مجلة الرسالة/العدد 495/(التلباثي)
2 - التلباثي «مجلة الرسالة/العدد 495/(التلباثي)» للأستاذ عباس محمود العقاد كثر الذين حادثوني أو كتبوا إلي بصدد مقالي عن (التلباثي) الذي نشرته الرسالة في عدد مضى؛ وبدا لي من أحاديثهم ومن رسائلهم أن بعضهم فهم المقال كما أردت أن يفهم؛ وبعضهم تجاوز به إلى الحد الذي أريده. وقد استزادني أناس من الكتابة فيه، وسألني أناس غيرهم أسئلة يقترحون الإجابة عليها. واحسبني ألبي مقترحاتهم جميعاً بما آثرت من الإجابة عن خطاب كتبه إلى صديقنا الأستاذ محمد شاهين حمزة نائب الدر السابق ولخص ما قراه تعليلا لأمثال هذه الحوادث - حوادث التلباثي - فقال: (. . . ذكر بعض العلماء أن الأجسام تصدر منها أثناء حركتها الآلية إشارات ورسائل تنطلق على أمواج الأثير كأنها محطات الإصدار في اللاسلكي، وهذه الرسائل التي تشير إلى شخصيات مصدريها وتحمل بعض أفكارهم تهز مراكز خاصة في أدمغة من لهم سابق معرفة بأصحابها أثناء انطلاقها، فتلتقطها هذه وكأنها محطات الاستقبال تقابل محطات الإصدار الأولى، وكان لكل إنسان محطتين أو جهازين للإصدار والاستقبال. ولما كانت هذه الرسائل متفاوتة القوى كانت هناك رسائل تصدر ميتة أو ضعيفة فلا تصل إلى أحد، وأخرى تصدر قوية لكن ضعفاً أو خللاً في محطة الاستقبال يحول دون تلقيها) ثم سألني الأستاذ رأيي في هذا وختم خطابه قائلاً: ونقطة أخرى أحسبها تحتاج إلى جلاء علمي هي: كيف بلغ صوت عمر بن الخطاب سارية وصحبه حين ناداهم بقوله: (يا سارية بن حصن. الجبل الجبل! فاستجابوا له؟) ومن اللازم فيما أرى أن أبداً بتقرير الحد الذي يكفينا أن نقف عنده فيما يرجع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وملكة التلباثي أو التلفزيون فقد أردنا أن نذكر علامات العبقرية عند بعض النفسانيين المحدثين، ومنها (الحساسية) الخاصة التي تلاحظ على بعضهم فيشتهرون بالغرابة في إيحاء الأفكار واستيحائها، وقلنا إن عمر بن الخطاب قد لوحظت عليه من ذلك علامات كثيرة كالفراسة وصدق الظن وسرعة التنبه إلى الفوارق الدقيقة بين المذوقات كما تنبه إلى الفارق بين لبن ناقة ولبن ناقة أخرى، وكلتاهما في مكان واحد ومرعى واحد ومما روي عنه حديث سارية الذي أشرنا إليه. وقد لخصناه وقلنا بعد تلخيصه: (لا داعي للجزم بنفي هذه القصة استناداً إلى العقل والى العلم أو إلى التجربة الشائعة. فإن العقل لا يمنعها، والعلماء النفسانيون في عصرنا لا يتفقون على نفيها ونفي أمثالها) ثم عقبنا على ذلك قائلين: (إن المهم من نقل هذه القصة في هذا الصدد أن عمر كان مشهوراً بين معاصريه بمكاشفة الأسرار الغيبية أما بالفراسة أو الظن الصادق أو الرؤية أو النظر البعيد، وهي الهبات التي يلحقها بالعبقرية علماء العصر الذين درسوا هذه المزية الإنسانية النادرة وراقبوها) فسواه صحت قصة سارية أو صح جزء منها أو لم يصح شئ منها على الإطلاق، فيكفي أن تروى عن عمر بين معاصريه، ليثبت لنا أمر محقق لا شك فيه، وهو أن (الحساسية الخاصة) كانت ملحوظة فيه حتى تنس إليه الناس ما نسبوا من رؤيته جيش سارية على البعد وندائه عليه. فهو قبل أن تقع هذه القصة كان من أصحاب (الحساسية الخاصة) التي يلحظها من حوله وينسبون إليها الحوادث التي تناسيها وهذه وحدها علامة كافية من علامات العبقرية، ولا حاجة معها إلى تحقيق ندائه على سارية واستماع سارية له كما جاء في القصة المروية أو على نحو يقاربها فهو في رأي من حوله رجل يحس الأشياء التي لا يحسونها، ويملك القوى النفسية التي لا يملكونها، وهذا كاف لا تصافه بعلامة بارزة من علامات العبقرية في رأي النفسانيين المحدثين وهنا نحن على (بر الأمان) الذي لا مجازفة فيه، ولا يكلفنا كثيراً ولا قليلاً في التعرض للتلباثي بالنفي والإثبات ولكننا إذا تجاوزنا هذا وتعرضنا لتحقيق التلباثي للحكم بإمكانها أو استحالتها، ففي وسعنا أن ننتقل من بر أمان إلى بر أمان مثله لا مجازفة فيه، وهو مطالبة الذين يجزمون باستحالتها بالدليل على ما يقولون لأن الجزم باستحالة شئ بغير دليل كالجزم بوقوعه عياناً بغير دليل، كلاهما خرافة لا يقبلها العقل، وإن جاء أحدهما من ناحية الإثبات وإنما الموقف السليم بين الإنكار والقبول أنك تترك الباب مفتوحاً لمن يثبت وينفي على السواء، فيجوز أن يأتي غداً من يثبتها ثبوتاً قاطعاً شك فيه؛ ويجوز كذلك أن يأتي غداً من ينفيها نفياً قاطعا لا شك فيه، ولا يجوز - حتى ذلك اليوم - أن تقطع باستحالتها على وجه من الوجوه. وكل ما امتنع القول باستحالته فهو معلق بالممكنات، ولا سيما إذا كثرت بيننا مشبهاته وشاع بيننا على درجات دون درجته القصوى، باتفاق الشعور بين ألوف من الناس يسألني الأستاذ شاهين: (كيف بلغ صوت عمر سارية وصحبه فاستجابوا له؟) فالجواب المأمون هنا أنني لا أعلم ولا أجزم بأن الصوت وصل واستجيب، ولا أجزم كذلك بأنه ممتنع الوصول والاستجابة ولكننا إذا قلنا بوصوله واستجابته فإنما يتصور العقل وقوع ذلك على صورة من صور ثلاث: الأولى: أن الصوت الذي سمعه سارية كان صوتاً مادياً يبلغ الأسماع كما يبلغها اليوم صوت المتكلم في المذياع على مسافات بعيدة والصورة الثانية: أن الصوت وصل بالإيحاء النفسي إلى الجيش كله فاتفقت نفوسهم جميعاً في لحظة واحدة على الاتجاه والاستيحاء والسماع والصورة الثالثة: أن الصوت وصل بالإيحاء النفسي إلى سارية وحده أو إلى سارية ومن شاركه في هموم القيادة، فشعر به فرد واحد أو أفراد قليلون وأسهل هذه الصور الثلاثة قبولاً في العقل، على ما نعتقد، هي الصورة الثالثة، وهي أن سارية توجه بنفسه إلى نفس عمر في مأزق شديد عليه وعلى عمر معاً فشهر به الخليفة وناداه وهما في لحظة التقابل بالوحي والاستيحاء هذه الصورة اسهل قبولاً من الصورتين الأخريين لأن الصورة الأولى وهي انتقال الصوت المادي مئات الأميال بغير الوسائل الصناعية التي نستخدمها في عصرنا يكلفنا أن نطبع العناصر المادية بطابع لم تعرف به قط فيما مضى وفيما حضر، ويقتضي أن يكون صوت سارية قد سمع في الجيش الذي معه وهو يستغيث، وقد سمع في المسجد الذي كان عمر يخطب فيه، وقد سمع الصوتان: صوت الاستغاثة وصوت الاستجابة على طول الطريق، ولم يذكر لنا رواة القصة شيئاً من ذلك، ولو ذكروه لتحدث به الألوف من جند سارية ومن المصلين مع عمر ولم يقتصر حديثه على بشير واحد أو نفر قليلين أما الصورتان الأخريان فكلتاهما تمثل لنا وصول الصوت أو وصول الخاطر على الأصح بطريق الإيحاء من نفس عمر إلى نفوس سامعيه، ولكن التقاء نفسين أيسر قبولاً من التقاء نفس واحدة من جانب، وألوف النفوس من جانب آخر، ولهذا قلنا أن التقاء الشعورين بين عمر وسارية أسهل الصور الثلاث قبولاً، متى قلنا بوقوع الاستغاثة ووقوع الاستجابة والأستاذ شاهين قد سأل في خطابه سؤالاً يشتمل على بعض الجواب الذي أجبناه حيث قال: (إذا كان الأمر أمر رؤية بعيدة فهل تقف الرؤية عند الماديات أو تتعداها إلى الافكار؟ فقد يحدث أن يذكر الإنسان شخصاً ويذكر معه أمراً معيناً، ولا يلبث أن يلقى الشخص الذي ذكره فيبادره هذا بحديث عن ذلك الأمر المعين بنفسه، كما حدث لي مراراً، وهذا مما يغري بالميل إلى الفكرة القائلة بحركة الأجسام والإشارات الصدارة منها والتي يلتقطها جانب ثان) فالتمثيل بمحطات الإرسال ومحطات الاستقبال هنا تمثيل مقبول لتقريب التصور وسهولة التشبيه، ولا مانع من اتصال النفوس على البعد وهي تتصل على القرب اتصالاً لاشك فيه، فإذا اتفق أن نفسين توجهتا كلتاهما إلى الأخرى - في وقت واحد فذلك أحرى بتوافق الشعور وتوافق الخاطر، والجزم بإمكان هذا اصح من الجزم بامتناعه إذا لم يكن بد من أحد الأمرين يحدث كثيراً - كثيراً جداً - بين الصديقين المتفاهمين أن يطيلا الجلوس معاً صامتين، ثم يعودا إلى الحديث فجأة فإذا هما يطرقان موضوعاً واحداً أو يسألان عن شئ واحد. ولو كان هذا الموضوع على اتصال بما كانا يتكلمان فيه قبل ذلك لقلت الغرابة في اتفاقها عليه بعد صمت طويل، ولكنه يكون أحياناً بمعزل عن كل موضوع طرقاه ذلك اليوم فما تعليل ذلك؟ تعليله تقارب الشعور والتفكير، وهما لا يتقاربان هنا بأداة مادية حتى يقال بالفرق بين حصوله في حجرة واحدة وحصوله على مسافة أميال فإنكار هذا الاتصال أصعب من إثباته، والقول بإمكانه قول تعززه احتمالات قوية ومشابهات مألوفة وروايات متواترة، ولا يقف أمامها من ناحية النفي إلا مجرد الإنكار أو سوء فهم الواقعيات والماديات وقد وصلنا في زماننا بالماديات إلى حدود الروحيات، فانتقلنا بها من هذه الأجسام التي تلمس وتدرك بالحس إلى الذرات، ثم إلى الطاقة، ثم إلى الإشعاع الذي يدركه الفكر ولا تمسكه الحواس؛ فمن الحيطة أن نقل من الإنكار بعد أن أسرفنا فيه، وقد جاء زمان كان الإنكار فيه حسنا بعد إفراط الناس في الإثبات، فهل تدور الآن دورة من تلك الدورات الفكرية المعهودة فنسرف في القبول بعد إسرافنا في الإنكار؟ لا هذا ولا ذاك بالحسن المأمون، وإنما الحسن المأمون أن نأخذ بدليل ونرفض بدليل، وإن نعلم أن العجائب في الدنيا لا تنتهي فلا نغلق على أنفسنا بابها مختارين. عباس محمود العقاد