونجت) مؤرخ في 19 إبريل (نيسان عام 1927 و27 جمادى الثانية سنة 1335 وفيه ما يلي:

(فأؤمل ألا يبرح من بال جلالتكم أن الحكومة البريطانية هي التي تحترم المعاهدات، وهي حامية زمام الحق والعدل، والحليفة الوفية التي لا تخون العهود)

(دمشق)

نسيب سعيد

المحامي