مجلة الرسالة/العدد 494/دار الهوى
مجلة الرسالة/العدد 494/دار الهوى
في عيد القمر
للدكتور زكي مبارك
أخي الأستاذ الزيات
هل تذكر أني وجهت إليك مقالاً من بغداد عن (القلب الغريب في ليلة عيد) منذ نحو أربع سنين؟ وهل تذكر أني تشوقت إلى دار تحب العيد وتحن إليه لأنها تراني مع العيد؟
ذلك مقال قبسته من نار قلبي، وأخذت مداده من دمي، وأرسلته تحية إلى دار عظمت ديونها على قلمي
وإنما وجهت إليك ذلك المقال لأثير في روحك التشوف إلى تعليل ما تعاني الأرواح من متاعب ليس لها في الظاهر سناد من مطالب المجد في هذا الوجود
فهل فكرت في تعليل هذا المعنى؟
وهل حاولت الدفاع عن الأعمار التي تضيع في تشريح نوازع الوجدان؟
أنا أطالبك بالرجوع إلى الوجدانيات، بجانب ما أقبلت عليه من الاجتماعيات، فقد كاد الأدب يخلو من الحديث عن أوطار الأرواح والقلوب ولا قيمة للأدب إن اغفل الحديث عن أوطار الأرواح والقلوب
واليك القصة آلاتية:
في حفلة من حفلات إحدى الطوائف المسيحية تسابق الحاضرون لتقبيل يد البطريرك، فرايته ينهض بقوة ليعانق من يسارعون إلى التسليم عليه، مع أنه فيما سمعت قد جاوز التسعين
وعندئذ غلبني الفكر الفلسفي فقلت لجاري في المحفل: إن راحة رجال الدين من هموم الحياة تمنحهم طول الصحة والعافية
فقال جاري بتحمس: كيف ترى ذلك وغبطة البطريرك يحمل هموم الطائفة كلها، ويعني نفسه بالدقائق الخفية لجميع البيوت؟
فقلت: المتاعب الفردية اعنف من المتاعب العمومية، فالرجل الذي يحمل هموم بيت يعد أهله بالآحاد أشقى من الرجل الذي يحمل هموم طائفة يعد أبناؤها بالألوف أو الملايين.
وهل يحزن وزير المعارف لسوء نتائج الامتحانات العمومية بقدر ما يحزن لو رسب ابنه في الامتحان؟
إحساسنا الصادق يصدر عن متاعبنا الذاتية أولاً وقبل كل شئ، ثم يتفرع فيتصل بالمجتمع القريب أو البعيد، وهل بكى النبي محمد لوفاة أي طفل كما بكى لوفاة ابنه إبراهيم؟
وإذن يكون من حقي أن أقول إن الأدب الذي يصور الذاتيات هو اصدق الآداب، وهو الآية الباقية على الصدق الأصيل، فمن الجناية على الأدب أن نشغل أقلامنا بهموم خارجية قبل أن نستوفي التعبير عن همومنا الداخلية
للمجتمع حقوق على القلم البليغ، يوم يتأثر الكاتب بتلك الحقوق، ويوم يرى أنه عن تأييدها مسؤول أمام الضمير الأدبي لا أمام الناس
وأنت ذلك الكاتب، يا صديقي، فاتجاهاتك الاجتماعية تشهد بأنك تحس آلام المجتمع اصدق إحساس، وسيكون لك في هذا الميدان مكان يحفظه التاريخ
وأنا ارتضي لنفسي ما ارتضي لك، لولا تلك الدار التي أسرت قلبي عدداً من السني، ولم استطع التحرر من أسرها بأي جهاد
إن تاب الله علي من الهيام بتلك الدار فسأجاريك في ميدانك، وسيطول بيني وبينك السجال، ولكني أرى الله اكرم من أن يجود بذلك المتاب، لأن نعمته علي في هذه الضلالة اعظم من نعمته بالهداية على من يغضون أبصارهم عن سحر الجمال
وهل كان من العبث أن يتفضل الله فينوع الخلائق بهذا الوجود؟
إنه نوع الخلائق لينوع العواطف
هل تذكر ما تصنع النسائم بالسحاب والرمال؟
رأيت بالأمس عجباً من العجب: رأيت سحباً مطرزة بسماء (مصر الجديدة) على اظرف ما يكون التطريز. وبدأ لي أن أجوب الصحراء في ذلك الوقت فرأيت النسائم صنعت بالرمال ذلك الصنيع
أيعجز قلم الكاتب الصوال عما يقدر عليه النسيم الجوال؟
النسيم يبعث، وما وصف النسيم بغير العبث، ثم تكون له القدرة على هذا الافتنان، فكيف نعجز في الجد عما استطاعه النسيم في الهزل؟ الدار التي أهوى تضلني وتغلي عقلي بأوثق الأغلال
الدار التي أهوى تصنع بقلبي فوق ما تصنع النسائم العوابث بالسحائب والرمال
الدار التي أهوى حرمت أضواء المصابيح أكثر من شهرين، إلى معاد، أو إلى غير معاد، فما أدري ما تضمر الأقدار لمصاير ذلك الهوى النبيل، ولا أعرف متى نلتقي طائعين أو كارهين
كلَّ يومٍ لنا عتابٌ جديدٌ ... ينقضي دهرنا ونحنِ غضابُ
إن تلاقينا - ومتى التلاقي - فستكون لنا شؤون وشجون
إن عادت الدار إلى العهد الذي أعرف فساكون من الحجاج في العام المقبل، وسأنفق جميع أموالي على الفقراء والمساكين.
ثم ماذا؟
ثم أقص على الأستاذ الزيات هذا الحديث:
في صباح اليوم وأنا في طريقي إلى الواجب قرأت في إحدى الجرائد أن المحكمة الشرعية أعلنت أن شهر ذي الحجة يبتدئ بيوم الأربعاء، فعرفت أنني حرمت رؤية الهلال ثلاث ليال. ثم خف حزني حين تذكرت أن القمر غاب عن تلك الدار أكثر من شهرين
ما هذه اللجاجة في الحب؟
وما الطمع في كرم الزمان البخيل؟
ارجعوا إلى الدار، دار الهوى، قبل أن تسمعوا من نذير الأقدار ما لا تحبون
ارجعوا إلى دار الهوى في عيد القمر غير مأمورين
ارجعوا، فللدار التي شهدت مولد هوانا حقوق
ارجعوا، فالفضيحة في غرامي تكريم وتشريف، لأني قيثارة الغرام في الحان الخلود
عيد القمر آت بعد ليال، فهل أراكم في غرة تلك الليال؟
القمر يفي، فهل تفون؟
القمر يساير الفصول من شتاء وربيع وصيف وخريف، فهل تسايرون أحوالي من نزق وطيش وقرار وجمود؟
أنا أنا، فهل انتم انتم؟ لقد صبرت وصابرت لتشهد أحجار تلك الدار أن لها بقايا من الوفاء التي تدخره كرام القلوب
سينطق الحجر قبل أن تنطقوا، ولقد نطق فحياني ألوف المرات وانتم في غيابة العقوق
وماذا تنتظر مني تلك الأحجار؟
أنها ترجو مني ما أرجو منكم، ترجو سلاماً من عابر سبيل، وانتم هددتم وتوعدتم بأن لا لقاء في غير الفضاء
عودوا إلى الدار، دار الهوى، عودوا إليها سالمين غانمين، فأني اعد لكم قتالاً الطف وارفق من السلام
عودوا إلى الدار في عيد القمر، وهو آت بعد ليال
عودوا إلي فما قلبي بمصطبر ... على نواكم ولا في العمر متسعُ
إن متُّ قبل لقاكم أو فقدتكمُ ... قبل الممات فحظي عاثرٌ ظَلِعُ
أنا في انتظار القمر بعيد القمر، فهل يعود مع العيد؟ وهل اشهد كلف جبينه وهو غضبان؟
عودوا إلى الدار لا إلي، فقد كادت أحجارها تذوب من نار الاشتياق
يا غاضبين علينا كيف حالكمُ ... وكيف دارٌ بها للروح مرتَبَعُ
دارٌ جَلَوْنا بها حيناً سرائرنا ... كأن أيامها في صَفْوها جُمَعُ
لمُ يغدق الله فضلاً فاق نعمتهُ ... بوصل روحي بكم والشمل مجتمعُ
أما بعد فما رأي صديقي الزيات في هذا الحديث؟ وهل يراني في ضلال وأنا أناجيه بما لا يريد بعد أن هجر صديقه لامرتين؟
حال العين حال القلب، وللعيون والقلوب أحوال
وقد أشار طبيبي بنظارة تمنع التشرد من أضواء عيني، فمتى يشير طبيبي بنظارة تمنع التشرد من أضواء قلبي؟
لن يكون لقلبي حدود. لن تكون تلك الحدود ولن تكون، وسيعجز الطب عن جمع الأشعة من أنوار القلوب
متى نلتقي يا دار هواي؟ متى؟
عيد القمر آتٍ بعد ليال، فهل نتقاتل بعد ليال؟ زكي مبارك